مصر الآن في عام الانتخابات البرلمانية، وبدأ مجلس الشعب يوم 12 تشرين الثاني نوفمبر دور الانعقاد الاخير في مدته تشرين الأول - اكتوبر 1990 حتى الآن وبعدها يبدأ الاستعداد للانتخابات الاشتراعية الجديدة. المساحة الزمنية من الآن وحتى هذه الانتخابات مساحة مفضلة للمناورات السياسية والتحالفات التكتيكية الانتخابية. نظام الانتخابات بالدوائر الفردية او القوائم ما زال محل جدل ونقاش. والرئيس مبارك يستبق الموسم التشريعي بالغاء بعض القوانين المقيدة للحريات والتي عرفت ابان عهد الرئيس السادات بالقوانين سيئة السمعة. أداء الاحزاب السياسية المصرية 13 حزباً بما فيها الحزب الحاكم محل جدل عام. هل نجحت هذه الاحزاب - منذ نشأة أولها في 1976/11/11 - في ترك بصمة سياسية حقيقية على حياة الناس في بر مصر؟ ما هو مستقبل الحياة الحزبية في مصر في ضوء مستويات المشاركة السياسية الحالية؟ وما هي الشروط التي يتمترس خلفها كل طرف في هذه الحياة الحزبية كي تعيش مصر في ظل تعددية كاملة؟ ثم ما هي اخيراً مستويات الديموقراطية الداخلية في هذه الاحزاب المصرية والتي تشكل مواقفها الحقيقية تجاه الاحداث والقضايا المطروحة بقوة في الشارع؟ من اجل هذا كله عقدت "الوسط" حلقة نقاش موسعة حول كل تلك القضايا ننشرها على اربع حلقات... وهنا نص الحلقة الاولى. "الوسط": نشكر استجابتكم لدعوة "الوسط" للمشاركة في هذه الندوة، كممثلين لتيارات فكرية بالأساس. واذا كان من المناسب ان نبدأ بمحاولة تفسير ضعف أداء الاحزاب المصرية، فثمة سؤال ضروري عما اذا كان هذا الضعف لصيقاً بالحالة المصرية بشكل خاص، ام انه مرتبط بظواهر دولية جديدة مثل ثورة الاتصالات التي يعتقد بأنها تخلق أنماطاً مستحدثة للعمل السياسي قد يتراجع في ظلها دور الاحزاب؟ ويثير ذلك بالضرورة مسألة دور الاحزاب في المجتمع الحديث، وموضوع الثقافة السياسية وعلاقته بالعمل الحزبي. مصطفى الفقي: نعم اعتقد ان العالم يدخل الآن مرحلة يتراجع فيها دور الحزب السياسي. فإذا كان الشكل التقليدي للنظم السياسية في نهاية القرن الماضي وخلال هذا القرن يقوم على الحزب السياسي، إلا أن ما حدث في العالم في العقود الثلاثة الاخيرة أدى الى تراجع أهمية دور الوسيط. فإذا كان الحزب السياسي مجموعة من الأفراد يهدفون، وفقاً لبرنامج معين، للوصول الى السلطة، فلم يعد لدور هذا الوسيط الحجم والفاعلية نفسيهما حينما كان الحزب هو الوسيط بين الشارع ومقاعد السلطة او البرلمان. لكن الذي حدث هو اننا انتقلنا في العالم كله من فكرة التعبئة الى فكرة التنمية. فلم تعد القضية المطروحة في العالم هي إمكان الحشد، ونظرية التعبئة التي تعني كيف تحشد الجماهير من أجل قضية كفاحية معينة. ووصل هذا النهج الى ذروته في الخمسينات والستينات. لكنه بدأ يخفت في المنطقة العربية مترافقاً مع خفوت مماثل في مناطق اخرى من العالم. وشاع بين الناس - عن حق أو عن باطل - ان التنمية هي قضيتهم الأولى، وأنها برنامج قومي شامل لا يتبناه بالضرورة حزب. وبالتالي لم تعد فكرة التعبئة هي الفكرة المطلوبة، خصوصاً بعد ان حققت حركة التحرر نجاحات حاسمة. ودخلنا مرحلة اخرى هي مرحلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية بدلاً من مرحلة النضال من اجل شعارات تحررية او قومية. والأمر الثاني في نظري ايضاً هو اختفاء او قلة الاعتماد على نظرية "الكاريزما" السياسية، واختفاء القيادات التاريخية في عدد كبير من دول العالم التي ارتبط وجودها بأحزاب سياسية مؤثرة، ففي معظم البلدان، خصوصاً في الجنوب الذي ننتمي اليه، كانت الاحزاب السياسية تدور حول شخص او رمز في نهاية الستينات والسبعينات. لكن لم يعد هناك ديغول ولا ماوتسي تونغ ولا حتى نهرو ولا جمال عبد الناصر ولا نكروما. فالعالم يتجه الى مرحلة الزعامة المتوسطة الحجم المباشرة التأثير والتي لا تملك رصيداً تاريخياً يجعل لها في نظر الجماهير "الكريزما" التي تميزت بها تلك الزعامات. وترتب على ذلك ان فكرة الحزب السياسي بدأت تضعف. ومن ناحية اخرى، ادى الانفتاح الاعلامي بين دول العالم وثورة المعلومات الى اقترابنا من مرحلة المواطن العالمي. فالمواطن لم يعد حتى مواطناً قومياً، ناهيك عن ان يكون مواطناً حزبياً. وبدأ يقترب من ان يكون مواطناً عالمياً. ودعوني أذكر بأن الفارق الآن بين الطفل المصري مثلاً والطفل في الدول الغربية أقل بكثير من الاهتمامات العقلية والفكرية ودرجة الإدراك، من ذلك الفارق الذي كان بيننا ونحن أطفال وبين أطفال تلك الدول. نحن نقترب من فكرة المواطن العالمي الذي يخرج انتماؤه من إطار القومية الى إطار العالمية، فما بالنا بإطار اقل وهو الانتماء الحزبي. وهذا يؤكد في تصوري ان مفهوم الحزب السياسي اختلف، وان دوره تراجع الى حد كبير وحلت محله جماعات ضغط، وقوى ومصالح، وأحياناً - واسمحوا لي في هذا التجاوز - قوى خفية تحرك السياسات بشكل مختلف. وهي تعبر عن تشابك في المصالح بين قوى في السلطة وقوى خارجها، إذن التركيبة اصبحت في غاية التعقيد، ولذلك من الصعب ان تجد الحاكم الوطني مطلق الحرية والحركة، مثلما رأينا في النماذج الباهرة، ومنها جمال عبد الناصر مثلاً. ولذلك فأنا من الذين يعتقدون بأن دور الحزب السياسي - مع الأسف - يختلف ويتقلص وقد يتوارى. وإذا أردنا تطبيق هذا على الواقع الحزبي المصري فأول ما نلاحظه هو مشكلة ضعف الكوادر السياسية. فحين ضُربت تجربة عبد الناصر ضُربت معها كل ايجابياتها. وفي مقدمتها مفهوم التربية السياسية. صحيح اننا ضد فكرة ما كنا نسميه منظمة الشباب في ذلك الوقت، وما أدت اليه من قولبة الناس في أطر محددة، لكن - مع الأسف - الخطيئة التي وقعنا فيها هي أننا لم نأت ببديل، ولذلك لا زلنا نعيش على بقايا الماضي. كل القيادات الموجودة في الاحزاب هي قيادات معترف بها قبل المرحلة التعددية وليست نتاجاً لهذه المرحلة، ولا أتصور ما الذي سيحدث بعد 20 أو 30 سنة، ما هو المحك الذي سيصنع القيادات، وما هي الأطر التي يمكن من خلالها ان نحدد كيفية وصولها الى مقاعد العمل العام؟ فالموضوع مقلق للغاية، والتربية السياسية في مصر ضعيفة جداً، حتى بالمقارنة مع بعض الدول العربية. لكن يمكن القول بأن ظاهرة الشارع السياسي انتهت في العالم العربي. من منا كان يتصور ان يحدث في العالم العربي ما يحدث الآن والكل في حالة صمت. ففي فترة سابقة كان أصغر حادث في اي بلد عربي يحرك الشارع العربي كله. اسرائيل اجتاحت لبنان، ونشبت حرب اهلية في اليمن، وغزا العراقالكويت، وحدثت تغيرات هائلة، بينما الشارع العربي لا وجود له، وما يقلقني ايضاً هو ان الاحزاب السياسية القائمة تعتمد على مرجعيات تاريخية لفترات زمنية معينة، وقد يكون هذا أمراً طبيعياً، لكنها في الوقت نفسه لا تملك في مجملها تصوراً كاملاً للمستقبل. عندنا ايضاً مشكلة تاريخية في مصر، فالشعب المصري من الشعوب التي لم يذكر لها تاريخياً فكرة الانضباط التنظيمي والانضواء تحت حزب سياسي. وحتى التجربة الوحيدة في تاريخنا، وهي تجربة الوفد 1919 - 1952 التي تحرك فيها الشارع وراء حزب سياسي، كان هذا الحزب فضفاضاً تيارات متعددة من أقصى اليمين الى أقصى اليسار. لكن لم تعرف مصر نمط الاحزاب عالية التنظيم التي شهدناها حتى في المشرق العربي، مثل حزب البعث. فعلى رغم كل ملاحظاتنا على إطاره الفكري والنظري، إنما كانت لديه درجة من درجات الانضباط الحزبي والتنظيمي سمحت له بالسيطرة على قطاعات كبيرة. لم يحدث هذا في مصر، فمثلاً "الحزب الوطني" بشعبيته القديمة كان مقصوراً على نخبة معينة من المثقفين او من المتحمسين الوطنيين. وكان حزب "الوفد" مثل الثوب الفضفاض كما سُمي، يضم أطراً مختلفة وتوجهات متباينة، تلتقي كلها تحت راية الوحدة الوطنية والدعوة الى التحرر والجلاء. لقد فشلنا في مصر - ويجب ان نعترف - في توظيف الحياة الديموقراطية لخدمة أهدافنا المختلفة. أنظر الى اسرائيل على الجانب الآخر، لقد استطاعت ببراعة توظيف الحياة الديموقراطية لخدمة السياسة الخارجية. فأنا لا اعتقد بأن هناك اختلافات جذرية بين الليكود والعمل ... أما في مصر فقد عجزنا عن الربط بين الديموقراطية وبين السياسة الخارجية حتى الآن. ولذلك انا ممن يشعرون بأن الحياة الحزبية في مصر مهددة في مستقبلها ما لم تتمكن من خلق كوادر، وما لم تتمكن برامج الاحزاب من تجاوز الماضي فضلاً عن الحاضر للوصول الى المستقبل. لقد كنت أتصور ان يكون في مصر حزب عروبي الاتجاه وحزب مصري او حتى فرعوني، يعني مثل العمال والمحافظين في بريطانيا. وهي تجربة عايشتها في صدر شبابي ورأيت ان بعضهم كان متحمساً للوحدة الاوروبية والانضمام للجماعة الاوروبية، والبعض الآخر درجة حماسته اقل، والعمال كانت ارتباطاتهم بالولاياتالمتحدة اكثر من المحافظين. أين هذا في مصر؟ عروبة وفرعونية * "الوسط": الأصل في الفارق بين المحافظين والعمال هو تباين في الارتباط بمصالح، ولكن التيار العروبي والتيار الفرعوني او المصري هما تياران فكريان بعيدان عن حقل المصالح المباشرة. - مصطفى الفقي: عندما أتحدث عن تيار عروبي، لا أقصد تياراً عاطفياً. فأنا ممن يؤمنون بأن ارتباط مصر بالعالم العربي جزء من مصلحتها الوطنية المباشرة. فهذا هو مجالها الحيوي كدولة رائدة في المنطقة، وهي ليست قضية عاطفية. ويمكن ان يتحدث آخرون بمنطق مختلف، فيقولون مثلاً إننا فراعنة او بحر متوسطيون، وعندنا ذاتية مصرية، كامتداد لحركة التغريب التي ظهرت في اوائل هذا القرن وتولاها مثقفون مثل طه حسين وأحمد لطفي السيد وسلامة موسى. كانوا يرون مستقبل مصر ثقافياً وسياسياً في الارتباط بالبحر المتوسط والغرب. وهذا ليس اطاراً فكرياً مجرداً، وانما هو اطار فكري يرتبط بمصلحة مصر مستقبلاً من وجهة نظرهم. أما الواقع الراهن فهو ان برامج الاحزاب كلها متقاربة، وأتحدى ان يكون اي حزب اخذ موقفاً محدداً من القضية القومية، سواء سلباً ام ايجاباً. وأتحدى ان يكون حزب استطاع تحديد شكل من اشكال العلاقة بالدين بشكل حاسم، وحتى عندما يفعل اليسار ذلك في حزب التجمع، يأتي ضمن إطار القبول العام بمعطيات تاريخية. * "الوسط": على هذا النحو، وفي إطار توصيفكم للواقع الحالي للحياة الحزبية المصرية، واذا كان النظام الحزبي هو أنماط للتفاعلات السياسية بين أحزاب موجودة، فما هي في تصورك المعالم المحددة للنظام الحزبي؟ - مصطفى الفقي: بداية انا لا أدافع عن وجهة نظر ضد الاحزاب، وإنما أتكلم من وجهة نظر مصرية مع الاحزاب. وأتمنى لو كانت الاحزاب في وضع افضل مما هي عليه الآن. لكننا نرى الواقع في مختلف الاحزاب، حيث الصحف تسبق الكوادر، والإعلام الاحزاب، حيث الصحف تسبق الكوادر، والإعلام الحزبي يتجاوز المضمون السياسي. لكني أعرف ايضاً ان الاحزاب ليست حرة الحركة تماماً. يعني لم يُتح لها كل ما تريد، فتوقفت هي عما تريد، ومع ذلك فأنا ممن يؤمنون ايضاً بأن ما لا يدرك كله لا يترك كله. فالحياة السياسية هي فن الممكن وتحدي القائم. ولذلك كنت اشعر بضيق شديد جداً عندما يأخذ حزب بتاريخه الكبير مثل حزب الوفد او الناصريين موقفاً سلبياً من أية قضية مطروحة او يلجأ للانسحاب او المقاطعة. فالأصل هو ان توجد، وان تسجل مواقفك، وليس بالضرورة ان تتحول هذه المواقف الى سياسة للتنفيذ. وأدرك تماماً المعوقات السياسية والدستورية والقانونية القائمة. ولكن الحياة السياسية هي نضال من أجل التغيير الى الافضل. والأصل في الحزب السياسي انه يناضل، ليس بالضرورة للوصول الى السلطة فقط، وإنما لتغيير شكل ما هو قائم الى الافضل. واعتقد بأن القضية الآن هي قضية عجز النظام السياسي كله بأحزابه ومؤسساته عن تطوير نفسه وفقاً لعصر مختلف حولنا وإقليم يتحول وبلد يحتاج مستقبله لصياغة مختلفة. فلا نستطيع ان نواجه القرن المقبل بهذه الاشكال من معطيات او ديناميات الحياة السياسية الموجودة، ولذلك أشعر بقلق شديد في هذا المجال. التعددية * "الوسط": هذا الطرح ينقلنا الى نوع الاسئلة عن موضوع بعينه، وهو الى أي مدى أثر تراث التنظيم الواحد في مصر على حركة الاحزاب المصرية الحالية جميعها؟ - محمود أباظة: دعني أتساءل اولاً اذا كان التنظيم الواحد هو مجرد تراث، ام انه لا يزال حقيقة واقعة؟ فأنا من الذين يعتقدون بأن نظام التعدد الحزبي في مصر هو نوع من الرسم على الحائط، مثل خداع النظر. ليس هناك تعدد حزبي حقيقي في مصر قبل 1976 ولا بعد 1976. وفي العلوم السياسية هناك فرق بين نظام الحزب الواحد ونظام الحزب المسيطر، وبين التعدد الحقيقي للأحزاب. انما الواقع ان لا تعدد عندنا. والنص الدستوري الذي تغير عام 1981، يتضمن ان النظام السياسي يقوم على تعدد الاحزاب، بدلاً من ان يقوم على تحالف قوى الشعب العامل، هو تغيير في اللفظ لم يقابله تغيير في الواقع. * "الوسط": اذا لم يكن هناك تعدد حزبي، فما الذي يوجد في مصر بالضبط؟ - محمود أباظة: عندنا حزب واحد، وعندنا رسم على الحائط، كأن ترى، على سبيل المثال، منظراً ويُخيل لك انه حديقة، بينما هو في الواقع مجرد رسم. وما أعنيه هو ان الحزب الواحد ليس تراثاً فقط، وإنما هو وضع قائم، وأنا اختلف مع الدكتور مصطفى في نظرته الى الاحزاب. نعم هناك ظاهرة عامة في العالم كله. وهي ان دور الاحزاب يضعف في الدول الديموقراطية القديمة لأسباب عدة، أهمها ان وسائل الاعلام الواسعة الانتشار جعلت دور الوسيط اقل اهمية، لكن في التعبئة وليس في الحكم، فالأحزاب الكبرى في اوروبا الغربية لم تعد تسيطر على الحياة السياسية. اصبحت هناك شخصيات غير حزبية تستطيع ان تتصل مباشرة بالرأي العام وتؤثر فيه، من دون اللجوء الى القناة الحزبية. وكان المرشح المستقل بيرو في الانتخابات الرئاسية الاميركية الاخيرة أمراً جديداً. لقد استطاع التلفزيون ان يخلق شخصية تستغني عن الحزب. وفي فرنسا ايضاً أمكن ظهور جيسكار ديستان كرئيس لحزب صغير عام 1974 واستطاع ان ينتصر على الحزب الاشتراكي والحزب الديغولي بكل ما لديهما من ادوات حزبية ضخمة. وكان هذا نتيجة قدرته على مخاطبة الجمهور مباشرة من خلال التلفزيون. لكن هذا يتعلق بالقدرة على التعبئة، فيما يختلف الأمر بالنسبة الى الحكم. فعندما وصل الى الحكم، احتاج الى حزب، لأن الديموقراطية المباشرة غير ممكنة، فلكي تحكم لا بد من حزب. كما انه لا يصح ان نخلط بين ضعف الاحزاب في الدول الديموقراطية وضعفها في الدول الشمولية. فمن الممكن ان تكون هناك اعراض متماثلة لأمراض مختلفة. فالتعدد الحزبي في مصر - في نظري - خدعة، فإذا كان الأمر كذلك، وأعتقد انه كذلك، يصبح الحديث عن الديموقراطية والانتخابات والاحزاب وتبادل السلطة والتعددية، حديثاً مجازياً لا يستند الى أساس واقعي. فالسؤال هنا: هل من المصلحة ان نعتبر ان هذا المجاز حقيقة، الى ان يصبح حقيقة بالفعل، ام نقول انه ليس حقيقياً ونتخذ موقفاً متشدداً او راديكالياً؟ هذا خلاف في الرأي. فالبعض يعتقد - مثلما يقول الدكتور مصطفى - بأن ما لا يدرك كله لا يترك كله، والبعض يعتقد بأنه اذا كان الوضع على هذا القدر من السوء والتدهور، فهو إذن يقوض فكرة نظام التعدد الحزبي ذاتها. فإذا كان من الممكن ان يتوهم الرأي العام وجود تعدد حزبي، وديموقراطية وإمكان لتبادل السلطة، فيما النظام لا يزال كما هو بالشكل الحالي، فهذا يضر بفكرة التعدد نفسها. وعلى اي حال، هذان رأيان، وكلاهما قابل للدفاع عنه. وفي ما يتعلق بالأحزاب الموجودة على الساحة المصرية، سأوافق على ملاحظة الدكتور مصطفى وهي ان كل قيادات الاحزاب قيادات معترف بها قبل التجربة التعددية. ويرجع ذلك الى اننا مررنا بعد 1952 بفترة لم يكن من الممكن ان تظهر فيها قيادات سياسية مستندة الى تشجيع الرأي العام. واذا كانت هناك قيادات سياسية ظهرت منذ 52 الى الآن، فهي كانت مستندة الى ارادة الحاكم. الديموقراطية الناقصة * "الوسط": سؤالنا في الواقع عن تراث التنظيم الواحد وتأثيره على الحياة الحزبية في مصر، كان يتعلق بكل الاحزاب. هذه الاحزاب تدير مواقفها السياسية واسهامها في الحياة السياسية المصرية بمنطق واحد، سواء كان هذا المنطق موجهاً تجاه الآخر، أم كان متعلقاً بالادارة الذاتية الداخلية للحزب نفسه، وهذه قضية لا بد ان نناقشها قبل ان نتعرض لفكرة ما اذا كان التعدد الموجود حقيقياً او هو ظلال على الحائط؟ - محمود أباظة: لست متأكداً من انها تأتي في الترتيب قبل مسألة التعدد، إنما بصفة عامة الاحزاب جميعاً في العالم كله تقوم على ما يسمى بالنواة الصلبة. ونادراً جداً ما تتغير قيادات الاحزاب. ففي العادة تدخل المجموعة التي تقود الحزب انتخابات، فتكسب او تخسر. فاذا خسرت الانتخابات لأسباب تبدو للحزب انها نتيجة تقصير، تتغير هذه القيادات، وإلا فإنها تستمر. وهناك قيادات حزبية استمرت طويلاً جداً في العالم كله. وفي ما يتعلق بالأحزاب المصرية، يُقال انها تعاني من غياب الديموقراطية داخلها. لكن الديموقراطية داخل الاحزاب تختلف عن المعنى المفهوم للديموقراطية. * "الوسط": هل هو معنى مجازي؟ - محمود أباظة: لا، يمكن ان نقول انه معنى خاص الى جانب المعنى العام. لماذا؟ لأن هيئة الناخبين في الدولة ترتبط بالمواطنة اي بقيد غير اختياري لا دخل للإرادة فيه. أما هيئة الناخبين في الاحزاب فهي اختيارية، وتتكون نتيجة نوع من العقد بين البرنامج او قيادات الحزب التي تطرح هذا البرنامج او تنشئ الحزب وبين من ينضمون له، وبالتالي فإن هيئة الناخبين في الحزب مختلفة. ومن الطبيعي جداً ان توجد داخل الاحزاب اعتبارات اهمها الحفاظ على ذاتية الحزب بصفته مجموعة افكار يجتمع بعض الناس حولها، وتحدد اطار الجمع والمنع، اي تحدد من ينضمون للحزب ومن لا ينضمون اليه، كما يفترض ان الحزب أداة لخدمة مصالح وطنية. هذا هو المفروض، يعني قيمته الوظيفية انه أداة. وتعريفه الذاتي انه برنامج او مجموعة أفكار. وهذا ما يفسر ما يقال عادة بأن الديموقراطية داخل الاحزاب عموماً ناقصة بالنسبة الى الديموقراطية، والقياس على تداول السلطة، في النظام السياسي، هو قياس مع الفارق. وأنا أظن ان قدرة الاحزاب على ان تجدد نفسها مرتبطة بالظروف العامة التي يعيشها الحزب * "الوسط": هل يعني هذا انها تناقض مبادئها الرئيسية؟ وفي هذا السياق أود ان اطرح بعض ما اقر في الجمعية العمومية الاخيرة للوفد، من حيث انه يكرس واحدية في ادارة شؤونه. الحزب على رغم انه يرفع شعاراً ليبرالياً، سواء داخله ام في ممارسته للحياة السياسية. بهذا المعنى لا استطيع ان اعتبره قياساً، لأن فاقد الشيء لا يعطيه. فكيف يمكن ان يدير الحياة السياسية مع اطراف اخرى بمنطق ليبرالي تعددي، من دون ان يدير الحياة السياسية داخله بمنطق ليبرالي ايضاً؟ - محمود أباظة: لا. أنت تبدأ بمسلمة لا اعتبرها كذلك، في شأن الواحدية في ادارة الحزب. مما لا شك فيه ان رئيس الوفد له من السلطات الموجودة في اللائحة وله من المكانة الذاتية الخاصة به ما يسمح له بالتأثير في تشكيلات الحزب وفي قراراته بدرجة اكبر بكثير من مجرد النصوص، وربما تقول لي ما ورد في بعض الصحف من أن التعديلات الاخيرة دعمت قبضة رئيس حزب الوفد. * "الوسط": لا أريد الدخول في التفاصيل. لكنني أقول إنني لا أستطيع قبول هذا الطرح بالنسبة الى حزب ولا أقبله بالنسبة الى حزب آخر. من حق الحزب الوطني الحاكم إذن ان يطرح مقولات مماثلة لها هذا القدر من التماسك النظري، ويرى في نفسه او في رئيسه ما يراه حزب الوفد نفسه في رئيسه. - محمود أباظة: ما دام يرى هذا في رئيسه داخل الحزب فهو حر ان يعطيه من السلطات ما يشاء، لكن يجب الا يعطيه هذه السلطات في الدولة... هذا هو الفارق، وبسببه اقول انه قياس مع الفارق. ان يعطيه سلطات داخل الحزب هذا شأن جمعية الحزب، لكن لا يصح ان تعطيه سلطات مطلقة في ادارة الدولة وشؤون الوطن. ولا يمكن ان نقيس هذا على ذاك. فالمسألة مختلفة جداً، وهي في نظري واضحة، فهل هذه الاجابة كافية؟ الوفد القديم الجديد * "الوسط": لا، غير كافية. بمنطق آخر إذا فرضنا جدلاً ان حزب الوفد وصل الى الحكم في مصر، هل يعدل هذه الصيغة التي ترى في رئيس حزب الوفد رجلاً ذا صفات استثنائية وان اللائحة تبيح له ما لا تبيح لغيره؟ - محمود أباظة: لا، أنت تعرف ان سعد زغلول عندما اختلف مع غالبية اعضاء الوفد فصلهم. ومصطفى النحاس عندما اختلف مع غالبية اعضاء الوفد فصلهم، ومع ذلك خلال السنوات السبع التي حكم فيها الوفد قبل 1952، يوجد شبه إجماع بين المؤرخين والمعنيين بالتاريخ السياسي على إن تلك السنوات السبع هي التي شهدت ديموقراطية حقيقية. ولو ان لدينا تجربة ليبرالية في العصر الحديث، فهي تنحصر في تلك السنوات التي حكم فيها الوفد. ولذلك ليس هناك خلط بين الأمرين. فالذي يحكم توزيع السلطات في الدولة هو الدستور. والدستور كما نعلم يلزم الجميع. والمبادئ التي ينادي بها الوفد في ما يتعلق بالدستور هي مبادئ جديدة قديمة تقوم على فكرة لا تتمتع بجدة شديدة، لكن لم نجد حتى الآن أحدث منها وهي ان السلطة تقابلها مسؤولية، وان السلطة تحد السلطة، وغيرها من المبادئ الليبرالية التي لم تسعفنا العلوم السياسية الحديثة بأحسن منها. وأنا لا اعتقد بأن التعديلات التي حدثت في لائحة حزب الوفد اخيراً تمس سلطة الجمعية العمومية على رئيس الحزب، ولا اعتقد ان وجود نواة صلبة داخل الحزب توجهه في القرارات الرئيسية والاساسية وتضمن له التماسك يمكن ان ينعكس على صدقية الحزب في دعوته الى الديموقراطية الحقيقية او التعدد السياسي وتداول السلطة. * "الوسط": تعتبر التحالفات السياسية من أهم معالم أي نظام حزبي، ومن مؤشرات مرضه او صحته، فهل كان اسلوب بعض احزاب المعارضة في بناء تحالفاته السياسية مصدر قوة أم ضعف للنظام الحزبي في مصر؟ على سبيل المثال هل كان لجوء حزب الوفد ثم حزب العمل للتحالف مع "الاخوان المسلمين" مفيداً لتطور النظام الحزبي أم ادى الى ارتباكه وإضعافه؟ ماذا يرى عادل حسين؟ - عادل حسين: سأبدأ بتعليقات سريعة على ما سبق. بالتأكيد الاحزاب السياسية اختلفت في بعض وظائفها او في اشكال عملها مع كل المتغيرات التي تحدث في العالم. ولكن ارى ألا نستغرق كثيراً في هذه النقطة، على اساس انه في اطار هذا التسليم العام، يظل للمناطق المختلفة من العالم خصوصياتها، وبالتالي فلنركز الجهد بشكل افضل على ما يحيط بنا بشكل مباشر. أنا ممن يرفضون فكرة الحضارة العالمية الواحدة، وممن يرون أن التباين الحضاري هو السمة المقبلة في العصر المقبل. وعلى هذا ففي منطقتنا نحن، سواء بإرثها الحضاري أم بإرثها السياسي أم بظروفها الحالية التي تنطلق منها، اعتقد بأنها تختلف كثيراً عن الإرث وعن الأوضاع وعن الظروف المؤثرة في اوضاع الغرب والشمال الصناعي بشكل عام. إذا أردت ان اقترب بشكل مباشر من الساحة التي تهمنا في المقام الاول وهي الساحة المصرية، فهنا أظن ان المطلوب من الفكر السياسي المصري ان يدرس بشكل واقعي اذ كانت للأحزاب في مصر وظيفة مطلوبة ام لا؟ فحتى لو كانت الاحزاب غير مطلوبة في الولاياتالمتحدة فهذا شأنها. اما بالنسبة الى شأننا نحن، فأظن ان اصلاح الوضع الحالي في مصر يتطلب بث الحيوية بين مجموعات سياسية متنافسة، وأن يكون بقدرة هذا التنافس ان يصل بواحد منها او الآخر الى الحكم. وفي هذا ما يمكن ان يصلح الأوضاع كثيراً. وكما قلت قد لا يكون هذا هو الأنسب لبلاد غيرنا، وأنا أرى بالفعل ان هذه الصيغة ليست مناسبة لكل البلدان. لكن أظن انها مناسبة للظروف المصرية وللمتطلبات المصرية. ايضاً الحياة السياسية والحزبية أصبحت أكثر تعقيداً من أن يقال: هل نوافق على قيام احزاب متعددة أم لا؟ فالأمر بالتأكيد يحتاج الى قواعد وضوابط حتى لا تفلت اللعبة السياسية وتتحول الى فوضى. وبالتالي هناك حاجة لتصور نظري لطريقة عمل الاحزاب السياسية في الساحة المصرية تحديداً. هذا أمر ينبغي للفكر السياسي المصري ان يتصدى له وأن يقدم إجابات معقولة للأسئلة المطروحة في هذا المجال. اختلالات * "الوسط": قلت إن هذا النظام أنسب للحالة المصرية تحديداً. لماذا؟ - عادل حسين: بشكل محدد أرى أن أداء الحزب الوطني الحاكم يتسبب في اختلالات شديدة في الداخل. ولا أظن أنني وحدي الذي يرى هذا. وإذا أجرينا استفتاء حراً، لن أقول ان الغالبية ستكون مع هذا الرأي. لكن قل مثلاً 30 في المئة طبعاً انا رأيي ان هذا هو موقف الغالبية، إنما أفترض انه موقف 30 في المئة فقط. هذا يكفي كمبرر لإيجاد طريقة تتيح لهؤلاء ال30 في المئة ان يعبروا عن رأيهم حتى يكونوا إما قوة ضغط وإما بديلاً عما هو قائم. وهذا هو مفهوم الإصلاح. فأنا في وضع معين اشعر بأنه يقود الى كارثة ما لم تكن هناك احزاب مختلفة. فإذا كان هناك قسم كبير من الرأي العام يرى ان الوضع القائم غير محقق لأهدافه ولمصالحه، فلا بد ان تكون هناك طريقة يعبر فيها هذا القسم عن نفسه. وإذا كانوا متحمسين لأنفسهم وربما يكونون افضل، فيجب ان تكون لدينا وسيلة تتيح لهم السعي للوصول الى الحكم بطريقة معقولة. فإذن بعيداً عن أي تجريدات نظرية، أنا في واقع معين أرى فيه ان التعددية الحزبية رحمة وتفتح باباً للإصلاح بطريقة هادئة ومنظمة نفتقدها الآن نتيجة النظام الحزبي المهمش. * "الوسط": هل هذه الأحزاب بالفعل تعبر عن مصالح الناس التي تتحدث عنها؟ - عادل حسين: سنأتي الى هذا، لكن دعني اقول الآن انني أرى الواقع المصري المحسوس على هذا النحو. والجهد النظري الذي نحتاجه هو وضع قواعد للعبة السياسية. لكن من حيث ان هذه اللعبة مطلوبة، أظن ان الواقع الحي يقول نعم. وأنا مع تسليمي بعيوب كثيرة في البناء الحزبي وفي اسلوب الأداء الحزبي القائم، لم يعد مستساغاً عندي ان نظل نكرر ان هذه العيوب مستمرة كماض ومنذ ان بدأت الحياة الحزبية في مصر كانت الاحزاب تُتهم كلها بأنها ماضوية، كما تفضل الدكتور مصطفى الفقي، وأوضح انه لا توجد رؤية متكاملة لمصلحة البلد عند اي حزب. وأنا اختلف في هذا، فمع اقتناعي بأن هناك شيئاً من الماضوية بالفعل، او نظرة الى الماضي وتتأثر بها غالبية الاحزاب، أتصور على الأقل ان بعضها اصبح اكثر تحرراً من هذا الارتباط بالماضي، وله آراء وبرامج معلنة، ونقاط يتفق فيها وأخرى يختلف فيها مع الحكومة او مع بعضها البعض وعلى أسس واضحة، فإذا اردنا ان نشخص المشاكل بشكل حقيقي، فإن هذا الوصف الماضوي اصبح وصفاً تبسيطياً، يشخص ما كان ولا يشخص ما هو قائم. ربما من أكثر الاحزاب التي يمكن ان تتهم بهذا حزب الوفد. وأنا اقول "من أكثر". لكن على رغم هذا يحدث تطور الآن، وهو واضح من أية متابعة لجريدة الوفد ومواقفها السياسية. فلا يمكن ان اقول انني مختلف مع الوفد الآن بسبب رأيه في زيور باشا سياسي مصري قديم. فأنا اختلف مع الوفديين بسبب سياساتهم الاقتصادية التي يقترحونها، ومواقفهم من معاهدة السلام التي لا أفهمها. إذن عندما اقول انا مختلف مع الوفد او متفق معه، فإن هذا يتعلق بقضايا موجودة حالياً على جدول الاعمال. وبالتالي اذا اردنا ان نشخص المشاكل الحالية للنظام الحزبي فأظن انه يحسن بنا تحديد هذه المشاكل بشكل صحيح وطازج، ولا نكتفي بتكرار ما كنا نعتقده عنها منذ عشر سنوات او 15 سنة. وبالنسبة الى الاستاذ اباظة، صحيح ان النظام الحزبي ليس نسخة من نظام الحكم. لكن لا يعني هذا ان بينهما انفصالاً، هما متمايزان، لكن مع قدر من الصلة. فلا يمكن أن يكون النظام الداخلي لحزب ما استبدادياً جداً، ثم يزعم انه عندما يصل الى السلطة، سيحكم بما يرضي الله والناس. هذا يستقيم، إذن لا بد، وإن كان هناك تمايز، ان يكون هناك صلة، لكن اقول ايضاً ان الاحزاب المصرية المختلفة مرت بتطورات كثيرة، ولا تقاس الديموقراطية فيها بأن رئيس الحزب بالتحديد تغير او لم يتغير. قد لا يتغير رئيس الحزب، لكن كمية التغيرات الاخرى التي حدثت في المستويات القيادية كبيرة جداً، وأظن ان كل الاحزاب المصرية مرت بشيء من هذا طيلة السنوات الماضية، خصوصاً في حزب العمل. المعارضة * "الوسط": وطبعاً أدى هذا الى تغير طبيعة الحزب نفسه. - عادل حسين: لا. هذا التغير مرتبط بعوامل كثيرة، منها تطورات في الحزب، ومنها الفرز الطبيعي، لأن هناك عناصر تيأس، وعناصر تغير وجهة نظرها. الحزب الناصري الآن تركيبته هي غير ما كانت عليه عندما كان تحت التأسيس بالتأكيد، لقد حدث تغيير كبير. وحزب التجمع اليوم هو غير ما كان قبل عشر سنوات. فلا شك ان الاحزاب حدث فيها قدر كبير من التغير والتنفس وفتح النوافذ. * "الوسط": بهذا المعنى نفسه حدثت تغييرات واسعة جداً في الحزب الوطني، ما دمنا لا نلمس شخص القيادة ونتحدث عن المستويات القيادية الاخرى. لقد حدثت تغييرات بالفعل. وما أتحدث عنه هو هل حدثت تغييرات تخدم الحركة الديموقراطية داخل النظام الحزبي؟ - عادل حسين: الفرق بين التغييرات في الاحزاب المعارضة وفي الحزب الوطني واضحة. فالتغييرات في أحزاب المعارضة الرئيسية تتم بالانتخاب. وهذا فارق اساسي. كما انه بسبب القيود على احزاب المعارضة، لا يبقى لديها غير الجادين والمؤمنين حقاً بمواقفها. ولا تجد من يغير نفسه مع تغير مواقف الحزب، لأن احداً من اعضاء احزاب المعارضة لا يكسب منها شيئاً. ولذلك تكون التغييرات فيها صحية. اما التغييرات في الحزب الوطني فغالباً ما يكون من الصعب فهم اسبابها. وتجد أعضاءه مستمرين على رغم حدوث تغيرات في منتهى الحدة. ولأننا كأحزاب معارضة في وضع الاستضعاف والتهميش، لا يبقى فيها غير المتحمسين لها، وبالتالي إذا حصلت تغيرات في سياسة الحزب او في مواقف الحزب لا يرضى عنها هذا القيادي او ذاك. فإنه يتركه بشكل منطقي وصحي. لكن في الحزب الوطني لا تحدث تغييرات من هذا القبيل بالشكل الصحي. ولهذا كما قلت فإن الأمر عندنا يحدث بشكل فرز طبيعي وتغييرات طبيعية لأنها كلها تتم الانتخابات العامة على كل المستويات. ونصل بعد ذلك الى التحالفات، وهي صيغة صحية جداً ينبغي ان تكون من الأدوات المصاحبة للنظام التعددي. ومن دونه ينتشر التفتت الى أجل غير معلوم. لكن لا نريد في المقابل إقامة كتل حزبية كبيرة من خلال دمج الناس في احزاب واحدة. إن التحالفات فن ينبغي ان نتقنه في الحياة السياسية المصرية والتقاليد السياسية العربية بشكل عام. وأظن انه من مظاهر التخلف السياسي اننا لا نتقن بقدر كاف منطق التحالف. لا نتقن كيف نتابع المشترك بين القوى السياسية المختلفة، ولا ننظر إلا الى ما يفرق بينها. وينبغي ان نتقن هذا الفن وأن نعرف كيف نعثر على المشترك ونقوية وندعمه وبالتالي نحصر الخلافات في حجمها الصحيح بلا مبالغة، ونستطيع معالجتها. * "الوسط": من دون أن يفقد أي طرف هويته. - عادل حسين: هذا طبيعي. فإذا فقد كل طرف هويته، ينتفي التعدد. والبراعة في التحرك السياسي هي انه مع وجود التمايز في شخصية كل حزب عن الآخر، نستطيع إيجاد القواسم المشتركة في ما بينها. وهذا فن في المناورة السياسية وفي اساليب العمل السياسي، ينبغي ان نتدرب عليه ونتقنه. وفي ضوء هذا المفهوم النظري، نحن في حزب العمل حريصون دائماً على التحالف وتوسيع أشكاله، ووصلنا في هذا الى الصياغات التي يمكن ان أشير اليها بعد قليل. وفي هذا الإطار، ومع تسليمي بهذا، فكلامي السابق لا ينفي ان الوضع الحزبي في مصر، بتعقيداته غير المنطقية، لا يقود الى التعدد الحقيقي. وأقصد بالتعقيدات قانون الاحزاب وغيره من القوانين التي تؤدي الى تشوه في نمو الاحزاب، وعندئذ تحدث انبعاجات لأن القوالب لا تعطي فرصة للنمو الصحي بالشكل الصحيح. ومن هذا مثلاً ان جماعة مثل "الاخوان المسلمين" مستبعدة على رغم انها كيان سياسي قائم لا يمكن تجاهل وجوده في المجتمع المصري. وفي الوقت نفسه فإن اسلوب الانتخابات بالقائمة يمنع "الاخوان" من المشاركة. هذا الوضع غير الطبيعي لا بد ان يقود الى محاولات للالتفاف حوله بأشكال غير طبيعية. وينطبق هذا على انتخابات سنة 1984 حين حدث تحالف بين حزب الوفد وبين "الإخوان". بالتأكيد كان هذا التحالف صحيحاً في جزئية صغيرة، باعتبار ان الوفد و "الاخوان" هما الهيئتان اللتان تعلنان قطيعة كاملة بينهما وبين ثورة 23 تموز يوليو، ومع ذلك ينظر كل منهما الى هذه الثورة من منظور مختلف تماماً عن الآخر. ولذلك فإن المشترك بينهما محدود لا يتجاوز اكثر من 10 في المئة، اما ال90 في المئة من التحالف بينهما فكان بمثابة حيلة انتخابية، بتأثير الانبعاجات والتشوهات الناجمة عن قانون الاحزاب المصرية. تحالف ظرفي * "الوسط": ألا ينطبق ذلك على تحالف 1987 بين حزب العمل و "الإخوان"؟ - عادل حسين: لا، هناك اختلاف. في انتخابات 1984، كان القيد على كل الاحزاب هو حاجز ال8 في المئة كحد أدنى للتمثيل في البرلمان. فكان هناك هاجس ان كل حزب يريد تجاوز 8 في المئة، وكان الوفد عائداً لتوه الى الحياة السياسية، ويعاني بالتالي من قلق، وكان "الإخوان" محرومين من دخول الانتخابات، ويحتاجون الى حزب يأخذهم على قوائمه. ومن هنا جاء التحالف بين الوفد و "الإخوان" بشكل اضطراري. وهذا يختلف عن تحالف العمل و "الاخوان" عام 1987، على رغم انه كان في جانب منه تعبيراً عن ضرورة انتخابية ايضاً. فربما لو لم تكن هناك قيود على الاخوان، لفضلوا خوض الانتخابات بمفردهم. لكن بالنسبة الينا في حزب العمل، كانت القضية الاساسية تتعلق في النظام السياسي المصري نفسه، وهي قضية شمولية، وليست قضية من الذي يفوز في الانتخابات. كانت القضية هي كيف نُحدث تغييراً في التوازن الاستراتيجي بين مجمل أحزاب المعارضة من ناحية والحزب الحاكم من ناحية اخرى. فإذا استطعنا ان نغير هذا التوازن الاستراتيجي فإننا ننقل الحياة الحزبية كلها الى مستوى آخر. ولذلك رأينا ان تدخل كل احزاب المعارضة الانتخابات تحت قائمة واحدة، وحتى لا يقال إن لنا مصلحة ذاتية، اقترحنا ان تكون القائمة الموحدة تحت راية حزب الوفد باعتبار انه صاحب اكبر مجموعة برلمانية معارضة عام 1984. وضربنا بذلك مثلاً في إنكار الذات، لأن حزب العمل كان قادراً على تجاوز نسبة ال8 في المئة، بدليل انه حصل على حوالي 7.5 في المئة في انتخابات 1984، فلم نكن في حاجة ماسة لأن نلغي ذاتيتنا وهويتنا المستقلة في قائمة الوفد. لكن كانت القضية بالنسبة الينا هي كيف يمكن ان نفكك هذا الشكل الشمولي الذي يقوم على سيطرة الحزب الواحد، ونوجد قوة ثانية تعبر حاجز ثلث مقاعد البرلمان، وتصبح بالتالي قوة لها قدرة على التأثير. * "الوسط": ما الذي أعاق هذه المحاولة؟ - عادل حسين: مع الأسف الشديد ان حزب الوفد بعد ان قبل هذا تراجع عنه. فكان الاستاذ فؤاد سراج الدين وافق على القائمة المشتركة في اول المناقشات. ولكن بعد هذا أخبرنا ان الهيئة العليا، لم توافقها بعد مداولاتها معها، وبالتالي عدل عن الفكرة. المهم بالنسبة الينا في انتخابات عام 1987، كانت الفكرة البديلة ان نسعى الى اكبر تحالف من القوى الوطنية، وفي هذه القضية كان لي شخصياً دور أظنه كان مؤثراً في الاتصالات بالإخوان وبالناصريين. لكن مع الأسف لم يوافق الناصريون في ذلك الوقت على اساس التناقض التقليدي بينهم وبين "الاخوان". والذي حدث ان "الاخوان" في ذلك الوقت قبلوا التعاون مع الناصريين، ومع اي عناصر يسارية اخرى، ولم يطلبوا ألا ان تكون هذه العناصر فاقعة جداً، حتى لا يكون الأمر محرجاً لهم. ولكن القوى اليسارية والديموقراطية الاخرى هي التي رفضت، فأقيم بالتالي التحالف بيننا وبين "الاخوان المسلمين" وانضم الينا حزب الاحرار. وكان لهذا التحالف جانب يتعلق بالتكتيك الانتخابي، لكن لم يكن هو الغالب، لأننا - كما قلت - كنا نستطيع بقوانا الذاتية ان نعبر حاجز ال8 في المئة. لكن كانت المسألة الاساسية هو ان ننزل ببرنامج، ولذلك بالفعل وضعنا برنامجاً ودخلنا الانتخابات، فهل كان ذلك يعتبر دعماً للحياة السياسية وللممارسة الحزبية؟ انا اعتقد، من خلال التجربة، بأنه كان كذلك، فالتحالف الذي اقيم أتاح لنا التمثيل بقوة مؤثرة في مجلس الشعب في ذلك الوقت، وتعلمون ان برلمان عام 1987 كان فيه أكبر نسبة من الاحزاب المعارضة في تاريخ البرلمانات المصرية. وبالنسبة الى القوى المتحالفة أظن ان هذا التحالف أدى الى تقوية الاخوان وحزب العمل بلا شك. فطرفا التحالف استفادا من هذه العلاقة. المشاركون مصطفى الفقي - مدير المعهد الديبلوماسي. محمود أباظة - رئيس لجنة الشباب في حزب الوفد. عادل حسين - أمين عام حزب العمل. عبدالمنعم سعيد - مدير مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في الأهرام. وحيد عبدالمجيد - رئيس وحدة الشؤون العربية في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية والمشرف على التقرير الاستراتيجي في الأهرام. رفعت السعيد - الأمين العام المساعد لحزب التجمع. صلاح عبدالمتعال - عضو المكتب السياسي لحزب العمل.