يعتبر الدمشقي أبو شادي رشيد الحلاق نفسه آخر حكواتي في العالم العربي. يقول إن أهل القاهرة كانوا يسمون الحكواتي الراوي، وأهل بغداد القصّاص، وفي تونس يسمونه المحدّث. حاورناه حول ذكريات رمضان في الاربعينات والخمسينات والعادات والتقاليد وطقوس رمضان وفرحة العيد. الحكواتي أبو شادي. ما الذي تتذكره عن رمضان في طفولتك؟ - في طفولتي، وقبل بلوغ سن التكليف، كنت اسأل والدي: متى سيأتي رمضان؟ أريد أن أصوم. وكنت اشاهد أهل الحارة وهم يسعون إلى الاسواق ويشترون من الطعام كميات تجعلني اتعجب: كأنهم لا يملكون في بيوتهم شيئاً من الطعام! فكانوا يشترون الجبن والمعقود واللبن المصفّى، وقمر الدين وغير ذلك. في السحور يأكلون الجبن والمعقود نوع من المربّى، وكانوا ينقعون قمر الدين ويحولونه إلى شراب، وعندما أسألهم لماذا؟ يجيبون، حتى لا نعطش في النهار. نتسحر معهم، ثم ننام. وفي الصباح لا ننقطع عن السؤال: بابا المي تفطر؟، ماما: عروسة الجبنة تفطر؟ ومتى يضرب مدفع رمضان؟... الخ من هذه الأسئلة. وكان أبي يجيب مرة بنعم، ومرة بلا، فيدور جدل بين أبي وأمي حول ذلك، فيقول لها: ما زالوا صغاراً، ولا داعي للتشدد. كنا نصوم درجات المئذنة حتى الظهر. أما الأولاد الأكبر سناً، فكانوا يصومون مثل الكبار، ويلعبون في الحارة، وهم يصرخون: يا صايم بالجنة نايم... يا مفطر بالنار بتفطر. وعندما كان يصادف رمضان في الصيف كنا نصوم حتى يتدلّى اللسان من العطش، ونشعر بدوخة وآلام في البطن، فلا نملُّ السؤال: كم بقي للمغرب؟ متى يؤذن؟ وأحياناً كنا ننام، ليوقظونا قبل الأذان بقليل. السكبة في اليوم الأول تسأل الأم: ماذا سنطبخ؟ وتتفق مع أبي على الشوربة أو الكواج بندورة وبصل، لكننا نجد في المساء الكبة والمقلوبة والرز والمجدرة والباميا والخبيزة... وتبلغ ثلاثين طبقاً في بعض الأحيان. ونسأل: من أين أتى كل ذلك؟ فتبدأ الأم بالعد، هذا من بيت فلان، وهذا من فلانة... هذه العادة اسمها السكبة، وكانت من أجمل العادات الرمضانية في دمشق أيام زمان، ولذلك كنا نقول: رمضان كريم. فحتى الناس الفقراء الذين لا يستطيعون تقديم السكبة، كان جيرانهم يسكبون لهم، فكرامة رمضان تأتي أيضاً من وفرة الطعام فيه في شكل أكبر من بقية الشهور. كانت أصناف الطعام بسيطة، فالبطاطا مثلاً كانت تقطع إلى شرائح وتُقلى بالزيت. الآن يقطعونها أصابع أو مدورة أو شرائح رقيقة ويضيفون إليها الكتشب وغيره. اليبرق كان قطعاً كبيرة، والكوسا محشي كانت تشبع رجلاً بقطعتين أو ثلاث. اليالنجي وهو يشبه اليبرق ورق العنب، لكنه يصنع من الملفوف ويُقلى بالزيت. أيام زمان لم يكن يُرمى من الأكل، لأنه لا يبقى منه شيء، وأشير هنا إلى أن السكبة لا تجوز إلا من رأس الطعام الطازج، ومن المعيب سكب الأكل من طبخ اليوم السابق البايت. الحكواتي لا بد أن لذكرياتك عن الحكواتي علاقة باختيارك هذه المهنة؟ حدثنا عن ذلك. - في تلك الأيام، كانت جلسة الحكواتي تقتصر على كبار أهل الحي، وينضم إليهم الشباب في رمضان، تاركين أماكن اللهو، التي تغلق في رمضان. ومنهم من يداوم على ذلك بعد انقضاء رمضان، ومنهم من يعود إلى عاداته القديمة. يزداد، إذاً، عدد رواد المقهى في رمضان، مما يضطر صاحب المقهى إلى زيادة عدد الكراسي. الميزة في حكواتي أيام زمان هي الاسترسال في الحكاية من دون تغيير يناسب رمضان، وتلك الميزة أراها سلبية، ولذلك أركز في ما أقصه على تضمينه العبر التي تذكر الناس بمزايا هذا الشهر دينياً واجتماعياً، وأشدد على أن رمضان ليس امتناعاً عن الطعام والشراب فقط، فالحكواتي يلعب دور المرشد الاجتماعي، فيبث الأفكار النبيلة، أو يُذكر بها، ويحذف من كتابه الأشياء التي لا تناسب حضور الشهر الكريم. النوفرة نحن الآن في مقهى النوفرة. إلى أي عهد يرجع تاريخه؟ وأين يقع؟ - يعود تاريخه إلى حوالى 300 سنة. كتب البديري الحلاق في مذكراته عن نزول الثلج قبل أكثر من 200 سنة على دمشق، وهو طفل، فكانت من غزارته أن وصل إلى حوالى متر ونصف، ويذكر أن رواق النوفرة هبط من ثقل الثلج عليه. يقع المقهى في مواجهة الباب الشرقي للجامع الأموي، ونزولاً من جهة الباب إلى درج النوفرة، فالقيمرية، حتى باب توما. ومن محيط المسجد يمكن الوصول إليه من تقاطع جادة الباب القبلي الجنوبي، مع امتداد سوق القباقبية والصاغة القديمة وصولاً إلى البزورية وقصر العظم، أو من الباب الغربي، وامتداد سوق الحميدية والمسكية. أما الباب الشمالي للجامع، فيقع في مواجهة منطقة الكلاسة، ومقام صلاح الدين الأيوبي وقبره والمكتبة الظاهرية، وقبر الظاهر بيبرس، وتمتد إلى حي العمارة ومقام السيدة رقية عليها السلام. المسحر هل يختلف المسحر اليوم عن أيام طفولتك؟ - يختلف كثيراً. كان المسحر يدق الباب بنشيده المعروف يانايم وحد الدايم... يا نايم وحّد الله واذا كان صاحب البيت متوفياً، ينادي يا أم أحمد... وحدي الله... فيّقي الأولاد ليتسحروا... الله يرحم أخي أبو أحمد... ابن الكرم والجود. بعد المغرب يأتي المسحر نفسه ويدور على البيوت ويأخذ طعاماً ونقوداً كثيرة فنسأل: لمن يأخذها؟ فيجيبوننا، للفقراء الذين لا يعرفهم أحد كما يعرفهم المسحر، لأولئك المذكورين بالقرآن تحسبهم أغنياء من التعفف. هذا الكلام عشته تماماً، وأذكر لك حادثة تخصني: نحن في بيتنا ثلاثة أمي وأبي وأنا. اشترى أبي علبتين من الغريبة حلويات، إحداهما كيلو، والثانية ثلاثة كليوغرامات، وقبل أن نصل إلى البيت أرسلني بالعلبة الكبيرة إلى بيت معين، وعندما عدت سألتني أمي فحدثتها بما جرى، فثار أبي وضربني، ثم أفهمني ألا أكرر ذلك، وعندما احتجت أمي، قال لها: الله لا يغير العوايد عن أهلها. كنا نلاحق المسحراتي ونغني وراءه أبو طبلة مرتو حبلى... شو جابت ما جابت شي... أبو طبلة مرتو حبلى... وكان يلوح بعصاه من بعيد مهدداً. في العيد كان يدور على البيوت ليأخذ عيديته، على إيقاع طبلته أولادكم بالليل قروشونا... بالرز بحليب طروشونا... كل سنة وإنتو سالمين... ينعاد عليكم بالصحة والسلامة... إن شاء الله دايماً أيامكم أعياد. فيعطونه المقسوم الذي يوزعه بدوره على المحتاجين. طعام رمضان ما هي الأصناف المميزة من الطعام في تلك الفترة؟ - في تلك الأيام لم تكن البرادات موجودة، ولذلك كنا نضع الطعام في الكبك، وهي صينية مثقبة، تعلق في حبل إلى مكان مرتفع لتبقى باردة وبعيدة عن الأيدي. وبالنسبة الى الثلج كنا نشتريه من البائع الذي كان ينادي الميّة فيجة والثلج معمل. كنا نضع الثلج في الماء أو التمر هندي والعرقسوس أو العصير. من الحلويات المعروفة أيضاً، النهش والمعزول. على العموم كان أكلنا بسيطاً، وكانت الفاصوليا العريضة أكلة فاخرة مثلاً، وعلى رغم ذلك كنا نشعر بالسعادة أكثر مما نحن فيه الآن. تباشير العيد وهل تغير العيد في أيامنا هذه عن تلك الأيام أيضاً؟ - في النصف الثاني من رمضان يبدأ المشايخ بتجنيد بعض أهل الحارة لجمع تبرعات للفقراء، عدا الزكاة وفطرة رمضان. ونبدأ بشراء كسوة العيد، فاللباس كان الشروال والصديري، وهناك شروال خاص للصلاة والمناسبات والأعياد، حتى عند الأغنياء. نفرح بالعيد، ونحلم بالمرجوحة والدويخة، ونتفرج على أبو راس مقطوع، ونشتري الألعاب من عيدياتنا. ليلة العيد نضع ملابسنا الجديدة على المخدة، ونتوسد السبّاط الحذاء وننام عليه وهو جديد ويلمع. عندما نستيقظ نذهب إلى صلاة العيد، وبعد ذلك إلى سوق الحميدية، لنتفرج على السلاملك وهي فرقة المراسيم، التي تعزف على الطبول والآلات النحاسية، ونشاهد قائد الفرقة وهو يلعب بالحكم العصا، وعندما يأتي الرئيس كنا نصفق ونصفر، وفي أيام المرحوم الرئيس شكري القوتلي، كان ينزل في أول سوق الحميدية ويسلم على الناس في طريقه إلى الجامع الأموي. أبو راس مقطوع من الألعاب المحببة إلى الصغار، فكنا نرى رأساً يخرج من صندوق وهو يتكلم! كنا نأكل الفول النابت، والمخلل، ونشاهد السعدان وهو يقلد نوم العجائز أو الصبايا أو عجين الفلاحة، وعندما نعود إلى البيت نجد العقوبة بانتظارنا لأننا وسخنا ثيابنا. كانت الفرحة مالية قلوب العالم. الآن كثير من الفقراء لا يشعرون بفرحة العيد، ومع توسع المدن لم يعد أحد يشعر بهم، والجمعيات الخيرية لا تعوض عن شعور الناس ببعضهم بعضاً مهما فعلت. ليل رمضان ماذا عن ليالي رمضان؟ - الكبار يذهبون إلى الجامع لصلاة العشاء والتراويح، ثم إلى المقهى لسماع الحكواتي، وعندما كان أبي يعود إلى البيت، كنا نطلب منه أن يقص علينا حكاية، من قصص الأنبياء أو قصة المعراج، أو من ما سمعه من الحكواتي. كان يسترسل في القصة إلى أن ينام وهو يحكي، فننتظره في الليلة التالية ليتابع القصة، وهو يقول: أين وصلنا؟ أما النساء فكنّ يتزاورن للتهنئة برمضان، ومنهن من تذهب لصلاة التراويح في الجامع، ويجتمعن أحياناً في بيت ويصلين التراويح جماعة. ضرب الشواكر عودة إلى الحكواتي. ما الذي أضفته من أسلوبك إلى مهنة الحكواتي؟ - كان الحكواتي يروي القصة حرفياً كما هي، حتى لو كان فيها دعوات غير أخلاقية. أنا لا أقبل ذلك، فأرفض الطائفية، وعندي الدين لله والوطن للجميع، فكنت أغير من تفاصيل الحكاية بحيث أحملها قيمة أخلاقية، وأتجاوز كل ما يدعو إلى التفرقة. كذلك أحاول مجاملة الحضور، وعندما أعرف أنك بيروتي، أحوّر القصة لأجعل الإفرنج يحتلون بيروت، فيأتي الظاهر بيبرس ليطرد المحتلين ويحررها، وأحاول مخاطبة السواح، على قدر ما أعرف، بلغتهم، فبضع كلمات تضفي على الترحيب نوعاً من الحرارة. الحكواتي في أيامنا تلك كان يقرأ فقط، لكن المستمعين كانوا جيدين، فيتمسكون به حتى النهاية، وهنا الفرق، لأن مستمعي هذه الأيام متطلباتهم كثيرة، ولذلك امثل الحكاية، واقوم بحركات كثيرة حتى اشدهم إليّ. وعندما يقع ابراهيم سيد العذارى، وهو عطشان في المعركة، ويطلب من صديقه الماء، يقول الأعداء: إذا شرب سيظل يحاربنا شهراً، وهنا أتذكر سيدنا الحسين في كربلاء، عندما يمنعون الماء عنه ويقتلونه. يقول سيد العذارى: ليّ يا سعد ليّ... اسمع كلامي يا مكحّل وافهمو إني على ضرب الشواكر علقما. يا سعد اسقيني نقطة مي... وتفرج على ضربات خيّك. الشواكر هي السيوف. عندما أروي ذلك أبكي وأتصور هذا الموقف، وموقف سيدنا الحسين. وهذا ما لم يكن يفعله حكواتي أيام زمان.