محافظ محايل يبحث تطوير الخدمات المقدمة للمواطنين    المودة عضواً مراقباً في موتمر COP16 بالرياض    قبل مواجهتي أستراليا وإندونيسيا "رينارد" يستبعد "العمري" من قائمة الأخضر    شرعيّة الأرض الفلسطينيّة    «الاختبار الأصعب» في الشرق الأوسط    حديقة ثلجية    «الدبلوماسية الدولية» تقف عاجزة أمام التصعيد في لبنان    البنك المركزي السعودي يخفّض معدل اتفاقيات إعادة الشراء وإعادة الشراء المعاكس    الهلال يهدي النصر نقطة    رودري يحصد ال«بالون دور» وصدمة بعد خسارة فينيسيوس    لصوص الثواني !    مهجورة سهواً.. أم حنين للماضي؟    «التعليم»: تسليم إشعارات إكمال الطلاب الراسبين بالمواد الدراسية قبل إجازة الخريف    لحظات ماتعة    محمد آل صبيح ل«عكاظ»: جمعية الثقافة ذاكرة كبرى للإبداع السعودي    فراشة القص.. وأغاني المواويل الشجية لنبتة مريم    جديّة طرح أم كسب نقاط؟    الموسيقى.. عقيدة الشعر    في شعرية المقدمات الروائية    الهايكو رحلة شعرية في ضيافة كرسي الأدب السعودي    ما سطر في صفحات الكتمان    متى تدخل الرقابة الذكية إلى مساجدنا؟    وزير الصحة يتفقد ويدشّن عدداً من المشاريع الصحية بالقصيم    فصل الشتاء.. هل يؤثّر على الساعة البيولوجية وجودة النوم؟    منجم الفيتامينات    نعم السعودية لا تكون معكم.. ولا وإياكم !    أُمّي لا تُشبه إلا نفسها    جودة خدمات ورفاهية    أنماط شراء وعادات تسوق تواكب الرقمنة    كولر: فترة التوقف فرصة لشفاء المصابين    الأزرق في حضن نيمار    ترسيخ حضور شغف «الترفيه» عبر الابتكار والتجديد    الناس يتحدثون عن الماضي أكثر من المستقبل    من توثيق الذكريات إلى القصص اليومية    قوائم مخصصة في WhatsApp لتنظيم المحادثات    الغرب والقرن الأفريقي    الحرّات البركانية في المدينة.. معالم جيولوجية ولوحات طبيعية    الاتحاد يتغلب على العروبة بثنائية في دوري روشن للمحترفين    ضبط شخصين في جدة لترويجهما (2) كيلوجرام من مادة الحشيش المخدر    المربع الجديد يستعرض آفاق الابتكار الحضري المستدام في المؤتمر العالمي للمدن الذكية    أمير القصيم يرعى حفل تدشين 52 مشروعا صحيا بالمنطقة بتكلفة بلغت 456 مليون ريال    فقيه للرعاية الصحية تحقق 195.3 مليون ريال صافي ربح في أول 9 أشهر من 2024 بنسبة نمو 49%    رحيل نيمار أزمة في الهلال    مبادرة لتشجير مراكز إسعاف هيئة الهلال الأحمر السعودي بمحافظة حفر الباطن    نائب أمير الشرقية يطلع على جهود اللجنة اللوجستية بغرفة الشرقية    أمير الباحة يستقبل مساعد مدير الجوازات للموارد البشرية و عدد من القيادات    المريد ماذا يريد؟    أمير تبوك يبحث الموضوعات المشتركة مع السفير الإندونيسي    الدولار يقفز.. والذهب يتراجع إلى 2,683 دولاراً    رينارد يعلن قائمة الأخضر لمواجهتي أستراليا وإندونيسيا في تصفيات مونديال 2026    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني وفريق عملية زراعة القلب بالروبوت    ليل عروس الشمال    التعاطي مع الواقع    التكامل الصحي وفوضى منصات التواصل    الداخلية: انخفاض وفيات حوادث الطرق بنسبة 50%    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني    سلام مزيف    همسات في آذان بعض الأزواج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحلة في حياة وأعمال الفنان السوري العائد . دريد لحام ل "الوسط": اعتزلت المسرح لأن العربي فقد الاهتمام بالقضايا الكبرى 2 من 3
نشر في الحياة يوم 18 - 03 - 1996

كثيرون من الذين تابعوا، في الآونة الأخيرة مسلسل دريد لحام الجديد "احلام ابو الهنا" اثنوا عليه، واعتبروه تجديداً في مسار هذا النجم العربي، الذي لفت غيابه الانظار خلال السنوات المنصرمة، حيث ندرت اعماله التلفزيونية، وقلّ نشاطه السينمائي وابتعد عن المسرح. لمناسبة عودة دريد لحام، في صورة ابي الهنا هذه المرة، قصدته "الوسط" في دمشق، وأجرت معه حواراً طويلاً عن مساره الفني والحياتي. في ما يأتي الحلقة الثانية منه.
منذ برامجه التلفزيونية الأولى، وشخصية "دون كارلوس" التي لعبها ويبدو حالياً نادماً عليها، وحتى اليوم حيث يحلق، من جديد، في شخصية مبتكرة يرسم من خلالها، بعض الواقع العربي والسوري، كان دريد لحام، في الدرجة الأولى نجماً تلفزيونياً. وهو لا يفوته ان يلفت، عادة، الى هذا الجانب من شخصيته، مركزاً على دور "غوار الطوشي" الذي كان أحد اسباب شهرته الأساسية. في التلفزة كان مسار دريد لحام طويلاً، وعرفت مسلسلاته شهرة واسعة من "وادي المسك" الى "الدغري" ومن "صح النوم" الى "حمام الهنا"، شهرة جعلت منه واحداً من أبرز نجوم التلفزة العربية. ولكن دريد أبدع كذلك في الأعمال المسرحية، بدءاً من "مسرح الشوك" ذلك العمل المتنوع الانتقادي الساخر الذي كان اشبه برد على الهزائم العربية، وصولاً الى المسرحيات التي سار في بعض جوانبها على النمط الرحباني من المزج بين التمثيل والغناء، والبطولة الفردية والبطولة الجماعية، والنقد الاجتماعي بالغضب الوطني. وهكذا من "ضيعة تشرين" الى "كاسك يا وطن" ومن "غربة" الى "صانع المطر" وغيرها، ولا سيما في الأعمال التي كتبها له محمد الماغوط، تمكن دريد لحام من ان يؤسس المسرح السوري تأسيساً جديداً يختلف عن اساليب تأسيسه كما تبدت في سنوات الخمسين ثم الستين مع العديد من الفرق الشعبية المسرح الشعبي، المسرح الحر ثم مع مسارح الدولة المسرح القومي والمسرح العسكري ومسارح التلفزيون. مع دريد لحام بدأ المسرح السوري يتخذ توجهات جديدة، وبدأ، كذلك، يلتقي بانماط جديدة من الجماهير.
اما في السينما، فينقسم انتاجه الى قسمين اساسيين اولهما يشمل بداياته السينمائية عبر افلام ترفيهية - تجارية حاولت ان تستفيد من الشعبية التي حققها له التلفزيون، فقدمت من خلاله، من خلال شراكته مع الراحل نهاد قلعي، اعمالاً سيكون من الصعب وضع اي منها في خانة الخلود، اما القسم الثاني فيشمل الاقلام التي حققها دريد لحام بنفسه وتبدت على الدوام مختلفة عن السائد السابق، فبدت اقرب الى عالمه المسرحي الغاضب والهادف وافلام القسم الثاني هي، بالطبع، "الحدود" و"التقرير" ثم "الكفرون" وان كان هذا الأخير لا يضاهي الأولين جودة ومعنى.
عن هذا الانتاج ونظراته اليه اليوم، يحدثنا دريد لحام، في هذا الجزء الثاني من حوارنا معه.
اعتزلت المسرح نهائياً
دريد، انت في المسرح، اكثر مما في اي مكان آخر، ابديت القدر الأكبر من الغضب على الوضع العربي الراهن، الى درجة بدوت معها احياناً وكأنك في سلك الوعاظ، وبدا عليك دائماً انك تراهن على المسرح لعله يصلح الأوضاع العربية. في هذه المرحلة تبدو بعيداً جداً عن المسرح. هل معنى هذا ان الوضع العربي بات مُرضياً لك بحيث انه لم يعد بحاجة الى اصلاح، ام انك عاجز عن العثور على الموضوع المسرحي الملائم؟
- أنا في الحقيقة لست بعيداً عن المسرح الآن. انا اعتزلت المسرح نهائيا...
تفاجئني، لكن هذا لا يبدل من طبيعة سؤالي: في رأيك، اذن، تحسن الوضع العربي وانتفت الأسباب التي كانت تحضك على خوض اللعبة المسرحية الاستفزازية؟
- ابداً... بالعكس، على العموم انا لدي ثلاثة اسباب دفعتني الى اعتزال المسرح. اولها ان هذا الفن بحاجة الى طاقات الشباب، وأنا اليوم في الحادية والستين من عمري. وحاجة المسرح الى الجهد اليومي باتت فوق طاقتي الجسدية والروحية. ثانياً، انا في آخر مسرحية عملتها "صانع المطر" تعمدت ان ارفقها بمسرحية للأطفال حملت عنوان "العصفورة السعيدة". وفي هذا العمل وضعت كل ما لديّ من افكار تتعلق بأطفال الجيل الجديد، بحيث لم يعد لدي ما هو جديد في هذا المجال. اما السبب الثالث فهو ان مسرحي مسرح عربي ملتزم، يتوجه الى المواطن العربي، ويبدو لي اليوم - وأرجو ان اكون مخطئاً في قولي هذا - ان المواطن العربي فقد الاهتمام بالقضايا الكبرى. رغيفه كان قطره عشرة سنتمترات، صار قطره اليوم عشرة آلاف كيلومتر. صار الهم اليومي هو الغالب لدى المواطن - ويخطف بقية ما تبقى من اهتمامات. دعني اقول لك اننا منذ زمن، حين كنا نتلفظ على الخشبة بعبارة تتحدث عن الوحدة العربية كان ذلك يستدر عاصفة من الهتاف والتصفيق. اما حالياً فان اي حديث عن الوحدة العربية بات يبدو في منتهى السخف امام جمهور اليوم. وهو أمر مؤلم وموجع لي شخصياً. ومع هذا، على رغم كل الأوضاع الصعبة التي نعيشها، سأقول لك ان عليّ الا اكفر بكل ما حلمت به وانا صبي ثم وأنا شاب، وهو نفس ما رضعته حين كنت طفلاً. الواقع كئيب لكنه لا يحب ان يقتل الطفل الخائف في اعمق اعماقنا اليوم. هل أقول لك بأنني - بعد كل شيء - واثق ان الحلم سيتحقق، ولست انت من سيعارضني في تأكيدي هذا، أليس كذلك؟ الوحدة نفسها سوف تتحقق ان لم يكن اليوم ففي الجيل المقبل، فان لم تتحقق عند ذلك ستحقق ولو بعد عشرة اجيال. ولكنها، من الآن وحتى تتحقق ستكون بحاجة الى كثير من الدمع والدم والخيبة والجهد. وكل هذا سيكون من نصيب الاجيال الآتية.
افلامي القديمة لم تعد ترضيني
لنعد، اذن، الى اوائل الستينات. في تلك المرحلة كانت كذلك بداياتك السينمائية. في العام 1983 كان فيلمك الأول "عقد اللولو" ثم كان "تدمر" و"المليونيرة". وكلها افلام قد لا ترضيك ولا ترضينا اليوم. بشكل عام ما هو رأيك بالسينما. التي تحمل اسمك؟
- يجوز انني اليوم حين انظر الى مثل هذه الافلام، لن اشعر ان بامكاني ان اكون راضياً عنها بأي حال من الاحوال والسبب بسيط، فأنا اليوم، بعد ثلاثين سنة، تمكنت من تخزين ثقافة ومعرفة وتجربة تجعلني اشعر انني منفصل عن تلك الأعمال. من هنا، حين انظر الآن الى هذه الافلام انطلاقاً من المخزون المعرفي الذي احمله، سوف لن ارضى عنها. ولكن لو اعود وأنظر اليها من منظور مستوى وعيي لتلك المرحلة سوف يكون حكمي عليها اكثر انصافاً وتسامحاً. مهما يكن، لو عدت الى الماضي وطلب اليّ ان اعيد تحقيق تلك الافلام نفسها، لن ارضى. في جميع الاحوال، سبق ان قلت لك انني خريج تجربة حياتية متدرجة ولست خريج اي اكاديمية فنية. التجربة المتدرجة هي التي صنعتني. وفي تلك المرحلة كنت اعتقد ان تلك الافلام هي اقصى ما يمكنني الوصول اليه. المسألة تشبه تجوالنا اليوم في حي دمشقي قديم، سوف نكتشف كم ان ازمته ضيقة وصغيرة، بينما في الماضي، حين كنا صغاراً كانت تلك الأزمة نفسها تتراءى لنا واسعة، وضخمة. المسألة نسبية، اولاً وأخيراً.
هل يحدث لك ان تشاهد تلك الافلام اليوم؟
- طبعاً وأكثر مما تعتقد، انها تسليني وتفرحني...
ماذا يخطر في بالك ازاءها؟ هل تشتاق مثلاً الى دريد الذي كنته في ذلك الحين؟
- ربما، اشتاق اليه، وربما استعيد لحظات حلوة كانت غابت عن ذاكرتي. وربما يخالجني شعور بأن بامكاني اليوم ان احقق الفيلم نفسه بشكل أفضل. وهناك افلام احس أنني اخطأت اصلاً في العمل فيها، حتى انطلاقاً من مقاييس تلك المرحلة.
مثل؟
- مثل ماذا؟ مثل "الشريدان" هذا الفيلم لن ارضى بالعمل فيه حتى ولو عاد العمر فيّ الى الوراء، ولو كانت المغريات كثيرة. في النهاية انا انسان تعلمت كثيراً من اخفاقاتي، تعلمت من عثراتي كما تعلمت من نجاحاتي. المسألة نسبية كما قلت لك، وكل شيء يتعلق بالنظرة المختزنة في الأعماق.
لكي لا يعتقد قارئ هذا الحوار انك لم تمثل الا في افلام ترفيهية لتتذكر انك مثلت، حقاً، في افلام سائدة وتجارية، لكنك حين تحولت من ممثل الى ممثل / مخرج، حققت افلاماً ملتزمة جادة ومتفوقة فنياً. ترى هل كنت تقصد ان تحقق افلاماً تأتي كرد فعل على الافلام الأخرى التي كنت تمثلها لحساب الآخرين؟
- لا اعتقد ان المسألة كانت على هذا النحو. لا اعتقد ان شعوري بأنني اخطأت الاختيار في بعض الاحيان كان هو الذي يدفعني الى تحقق أفلام أعوض بها. اذكرك انني في التلفزة حققت اعمالاً تنتمي الى الترفيهي السائد بشكل كلي، وكنت انا المسؤول عنها من الناحية الفكرية كما من الناحية الشكلية. بصراحة، في جميع الاحوال لم تكن المسألة، بالنسبة اليّ مسألة اختيار هدف محدد للفن كأن أفرق بين الفن للضحك والفن للفن والفن للموقف. كانت قضيتي الأولى والأخيرة قضية التعبير الفني نفسه. وبشكل اولى قضية الوصول والانتشار. بعد ذلك وفي مرحلة تالية اخذت اشعر ان هناك اموراً كبرى في الوطن العربي تستدعي التزام الفنان الذي يتعين عليه ان يخدم تلك الأمور وقضاياها. خذ الشعر مثلاً، في البداية يكون هم الشاعر ان يعرفه الناس وينتشر، وبعد ذلك يروح مستخدماً انتشاره وشعبيته للدفاع عن القضايا الكبرى.
حين تكون النجومية عبئاً
من ينظر الى خارطة "النجومية" في الساحة الفنية والثقافية لوطننا العربي يلاحظ دائماً تفرد النجوم، كما لو ان الساحة لا تتسع الا لنجم واحد في فن واحد. فهل تعتقد ان من الأمور العادية او الصحية ان يكون هناك فنان واحد، يصل في نجوميته وانتشاره بحيث يعمل وحده عبء الحركة الفنية في بلد بأسره؟ هل يكون هذا الأمر مصدر سعادة ام مصدر شقاء للفنان / النجم في رأيك؟
- بكل صراحة، في مرحلة من المراحل يجوز لمثل هذا الوضع - ان كان صحيحاً وان كان ينطبق حقاً على النجم العربي - ولست ادري ما اذا كنت اوافقك على كونه ينطبق عليّ، يجوز له ان يكون مصدر فرح وسعادة وكبرياء للفنان المعني به. ولكنه، مع مرور الوقت، يصبح عبئاً عليه، حيث يجعله عاجزاً، حتى، عن الاعلان بأن الأوان قد آن له حتى يستريح...
طيّب، هل تعتقد ان دريد لحام، التلفزيوني خاصة، خلق مدرسته ام انه ظل حتى الآن نسيج وحده؟
- دعني اعارضك على طول بالنسبة الى مسألة المدارس هذه. انا لا اعتقد ان هناك في الفن مدارس. هناك حالات لا اكثر ولا أقل...
سأطرح سؤالي بشكل آخر: هل تعتقد ان وجودك ونجاحك قد أديا الى احداث تبديل ما في الأساليب الفنية، شمل عدداً من الفنانين، أم بقيت وحدك ملك اسلوبك؟
- لا استطيع أن أقول ما اذا كنت غيرت ام لم اغير. وسأقول لك لماذا. قبل الستينات، وخاصة في الخمسينات لم يكن الفن في سورية متوجهاً الى الناس جميعاً. فقط حين جاءت التلفزة خدمت كنافذة اوصلت الفن للناس... كل الناس. قبل التلفزة لم تكن هناك حالة فنية واضحة يتفاعل معها الجمهور، حتى يمكن ان يقال انني احدثت فيها تغييراً...
ألست ترى، اذن، ان تجربة حكمت محسن وانور البابا في "المسرح الشعبي"، ثم خاصة تجربة عبداللطيف فتحي ورفاقه في "المسرح الحر" كانتا تشكلان حالتين شعبيتين موجودتين وعلى علاقة بجمهور عريض، صحيح لم يكن له عرض جمهور التلفزة، لكنه كان عريضاً على اي حال. ترى أفلست ترى معي، انك حين اتيت متواكباً مع حضور التلفزة، احدثت انقلاباً فيما هو قائم، لكنك لم تأت من عدم ووسط العدم؟
- ابداً... ابداً. لم آت من العدم. لقد كان كل هؤلاء الاساتذة الكبار موجودين حقاً، ويشكلون حالة شعبية معينة نحن كنا ولا نزال اصداء لتجربتهم الفنية، تعلمنا عليهم حتى ولو لم نشعر، يومها بذلك...
هل شاهدت اعمالاً لحكمت محسن؟
- لا... لكني سمعت العديد من اعماله ومن اعمال رفاقه في تسجيلات اذاعية وبالتالي اقول لك: أجل... هناك حالات غنية. كانت هناك تجارب، ولكن لم يكن هناك شيء غيرناه. التلفزيون شيء آخر، حين اتى كان فرجة من نوع جديد، احبه الناس وتعاملوا معه تعاملاً جديداً. التلفزيون خدم الفنانين خدمات استثنائية، عبر تحقيقه لانتشار لا سابق له.
وانت، من خلال شخصية غوار خاصة، ثم من خلال سينما دريد، ومسرح دريد، ساهمت في خلق توجه جديد... جديد كلياً...
- يمكن ساهمت في التصميم، في تصميم الحالة الفنية. لكني لم أساهم كمدرسة، فأنا لا اعترف بالمدارس. اعترف فقط بفردية المبدع الفني. أنا ارى ان حالتي استمدت زخمها من المخزون الشعبي. ومن هنا تمكنت من ان تنتج العلاقة الخاصة التي قامت بينها وبين الناس.
يوم كنا أنا ونهاد متكاملين
في بدايات سنواتك الجامعية، ماذا كنت تقرأ وما هي السينما التي كنت تحب مشاهدتها؟
- الحقيقة انني كنت اقرأ كل ما كان يتاح لي. غير ان ما كونني لم يكن القراءة بل الممارسة الفنية والثقافية. كان هناك في دمشق وحدها نحو 20 الى 30 تجمعاً فنياً وثقافياً باسم نادٍ او جمعية، كانت الحركة الفنية والثقافية كلها تمر من خلال تلك التجمعات رغم ضآلة عدد جمهورها. كانت كلها مجرد مبادرات فردية خاصة يغلب عليها طابع التسلية اكثر منها جزءاً اساسياً او حقيقياً من حركة فنية متكاملة. من تلك التجمعات اذكر مثلاً "النادي الشرقي" الذي كان يقدم مسرحيات كلاسيكية تاريخية وطنية، ولكن غالباً ضمن اطار مفهوم "الفن للفن". لست اقول هذا لانتقد، بل على سبيل تقرير الأمر الواقع. بعد ذلك حين بدأ التلفزيون نشاطه، دخل المسرح في لعبة الفن والالتزام والمسؤولية، وبتنا اليوم نحسب موقف الفنان ايديولوجيا ونصنفه. لقد صعّبنا الأمور كثيراً، اليس كذلك؟
كيف تعرفت على المرحوم نهاد قلعي، وكيف تنظر الى دوره في مسارك الفني؟
- صمت طويل، ينظر خلاله دريد الى جهاز التسجيل، ثم يخبط باصابعه على طاولة المكتب، وقد ساد نظراته حزن عميق "نهاد تعرفت عليه بالمصادفة، ولكن بصورة طبيعية. كان في ذلك الحين من مؤسسي النادي الشرقي وأحد أهم اعضائه كما كان اشتهر بادواره الرائعة في مسرحيات كلاسيكية ضمن اطار المسرح القومي. بعد ذلك التقينا معاً في عمل تلفزيوني حمل اسم "الاجازة السعيدة" وكان ذلك في العام 1960. ومنذ ذلك اللقاء لم نفترق، حيث اكتشفت اننا نفكر مثل بعضنا، وان هناك تقارباً في نظرتنا الى الفن وربما كان التناقض الشكلي بيننا هو الذي املى علينا الرغبة في العمل معاً. كنا متكاملين، ومنذ اليوم الأول بدأ التعاون بيننا غزيراً ووثيقاً.
منذ مسرح الشوك ذي الأثر الكبير في الحياة الفنية السورية، الى مسرحيتك الأخيرة "صانع المطر" قدمت مسرحاً ينظر اليه العديد من النقاد على انه أرقى من معظم السينما التي قدمتها، بل يراه كثيرون واحداً من ارقى المسارح العربية، ومع هذا هناك من يتهم مسرحك بأنه مسرح تنفيسي، وقيل انه يستخدم اقصى درجات الديموقراطية المتسامحة ليوصل الجمهور الى حالة تنفيس. انت كمثقف كيف تنظر الى مسرحك؟
- بشيء من الغضب "... اخي الكريم، انا انظر الى الفن انطلاقاً من مقولتين لا ثالثة لهما: فإما انه فن كاذب، وإما انه فن صادق. وانظر الى مسرحي على انه مسرح صادق. الا ترى معي ان الوقت قد حان لمعرفة ان مسألة تنفيس او غير تنفيس، انما هي من الكلمات التي اخترعها المثقفون او بالأحرى المتثاقفون العاطلون عن العمل وعن العطاء؟ يتهيأ لي ان هذه الكلمات مخترعة اختراعاً، ولا علاقة لها بالمسرح او بالسينما او بالتلفزيون. على اي حال التهمة - تهمة التنفيس - موجهة في نهاية الأمر الى الجمهور لا الى العمل. انها تهمة بشعة. فالتنفيس والتحريف امران يرتبطان بالتلقي لا بالعمل. المهم ان يكون الجمهور قابلاً او غير قابل لأن يحرض. اما وضع اللوم على المسرح فأمر مدهش وكريه. ليس هناك تنفيس او تثوير. العمل الفني في احسن احواله يشكل مخزوناً جمالياً وفكرياً، اشارة فكرية. الفن يحرض فكرك. فاذا كان الفن المسرح الصادق ينفس، فما الذي يفعله المسرح الكاذب؟! انا قلت لك، وأقولها مراراً وتكراراً، انني اقدم مسرحاً صادقاً، يسعى الى حوار فكري، الى مراجعة الذات ويتعاطى مع حالة الجمهور...
أعمالي مع الماغوط رد على الهزيمة
على الدوام كانت مسؤوليتك عن الأعمال التي تقدمها مسؤولية كاملة. فانت عند بداياتك لم تستغرق وقتاً طويلاً حتى تصل بالجمهور الذي اكتشفك واحبك باكراً وسار معك. ومع هذا نلاحظ ان الاعمال التي تعاونت فيها مع كاتب مثل محمد الماغوط، تختلف جذرياً عن الأعمال التي حققتها شراكة مع نهاد قلعي. ترفيه هنا، ورسالة والتزام وغضب هناك.
- "اذا كان كلامك لا يحمل غير ما يبدو في مظاهره... اوافقك عليه...
طيب، هل يعود هذا التفاوت الى كونك قابلاً لأن تتأثر بالآخرين؟
- قل بالأحرى انني اخضع لتأثير الظروف العامة والمناخ المحيط بي. خذ مثلاً، في العام 1967، عند الهزيمة العربية الكبرى. كنا في عنفوان الشباب، وجاءت الهزيمة لتنسف احلامنا وتكشف اناشيدنا الوطنية، احدثت فينا شرخاً عميقاً، فرحنا نفكر كشبان وفنانين. وفي العام 1973 حصل الانتصار على الذات، تحرر الجندي العربي من هزيمته. في العام 67 عاد الجندي العربي خاسراً ارضه حاملاً هزيمته. صحيح انه في العام 73 لم يستعد الأرض التي كان عليه ان يستعيدها حقاً، لكنه انتصر على ذاته وعلى هزيمته. ونحن كفنانين شعرنا ان الفن يجب ان يكون له دور. لم تعد السلبية او الحياد يرضيان سلوكنا ووجداننا. وانا شخصياً رحت ابحث عن جديد. وفي تلك اللحظة بالذات تعرفت على محمد الماغوط، وكان في ذلك الحين شاعراً معروفاً بتمرده وغضبه، فكان من الطبيعي ان نتعاون معاً، واتخذت اعمالنا ابعاداً جديدة، واكبت التغيير الحاصل، فكانت مسرحية "ضيعة تشرين" التي كانت بداية جديدة لي... وله، وللمسرح السوري بشكل عام.
الحلقة المقبلة: من "تشرين" الى الرحابنة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.