كثيرة هي الساعات التي يستطيع الانسان في عصرنا الراهن ان يقضيها بالاطلاع والمشاهدة والتنقل من بلد الى آخر من دون ان يخرج من منزله او يبرح اريكته، اذ لايتطلب هذا "السفر" منه سوى اللهو بجهاز التحكم الصغير باحثاً عن المحطات التي تنقله من اقصى الشرق الى اقصى الغرب. لكن هل هذه نعمة ام نقمة؟ وهل نحن سعداء بها؟ كنت اظن ذلك، لكن عندما توجهت الى مقهى النوفرة الذي يعتبر من اقدم المقاهي التي تحافظ على اصالتها الشعبية في دمشق العتيقة بدأت اتردد في يقيني هذا. في الطريق اليه يمر المرء باشد احياء المدينة أصالة وأطولها عمراً، خصوصاً سور القلعة الذي يفضي الى ساحة المسكية والجامع الاموي. واذا دار الزائر حول المسجد وبلغ الباب الشرقي للسور باب جيرون او باب النوفرة، وجد نفسه امام درجات قليلة تفصله عن المقهى. وهنا تستقبل الضيف بحرة النوفرة المجللة بالعرائش الخضراء ونباتات الزينة الدمشقية التي يطل عليها الجزء الخارجي، فيما يرتاح الرواد في الجزء الداخلي على كراسي خيزران مقششة تتوسطها طاولات رخامية صغيرة عامرة باكواب الشاي والقهوة. واذا كانت النراجيل التي تقرقر بصخب توحي بقدم المقهى، فالمكان واثاثه يحملان علامات الماضي وكأن يد التجديد لم تمتد اليهما عبر حياتهما الطويلة. عنترة والظاهر بيبرس وللمقهى موعد يومي مع الحكواتي، الذي اطلق اسمه قديماً على كل من يحفظ ويلقي عن ظهر قلب سير عنترة والملك الظاهر والزير سالم وغيرها من الحكايات الشعبية. وهذه كانت عادة منتشرة في غالبية مقاهي المدينة. غير انها خرجت من حياة دمشق شيئاً فشيئاً حتي كادت تنقرض لولا مقهى النوفرة الذي استمر في هذا التقليد ماجعله قبلة للسياح وابناء المدينة الذين لايكادون يجدون الفرصة بعيداً عن مقهى النوفرة لقضاء سهرة ممتعة مع الحكواتي. وتبدأ الامسية عادة بجلوس الحكواتي رشيد حلاق ابوشادي على كرسي من القش فوق احدى الطاولات وهو يرتدي العباءة والطربوش ويحمل سيفاً. يعلو صوته الرخيم على صخب النراجيل خلال تلاوة فصل من الحكاية. وما ان ينتهي حتى يعد جمهوره بالتتمة في الليلة المقبلة، ويهبط من على منصته ليصبح من جديد شخصاً عادياً دون سيف ولاعباءة. وصداقة ابوشادي مع هذه الشخصية الشعبية الاصيلة قديمة ... قديمة، بدأت قبل حوالي نصف قرن حين كان شاباً صغيراً دأب على الاستماع الى الحكواتي في مقهى النوفرة يومياً مع صغار الحي وكباره. وهو اعترف ل"الوسط" انه لم " يخطر ببالي يوماً ان اصبح حكواتياً، اذ بدأت اتعلم مهنة الخياطة بعدما انهيت دراستي الابتدائية من دون ان انقطع عن التردد على المراكز الثقافية لاشبع رغبتي في المطالعة". غير ان غياب الحكواتي وقصصه خلال السبعينات والثمانينات دفعه الى التفكير بملء هذا الفراغ، خصوصاً ان " صاحب المقهى النوفرة الذي اعتبره بمنزلة والدي، اخبرني اوائل التسعينات برغبة الناس في الاستماع الى الحكواتي من جديد. ولما اقترحت عليه اسماء عدة واكتشفنا فيما بعد انهم جميعا كانوا موتى، ألح عليّ بالمحاولة والقيام بهذا الدور. وبالفعل عدت الى الكتب التي تحدثت عن الحكواتيه واستفدت من مخزون ذاكرتي كما بدأت قراءة السير الشعبية الشهيرة". وعلى رغم تردده بادىء الامر، استطاع رشيد حلاق ان يثبت كفاءته في سرد الحكايات الفولكلورية باسلوب درامي مشوق. ولم يطل الوقت حتى دعاه القائمون على احد فنادق الدرجة الاولى لارتداء عباءة الحكواتي بين العاشرة والحادية عشرة ليلاً في احدى صالاتهم الرحبة التي تعج بالحضور ممن لايتسنى لهم الذهاب الى المقهى الشعبي. وكثيراً مايلقي حكاياته في البيوت والمسارح والاعراس والمهرجانات والحفلات، خصوصاً التي تقيمها مؤسسات اجنبية، فهو شارك في حفلات دعا اليها المعهد الفرنسي والمدرسة الاميركية وديبلوماسي الماني. في بيروت وجرش وبدأت شهرته تتخطى حدود المدينة، فهو حقق نجاحاً لابأس به في ايام مهرجان جرش التي حضرها كاملة العام 1994، كما حظي اداؤه بالثناء خلال شهر رمضان الماضي على مسرح المدينة في بيروت حيث دعته الفنانة نضال الاشقر لسرد بعض سيره. وهو يعتز بثقة الممثلة اللبنانية المعروفة التي قالت في حديث مع اذاعة الشرق :" انا ابحث دائماً عن الافضل. وقد استقدمت هذا العام الحكواتي من دمشق لاربعة ايام فلاقى اقبالاً كبيراً وسأقدمه لمدة اطول في سنوات لاحقة". ويعتبرها بمثابة استاذة له لانها حرصت على حضور بعض سهراته في المقهى وتقديم ملاحظات مفيدة له. ودرجت العادة ان يبقى الحكواتي على كرسيه في الفترة الفاصلة بين آذان المغرب وآذان العشاء، اذ راعى رواة السير الشعبية الاوائل اختيار الوقت المناسب للناس الذين يعودون من اعمالهم بعد يوم شاق فيؤدون صلاة المغرب في الجامع الاموي المجاور ثم يستغرقون في اجواء البطولات الغابرة مع الحكواتي حتى يحين موعد آذان العشاء. ورشيد حلاق وفيّ للتقاليد العريقة في المجتمع الدمشقي. وعلى عادة اسلافه، يروي سيرة عنترة بن شداد وسيرة الظاهر بيبرس. وقد حصل اخيراً بعد جهد كبير على سيرة ذو الهمة التي يأمل ان "تسنح لي الفرصة بروايتها في الخليج العربي لأن غالبية احداثها جرت هناك ايام العهد العباسي". وعن الوقت الذي يستغرقه في قراءة السيرة يقول ابوشادي: " هذا يحتاج عادة الى الكثير من الوقت، ومثلاً تقع سيرة عنترة في تسعة اجزاء يربو عدد صفحات كل منها على الالف اي انني اقضي حوالي سنة ونصف السنة في سردها". يحرص رشيد حلاق على احترام هذا الارث الفريد. فهو مثلاً يبدأ دائماً بعبارة هي اشبه باللازمة التي التزم بها دائماً رواة السير الشعبية الذين يفتتحون السهرة عادة بالاشارة الى اهم احداث الحلقة الماضية قائلين :" تركنا عنترة او الزير سالم ... في حيرة من امره ..." ثم يتابعون السرد. غير انه يسعى باستمرار الى ادخال بعض التجديد على اسلوبه المستقى من حكواتي ايام زمان. لذلك لجأ الى ارتداء العباءة والطربوش واستعمال السيف الذي يضرب به على قاعدة من حديد في اللحظات الحرجة. و لم يعد جمهوره يقتصر على ابناء مدينته من مثقفين وغيرهم، بل يأتي احياناً زوار اجانب او مجموعات من السياح يرافقها مترجم للاستماع الى حكاياته. لذا صار ابو شادي يستهل السهرة ويختمها ببعض عبارات الترحيب بالانكليزية والفرنسية والالمانية حين يلاحظ وجود ضيوف من هذه البلدان بين الحضور. كما يستخدم هذه العبارات اثناء سرده مقاطع الغزل بين عنتر وعبلة، ما يثير اعجاب الاجانب الحاضرين. وفي حين كان الحكواتي في الماضي حازماً له صوت جهوري ويمتنع عن المتابعة اذا قاطعه احد، يعامل حكواتي النوفرة رواد المقهى كاصدقاء يعيش بينهم. ويخرج احياناً عن النص الاصلي اذا كان هناك مبرر معقول، مع ان ذلك كان بالنسبة الى حكواتي الماضي جريمة لاتغتفر ابداً. واذا توفي احد ابناء الحي، بادر الحكواتي قبل البدء بالحكاية الى اعلان النبأ والطلب من الحضور تلاوة الفاتحة على روح الميت. ولعل هذه العلاقة الوطيدة من اسرار نجاحه وبقائه متفائلاً بالمستقبل على رغم زحف الحضارة الحديثة على عالمه العتيق، فهو واثق ان " لي روادي الدائمين والذين يطالبون بي كل يوم. لم يستطع التلفزيون ان يؤثر علي كثيراً ولكل دوره في هذه الحياة". بفضل الالفة التي تجمع بين رشيد حلاق والناس الذين يترددون على امسياته، تحفل سهرات حكواتي مقهى النوفرة بالمواقف الطريفة. لكن يطيب له ان يتذكر احد هذه المواقف الممتعة التي حصلت حين انتبه الى وجود زوجين فرنسيين في المقهى ذات ليلة فقرر ان يداعب السيدة التي كانت تصغي بانتباه الى زوجها المنهمك في ترجمة السرد الى الفرنسية. ضحك الرجل عندما اخبره الحكواتي برغبته، غير انه اشترط ان يترجم النكتة اذا اعجبته. وهنا ارتجل الحكواتي مقطعاً غزلياً قدمه على لسان بطل السيرة المتيم ببطلته وكان مطلعه: انت وانا عم يسألونا شو بنا ياقلب عشش عالسفينة غرقت انا ضحكت الفرنسية كثيراً وشكرت الحكواتي بحماس فضج مقهى النوفرة بالتصفيق ... وأُسدلت الستارة.