في خطوة أشبه بحركة الضفدع، قفز فؤاد سراج الدين بحزبه إلى خارج دائرة الحرب الإعلامية التي تعرض لها الوفد في الشهور الماضية وشاركت فيها أطراف من خارج الحزب ومن داخله، ليحقق رئيس الوفد نتائج دعائية وتنظيمية متداخلة، من خلال تطور غير مسبوق على مستوى الحياة الحزبية المعاصرة في مصر، بعقد جمعيتين عموميتين مؤتمر عام الحزب في أقل من نهار واحد الجمعة الماضي الأولى عادية، والثانية غير عادية، بعد التحضير لهما حوالي الشهر. وحصيلة نتائج الجمعيتين العموميتين رسالة لا تلتبس مفرداتها على كل من يهمه الأمر، ومفادها أن فؤاد سراج الدين 86 عاماً لا يزال زعيم الوفد بلا منافس والرجل الأقوى بلا منازع في تقرير سياسات الحزب ومواقفه وإدارة شؤونه الداخلية، مثلما كان دائما منذ تأسيسه عام 1978 حتى اليوم. ذلك أن الجمعية العمومية الطارئة وافقت على توسيع سلطات سراج الدين وتعزيز صلاحياته الحزبية الاستثنائية. فأصبح من حقه "تعيين" عشرين عضوا وضمهم إلى أعلى هيئة قيادية منتخبة 40 عضوا هي الهيئة العليا للوفد. وفي حال خلو أي مقعد فيها، تختار الهيئة من يحل محله بناء على تزكية سراج الدين. ويشار إلى أن الجمعية العمومية الطارئة السابقة 1994 كانت انتخبت سراج الدين رئيسا للحزب مدى الحياة وقررت حقه في تعيين هيئة المكتب التنفيذي للحزب نواب الرئيس والأمين العام وأكثر من أمين عام مساعد بتسميتهم وعرض ذلك على الهيئة العليا التي عليها أن تقبل أو ترفض العرض ككل. وفي حال الرفض يتقدم سراج الدين بتسمية أخرى. وهكذا إلى أن توافق الهيئة. إلى ذلك وافقت الجمعية العمومية العادية 900 عضو على التقريرين السياسي والمالي لرئيس الحزب وانتخبت 40 عضوا للهيئة العليا. أما الجمعية غير العادية فوافقت على تغيير اسمها إلى "الهيئة الوفدية" استمراراً لتقليد سابق في حزب الوفد القديم قبل ثورة 1952، ووافقت أيضاً على تمديد دورة الهيئة العليا إلى خمس سنوات بدلا من ثلاث، وجواز تجديد العضوية دورة أخرى. ويلاحظ أن الانتخابات لم تسفر عن مفاجآت كبيرة تنذر بتطورات حزبية ملتهبة، ذلك أن قائمة الپ20 الذين عينهم رئيس الحزب في الهيئة العليا، ضمت عدداً من القيادات التي كانت طرفاً في "خناقات" حزبية وسياسية ساخنة قبل شهرين من انعقاد الجمعية العمومية، وكان سببها محاولة كل طرف التحضير لخلافة رئيس الحزب في حال اذا ما تعرض لأزمة صحية جديدة. ومن خلال هذا التعيين حقق سراج الدين بعض التوازن والمواءمة مع قائمة المنتخبين التي جاءت غالبيتها لمصلحة تعزيز نفوذ نعمان جمعة نائب رئيس الحزب الذي هيمن على عملية التحضير للجمعية العمومية تنظيميا من جهة، اضافة الى انه احد الأقطاب المتنافسين على رئاسة الحزب في حال غياب زعيمه الحالي. الأرمة الصامتة وتكشف هذه التطورات "الوفدية" الأزمة الصامتة بين زعيم الحزب وأعضاء قيادته العليا. وهي أزمة متعددة الجوانب يمر بها حزب الوفد منذ وقت غير قصير. وتتجسد الأزمة في: - الصورة العامة للوفد توحي بأن الغلبة في قيادته يستأثر بها الشيوخ. وهو جيل في طريقه إلى أن يخلي الساحة لغيره. لكن الطرف الذي يفترض ان يخلفه ليس موجوداً، خصوصاً وسط شباب الوفد. صحيح أن زعيم الوفد يتمتع بغريزة سياسية مرهفة وبخبرة فائقة في فن المناورة الحزبية. وصحيح أيضا أن اجمالي نتائج الجمعية العمومية توافقت مع مقتضيات الحال العمرية والصحية لزعيم الحزب. وانها توافقت - كذلك - مع ضرورات الحاجة إلى "تبريد" تنافس قياداته في الصراع الذي تتصاعد سخونته كلما تجدد السؤال عن الفراغ الضخم الذي سينجم عن غياب الزعيم. وهي مسألة يستنكرها رئيس الحزب ناعتا إياها "بعدم اللياقة". لكن توسيع سلطات الزعيم بالكيفية التي عززتها الجمعية العمومية من جهة، واستنكاره السؤال عن مرحلة ما بعد غيابه من الجهة الثانية، لا يعني مطلقاً ان الحزب لا يعاني من أزمة رئاسة مقبلة. وإذا كانت شخصية الباشا فؤاد سراج الدين الكاريزمية وحدّت كثيراً من التناقضات الداخلية، فما هو العامل أو الشخص - بعد غياب الزعيم - الذي يمكن أن يحقق وحدة العمل والسياسة داخل الحزب؟ ليس سراً أن بعض الدوائر الحزبية السياسية الأخرى - خصوصاً في الحزب الوطني الحاكم - تذهب إلى أن رموزاً بعينها من قواعد الوفد يمكن أن تكون احتياطاً في حال غياب الزعيم. ولا يستبعد بعضها ألا يبقى الوفد حزباً موحداً. - يحرص الوفد على أن يعبر عن مواقفه السياسية دائماً من منطلقات ليبيرالية لا يستطيع اسقاطها من دون أن يسيء الى مبرر وجوده. خصوصاً أنه أعاد طرح نفسه رمزاً للديموقراطية إبان النصف الثاني من السبعينات في اعقاب انتقادات جسيمة وجهت الى سلبيات تجربة ثورة 1952، خصوصاً في مجال الديموقراطية وحقوق الانسان. لكن كثيرا من مشاهد الممارسات والمواقف العملية لقيادة الوفد لم تتسق مع هذا الطرح. ومن تلك المشاهد أن زعيم الوفد لم يعترض على انتخابه رئيسا للحزب مدى الحياة، وينفرد بحق تعيين نائبه أو نوابه والأمين العام والأمناء المساعدين وبقية أعضاء هيئة المكتب التنفيذي للحزب. ومحاسبة مسؤولي الحزب الى حد الفصل بقرار منه. ومنع أي قيادي وفدي من الادلاء بتصريح أو حديث للصحافة قبل مراجعة رئيس الحزب، وتسمية صاحب المقعد الذي يخلو في أعلى هيئة قيادية الهيئة العليا. في حين يطالب حزب الوفد في كل فرصة تتاح للحديث عن مقومات الحكم بتعديل المادة الدستورية التي تجيز انتخاب رئيس الجمهورية لأكثر من ولايتين. ويطالب بانتخاب نائب لرئيس الجمهورية حتى لا يختار بالتعيين كما يقضي الدستور الحالي. ويطالب بتعديل المادة التي تمنح رئيس الجمهورية سلطات واسعة، ومنح مجلس الشعب حق سحب الثقة من الحكومة. أي أن مركز الثقل في المشروع السياسي المعلن للحزب هو الاصلاحات الديموقراطية. لكن ممارسات الحزب الداخلية لا تتطابق مع هذه الاصلاحات المطلوبة. ومن تلك المشاهد، كمثال آخر، يتذكر المراقبون أن حزب الوفد أبدى فزعا فائقا من تجدد نشاط الناصريين في النصف الثاني من الثمانينات. وشنت صحيفة معارضة حملة ضد سعي الناصريين إلى تأسيس حزبهم. وتوالت وقتها حملة عبر "المانشيتات العريضة" منها "دقت طبول الناصريين وأناشيدهم القديمة" و"تجمعات تثير التكهنات والتساؤلات" و"الناصريون يزحفون" وغير ذلك. ومع أن الوفد نفى أنه يعارض رفع العزل السياسي عن قيادات سياسية، إلا أنه عاد وأكد من خلال صحيفته "أن هذه التطورات أي السماح للناصريين بالعمل لتأسيس حزبهم يمكن أن تنعكس بأشد الاضرار على الوضع الاقتصادي". وهو الامر الذي اثار وقتها في مختلف الدوائر السياسية تساؤلات حقيقية عمّا إذا كانت رغبة الوفد في تصفية حساباته الثأرية مع ثورة 1952 قد طغت على التزامه المعلن بالمنطلقات الليبرالية التي من أهمها حق القوى السياسية في تأسيس أحزابها. - عندما عاود حزب الوفد نشاطه السياسي العام 1983، بدا وكأنه جاء لينافس بقوة على الحكم. اذ سرعان ما انضم إليه عشرة من نواب مجلس الشعب وقتها منهم أربعة من الحزب الوطني الحاكم. وتردد آنذاك ان الحزب تلقى أكثر من 40 طلباً للانتساب من قيادات الحزب الوطني. وعزز ذلك ظهور زعيم الوفد باستمرار بمظهر من يستند إلى حزب يؤمن بأنه الحزب القومي للبلاد. ومع مضي الوقت تبين أن الوضع الجديد الذي نشأ بعد ثورة 1952 أدى إلى تآكل كثير من القوى الاجتماعية المؤثرة التي كان يستند إليها حزب الوفد القديم. اذ أن قسماً كبيراً من العائلات المقتدرة أو ذوي النفوذ المالي والاقتصادي الذين يحددون اختياراتهم السياسية في النهاية في ضوء مصالحهم الشخصية، تحوّل إلى الحزب الوطني. كما أن الفئات العليا والوسطى من المهنيين التي كانت تلعب دور العصب الحيوي لنشاط الوفد قبل 1952 تتوزع الآن على أحزاب وتيارات شتى. هكذا أضحت التركيبة الاجتماعية للوفد - خصوصاً قيادته المؤثرة التي تعبر عن مصالح كبار التجار والماليين والمهنيين وأعيان الريف - لا تجعله متميزا عن غيره من احزاب اخرى. والأهم أن ممارسات هذه التركيبة الاجتماعية طمست سمات الليبيرالية التي كان على الدوام يعبر عنها. فقلّت حيوية حضوره وثقله. وهي الصفات التي كانت تميزه في الحكم وفي المعارضة - على حد سواء - في الماضي. وكلما حاول الوفد استعادة صورته القديمة عندما كان "بيت العائلة الكبيرة" لغالبية الطبقات، دفعت التطورات الاجتماعية والسياسية الجديدة مثل هذه المحاولة في طريق مسدود. وهكذا انتهى الأمر إلى ما يشبه أزمة هوّية باتت تمثل أحد أهم مكامن الخطر أمام مستقبله. الطليعة الوفدية أزمة الوفد اذن، أعمق بكثير من مجرد معالجة صراعات ومشكلات حزبية بجمعيتين عموميتين في نهار واحد، رغم ما تمثله هذه المعالجة من أهمية من الناحية الحزبية، وعلى رغم أن هذه هي نفسها مشكلات الصراع التي تعاني منها تقريبا معظم الاحزاب الاخرى. والواقع أن حزب الوفد الجديد يواجه المشكلات السياسية والبنيوية نفسها التي واجهها الوفد القديم في الاربعينات. والمعروف ان الوفد القديم انبثق من اندلاع وتطور احدى أهم الثورات الوطنية المصرية ثورة 1919، وكانت له رسالة محددة هي: الحرية والاستقلال في اطار نظام ملكي. وقد بدأت الحركة الوطنية في تجاوز الوفد القديم بمراحل منذ الاربعينات. وهو الامر الذي انعكس داخل الوفد القديم نفسه ببروز تيار شاب باسم "الطليعة الوفدية". ومع انتهاء رسالة الحرية والاستقلال بعد ثورة 1952، تأسس حزب الوفد الجديد 1978 وبدا كأنه لم يستوعب التغيرات العميقة التي أحدثها الزمن في مصر، وأدت ضمن ما أدت إلى انقطاع غائر وواسع في تواصل تيار الليبيرالية المصرية، خصوصاً مع غياب غالبية رموزها الذين التحقوا بها من خلال مشاركتهم العملية النشطة في زخم الحياة السياسية العريضة قبل الثورة، بتظاهراتها الصاخبة وانتخاباتها ومعتقلاتها. والمؤسف أن هذا التيار انحصر في عدد من المثقفين الباحثين والجامعيين الذين مارسوا أو يمارسون الليبيرالية في قلاع الكتب ودراسات الدساتير وفي بعض المؤسسات الدولية. لكن غالبيتهم لا تفوز في أي انتخابات. ومن السابق لأوانه التكهن بما إذا كان هذا التيار الذي انحسر سيبرز من أتون التحولات الكبرى التي جرت أخيرا باتجاه انبعاث دور القطاع الخاص واقتصاديات السوق. وما إذا كان سينطلق من المنطلقات الفكرية التقليدية لمساره. وإذا صح أن هذه بعض الأسئلة التي قد يجيب عنها المستقبل القريب، فالثابت حتى الآن أن الدور الذي من المفترض أن يلعبه حزب الوفد الجديد في بلورة وتنمية هذا التيار يلفه كثير من الغموض، خصوصاً في ظل أزمة الزعامة التي سيعانيها بشدة في حال غياب زعيمه الحالي، وفي ظل تآكل الهوية التي ميزته، والتي بدت معالم أزمتها تتضح منذ فترة ليست قريبة.