كان تفجر الصراع على رئاسة حزب"الوفد"المصري أخيراً نتيجة طبيعية لانتكاسات مني بها الحزب، وممارسات إقصائية انتهجها رئيسه الدكتور نعمان جمعة منذ جاء على رأس الحزب نهاية عام 2000، خلفاً لزعيمه التاريخي فؤاد باشا سراج الدين. إذ تراجعت شعبية"الوفد"العريق صاحب الإرث الليبرالي لحقبة ما قبل ثورة عام 1952، بعدما أطاح جمعة بكل قياديي الحزب من منافسيه ومعارضيه، واحداً تلو الآخر. وكرست تراجع الحزب النتيجة الهزيلة التي حصدها جمعة في الانتخابات الرئاسية الأولى التي خاضها، متراجعا عن مقاطعة كان اتفق عليها مع أحزاب المعارضة الرئيسة في خطوة اعتبرت"صفقة"مع الحزب الحاكم الذي أراد منقذاً لصورته في انتخابات أثارت جدلا حول تنافسيتها ونزاهتها. ولم يحصل جمعة سوى على 2.8 في المئة من أصوات الناخبين، ليحل ثالثاً في السباق الرئاسي، بعدما تفوق عليه رئيس حزب"الغد"الدكتور أيمن نور الذي كان أحد ضحايا قرارات جمعة الإقصائية في"الوفد". ولم تكن نتيجة الانتخابات البرلمانية سوى امتداد لنتيجة استحقاق الرئاسة، فحصل الحزب على بضعة مقاعد استطاع تأمينها بصعوبة. غير أن"القشة"التي قصمت ظهر"الوفد"، تمثلت في قرار جمعة إقالة نائبه منير فخري عبدالنور بسبب انتقاده أسلوب إدارة الحزب في حوارات صحافية. وأرغمت قيادات الحزب رئيسه على التراجع عن قرار فصل عبدالنور، لكن هذا لم يمنعه من التعريض بهم واتهامهم بالعمالة للولايات المتحدة!. وقررت الهيئة العليا ل"الوفد"إقالة رئيسه وتنصيب نائبه رئيس الهيئة البرلمانية للحزب الدكتور محمود أباظة رئيسا موقتاً، حتى إجراء انتخابات على رئاسة الحزب. وتطور الصراع بعدما رفض جمعة القرار، ومكنه النائب العام من الحزب. وتوقفت جريدة"الوفد"عن الصدور بسبب الصراع على الرئاسة إلى أن عادت أخيرا، لكن الصراع على رئاسة الحزب لا يزال معلقا، كما هي الحال في غالبية الأحزاب المصرية التي تعيش واقعا مأزوماً. وفي ما يأتي، تنشر"الحياة"شهادة قيادي وفدي سابق تولى رئاسة تحرير جريدة الحزب لسنوات، وكان شاهدا على عودة"الوفد"إلى الحياة السياسية في نهاية السبعينات، ثم تجميده اختياريا، قبل أن يعود بحكم قضائي منتصف الثمانينات. لم يعد الصمت فضيلة، ولا السكوت خياراً أخلاقياً، وليست الشهادة نبشاً للماضي، لكنها إيقاظ للوعي وإزعاج للعقل حتى يجوس خلال الجسد العليل بحثاً عن مكامن الداء ومسببات الوجع الذي أصاب حزب"الوفد"في مقتل، وأطاح بالأغطية التي أسدلت عليه اتقاء لشماتة الأعداء، فقام"أهل البيت"أنفسهم بتمزيق الأستار وكشف الخبيئة. وهذه شهادة واحد من"أهل البيت"عاصر"الوفد"منذ ولادته الثانية، سواء بالمشاركة في تأسيس صحيفته أو المساهمة في بنائه التنظيمي عن طريق عضوية الهيئة العليا ورئاسة لجنة الثقافة والفكر، وهي مواقع أثيرة أتاحت لي رؤية قريبة لما يدور داخل الحزب العريق، ومكنتني من رصد التفاعلات التي تراكمت داخل أحشاء"الوفد"، حتى انفجرت انفجارها الأخير. ولم يكن الانفجار بسبب الصدام الذي حدث بين قيادات"الوفد"، كما يبدو للعين المجردة، بل يعود إلى الظروف التي صاحبت عودة"الوفد الجديد"إلى الساحة السياسية بعد غياب طويل. فولد الحزب منتصف السبعينات من القرن الماضي، وهو يحمل في أحشائه جراثيم ضعفه، مثلما يولد كل كائن حي. وبدل أن تتغلب جراثيم الصحة والعافية والمناعة على فيروسات الضعف، حدث العكس. ولم تتمكن القوى الجديدة من فرض إرادة الديموقراطية على زعامة نشأت في ظروف سابقة، وفي ظل تقاليد تنتمي إلى عهود تاريخية قديمة ترى أن من حقها أن تفرض الديموقراطية على الحكام، ولكن ليس من واجبها أن تمارس هذه الديموقراطية داخل الحزب الذي صنعته بيدها، ومن ثم ترى أن لها الحق في إدارة الحزب على النحو الذي يؤكد زعامتها الأبوية والأبدية. اختلافات في ظروف الولادة هناك اختلافات بين ولادة"الوفد"الأولى بزعامة سعد زغلول في أحضان الشعب، وولادته الثانية بزعامة فؤاد سراج الدين في مشيمة الحكومة، وفي كشف قانون الأحزاب الذي أصدره الرئيس الراحل أنور السادات بقصد التحول من نظام الحزب الواحد، إلى نظام التعددية الحزبية، ولم يخطر في بال السادات أن يستظل سراج الدين بهذا القانون ليعيد إلى الحياة الحزب الذي كان السادات من ألد أعدائه، منذ حادث 4 شباط فبراير 1942، ولم يتخلف عن المشاركة في بعض محاولات اغتيال زعيمه التاريخي مصطفى النحاس، واغتيال الوزير الوفدي أمين عثمان. كانت التعددية الحزبية التي ينشدها السادات مجرد ديكور سياسي يميزه عن سلفه جمال عبدالناصر الذي لم يكن يؤمن بمشاركة سياسية من جانب أي حزب، ولم يكن السادات أقل منه إيماناً بضرورة الانفراد بالحكم، ولكنه أراد أن يصطنع بعض الكيانات السياسية التي أطلق عليها اسم"المنابر"ثم الأحزاب لتتحرك من تحت عباءته وتخضع لإرادته، لدرجة انه طلب بنفسه من إبراهيم شكري أن يستقيل من منصبه الحكومي، ويتفرغ لتأسيس حزب أطلق عليه اسم"حزب العمل الاشتراكي"ليكون الحزب الرابع إلى جانب الثلاثة الذين بدأت بهم منظومة التعددية الحزبية، وهم حزب الحكومة واسمه"حزب مصر"برئاسة رئيس الوزراء ممدوح سالم، و"حزب التجمع"برئاسة خالد محيي الدين ويضم بقايا اليسار الماركسي والناصري، و"حزب الأحرار"برئاسة مصطفى كامل مراد ويعبر عن تطلعات رجال الانفتاح الاقتصادي. تأييد جماهيري لعودة الوفد لم يكد فؤاد سراج الدين يعلن عزمه على إقامة حزب"الوفد الجديد"حتى قوبل الخبر بتأييد جماهيري عارم لم يتوقعه غلاة الوفديين، إذ كانت الجماهير متعطشة إلى عودة الحزب، وما تحمله من دلائل على نزعة ديموقراطية. ولم تتصور أن يولد"الوفد"بمقتضى قانون حكومي، لأنها تدرك بحسها أن الأحزاب التي تولد بإرادة حكومية لن تكون سوى هياكل من ورق، فجاءت عودة"الوفد"لتحيي الأمل في ظهور حزب شعبي هو استمرار لحزب"الوفد"القديم الذي ولد في أحشاء ثورة عام 1919. وألقى سراج الدين خطابات حادة، أكثرها حدة خطابه في نقابة المحامين لمناسبة ذكرى وفاة زغلول والنحاس، تطرق إلى الأعمال التعسفية التي عاناها"الوفد"في العهد الثوري. وأدرك السادات أن مهمة"الوفد الجديد"هي تصفية الحساب مع الثورة، وهاله إقبال الجماهير على مؤتمرات"الوفد"، حتى خيل إليه أن"الوفد"يستعد ليصبح البديل لحزب السلطة في لعبة تداول الحكم، وانه المنازل الشرس في أي انتخابات عامة. ورأى أن يخنق"الوفد"قبل أن يشتد عوده وتزداد شعبيته، فلجأ إلى الوسيلة التقليدية التي دأبت عليها حكومات الثورة في القضاء على الخصوم، وهي إصدار قوانين بعزلهم عن ممارسة العمل السياسي، ودعا إلى استفتاء شعبي على مشروع قانون أطلق عليه اسم"قانون حماية الجبهة الداخلية"، وبمقتضاه يفرض العزل السياسي على السياسيين جميعاً الذين تقلدوا مناصب وزارية أو اشتركوا في قيادة الأحزاب قبل ثورة 1952، مع استثناء رجال الحزب الوطني القديم - حزب مصطفى كامل ومحمد فريد - و"حزب مصر الفتاة"، مجاملة لزعيمه أحمد حسين الذي كان دائب المديح للسادات، ووريثه إبراهيم شكري والدكتور محمد حلمي مراد. سراج الدين يؤثر السلامة أدرك سراج الدين بخبرته العميقة أن السادات يخطط للقضاء على"الوفد"قبل تكوين كوادره الحزبية، فلم يسلك سبيل المواجهة الصدامية كما كان يفعل مصطفى النحاس في مثل هذه التحديات التي تستلزم التضحيات الجمة، وإنما آثر السلامة واستصدر من الهيئة العليا للوفد قراراً بتجميد نشاط الحزب. يومها، لم يرتفع صوت داخل الهيئة العليا لمعارضة قرار رئيس الحزب، لسبب بسيط، وهو أن اختيار هؤلاء الأعضاء تم بإرادة منفردة من رئيس الحزب، أو بانتخابات شكلية من أعضاء الجمعية العمومية. إذا كان من الصعب على مؤرخي السياسة الحزبية في مصر إدانة هذه التصرفات المناقضة للديموقراطية، وإذا كان من الجائز التغاضي عنها نظراً إلى ظروف النشأة المبكرة للحزب وصعوبة إقامة هياكل وتنظيمات عن طريق الانتخابات، إلا ان من الضروري تسجيل ملاحظة مهمة جداً، وهي أن هذا التجاوز عن انتهاج الديموقراطية سيظل السمة الغالبة في حركة حزب"الوفد الجديد"، وستظل إرادة زعيم الحزب هي الإرادة الغالبة على كل تكوينات الحزب، إلى أن حدث الانفجار الأخير بين مجموعة الإصلاحيين بقيادة محمود أباظة، والإرادة المنفردة للدكتور نعمان جمعة? وسيدهش القارئ إذا علم أن عملية انتخاب أعضاء الهيئة العليا لم تكن لتتم بعيداً عن آراء رئيس الحزب، فهو كان يضع أسماء 50 مرشحاً على رأس قائمة المرشحين لعضوية الهيئة العليا، ثم يضع خطوطا تحت أسماء المرشحين الخمسين، وكانت الجمعية العمومية تلتزم رغبة رئيس الحزب، وتنتخب الخمسين الذين وضعهم، ولم يحدث أن خرج أعضاء الجمعية على هذا التقليد ولو على سبيل الخطأ بنسبة واحد في المئة! شتائم علنية انتقلت المواجهة بين سراج الدين والسادات إلى تلاسن علني، وانتقى السادات حزمة من الشتائم وألقى بها في وجه سراج الدين مثل:"سفالة، ورذالة، بذاءة، وقلة أدب"، وهبط الشتم إلى مستوى متدن، عندما قال السادات في خطاب له أمام جامعة الإسكندرية إنه كان يتناول العشاء في مقر السفارة البريطانية احتفالاً بالأمير فيليب، فقال لمن حوله من الساسة الإنكليز وهو يسترجع"مجد"السفارة إن"زعماء الوفد من أصحاب المقام الرفيع - يقصد النحاس - والدولة والمعالي - يقصد سراج الدين وبقية وزراء الوفد - كانوا يأتون إلى هذه السفارة مثل الذباب، فيضربهم الإنكليز بالصرم". استشاط سراج الدين غضباً عندما قرأ هذا السباب منشوراً في صحف الحكومة، ولم تكن لديه صحيفة ينشر فيها رداً، فعكف على كتابة رد وذهب به إلى قصر عابدين - مقر الحكم - وأودعه مكتب الرئيس وأعطى صورة منه إلى سعيد عبد الخالق مدير صحيفة"الأحرار"قريب الصلة من سراج الدين الذي شارك في تأسيس صحيفة"الوفد"في ما بعد، ونشر سعيد الرد على صفحات الأحرار، ما الذي أثار غضب السادات وكتب على ذيل الرسالة:"يعاقب باعتقاله عند صدور الأمر". وقال سراج الدين في رسالته إلى السادات:"إننا لم نكن من الرجال الذين يضربون بالصرم، فالذين يحاربون الإنكليز في معركة القناة عام 1951 ويطلقون عليهم الرصاص، ويقتلون العشرات من ضباطهم وجنودهم في معركة وطنية شهد بها العالم كله، لا يمكن أن يضربوا بالصرم". وبعدما عدد سراج الدين مواقف حكومات"الوفد"الوطنية، وجه الحديث إلى السادات قائلا"إن هذه الألفاظ جديدة على قاموس السياسة المصرية، وأرجو أن تصدقني إذا قلت إن الشعب المصري يؤلمه اشد الألم ذلك الهجوم المتوالي الشرس على زعيمهم الوطني الراحل مصطفى النحاس، وان زعامته لا ينال منها ذلك الهجوم، بل ان ذلك يزيدها تمكينا في النفوس، ورسوخا في القلوب، ولم تضع وفاته حدا لهذا الهجوم، بل استمر واشتدت ضراوته بعد وفاته والى اليوم، ورد الشعب مرة أخرى على هذا الهجوم الجديد، بذلك الإقبال الضخم الهائل على حزب الوفد الجديد عند قيامه في شباط فبراير 1978 وكان هذا الإقبال، وبخاصة من الشباب، حديث مصر كلها، كما انه قلب كل الحسابات رأساً على عقب" وتساءل في لهجة استنكارية:"كيف ساغ لكم أن تهاجموا زعماء مصر وحكامها السابقين في السفارة البريطانية، وهي ارض إنكليزية بحكم القانون الدولي، وفي حديث مع السفير البريطاني؟ ومع أنك تدعو المواطنين إلى نبذ ألفاظ العيب والتمسك بأخلاق القرية، فهل من أخلاق القرية توثيق الخصم بأشد القيود، وحرمانه من كل وسائل الدفاع عن نفسه في وقت تهاجمه بكل أساليب الهجوم، إننا نتطلع إلى أن يكون هذا المبدأ - مبدأ التمسك بأخلاق القرية - مبدأ منفذاً فعلاً لا مجرد شعار". وبقي السادات ينتظر اللحظة التي ينقض فيها على سراج الدين ويعاتبه على رسالته، إلى أن جاءته الفرصة عندما أعدت وزارة الداخلية قائمة بأسماء الزعماء والساسة ورجال الدين الذين يجب اعتقالهم في أيلول سبتمبر 1981، وعندها أضاف السادات بخط يده اسم فؤاد سراج الدين الذي ظل معتقلاً في ليمان طرة إلى أن وقع حادث المنصة واغتيل السادات، وحل مكانه الرئيس حسني مبارك، فأفرج عن جميع المعتقلين وقابلهم في قصر العروبة، وتحت أضواء التلفزيون رفض سراج الدين الإدلاء بأي تصريح، وقال إن"قانون العزل السياسي الذي أصدره السادات يحرم على الإدلاء بأي حديث، وحين يلغى هذا القانون سأتحدث إليكم". وعلى الفور رفع الحزب دعوى أمام محكمة القضاء الإداري يطالب بإلغاء قرار المدعي الاشتراكي بعزل فؤاد سراج الدين والسكرتير العام للوفد إبراهيم فرج، والمطالبة بعودة الحزب لممارسة نشاطه، وطعنت الحكومة بأن الجمعية العمومية للوفد اتخذت بنفسها قرار الحل، وقدم محامو"الوفد"وعلى رأسهم نعمان جمعة، أوراقاً تثبت أن الهيئة العليا اعترضت على"الحل"وقررت"تجميد"النشاط الحزبي مع استمرار العمل السياسي. وبذلك أفلت"الوفد"من مقصلة الحل، وعاد بحكم قضائي، وانعقد مؤتمر صحافي في قصر سراج الدين في حي"غاردن سيتي"أعلن خلاله نعمان جمعة استئناف نشاط الحزب، وكانت المرة الأولى يظهر جمعة على الملأ باعتباره السكرتير العام المساعد للحزب إلى جانب الدكتور عبد الحميد حشيش. وانتهت صفحة جديدة في سجل العلاقات بين"الوفد"ورئاسة الجمهورية منذ تولي الرئيس مبارك مسؤوليته الدستورية. لكن شهر العسل لم يستمر طويلاً بعدما صدرت قائمة المرشحين الوفديين في انتخابات مجلس الشعب، وتصدرها اسم سامي مبارك شقيق الرئيس على رأس قائمة الوفد في دائرة مصر الجديدة، وبدأت العلاقات بين"الوفد"والدولة تدخل مسارا مغايرا لما كانت عليه. عضو الهيئة العليا لحزب "الوفد" المصري