تناقلت بعض وسائل الاعلام قبل أيام تصريحاً للمثل السوري (دريد لحام) في مقابلة له على إحدى الفضائيات اللبنانية بأنه (سيتخلى عن جنسيته السورية في حال سقط الأسد). من جهتي، فلم أكلف نفسي حتى مشقة البحث عن هذه المقابلة لأنها لم تفاجئني أصلاً، فالرجل ومنذ بداية الثورة وقف مع النظام القاتل وبصراحة لاتقبل التأويل ضد الشعب المنكوب. وهو بذلك إنما يكون قد سقط مرتين، مرة فنياً ومرة إنسانياً وتلك هي القصة. بدأ (دريد محمد حسن لحام) مسيرته الفنية في السيتينيات من القرن الماضي بتمثيل أداور كوميدية مختلفة منها شخصية مكسيكية باسم (كارلوس) ليستقر بعدها على شخصية (غوار الطوشة) الكوميدية المستقاة من التراث الدمشقي. وقد لوحظ أن نجمه قد بدأ بالصعود السريع بعد وصول (حافظ الأسد) إلى السلطة عام 1970 ليصبح نجم الكوميديا السورية الأول وواحد من نجومها العرب. لم يكن السوريون في ذلك الوقت يفكرون بطريقة طائفية كما هم الآن، وبالتالي كان القليل منهم يعرفون أن (دريد) من الطائفة الشيعية. كما وأن معظمهم رحب بوصول (الأسد الأب) إلى الحكم، بالرغم من أنه لاينتمي للأكثرية السنية كما ينص الدستور، والسبب هو أنه خلصهم من كابوس العصابة التي كانت تحكم قبله. ولكنهم لم يدركوا حينها أنهم كانوا، كقول المثل الشعبي، (كمن يستجير من الرمضاء بالنار)، كما ولم يتمكن معظمهم من الربط بين زمن صعود نجم (دريد لحام) وبين وصول العصابة الطائفية إلى سدة الحكم. أحب الناس (دريد) في الأعمال التلفزيونية والمسرحيات التي قدمها حصراً في السيتينيات والسبعينيات، وسنذكر السبب لاحقاً، في حين أن أفلامه السينمائية غلبت عليها الصبغة التجارية ولم تحو على قيمة فنية تذكر. أما مسلسلاته التلفزيونية التي وضعته على عرش النجومية فكانت (مقالب غوار 1968، حمام الهنا 1968، صح النوم 1972). وأعماله المسرحية الأهم فكانت (ضيعة تشرين 1974، غربة 1976، كاسك ياوطن 1979) حيث وصلت نجوميته إلى ذروتها مع (غربة) وبقيت تراوح مكانها حتى (كاسك ياوطن) والتي تعتبر آخر أعماله المسرحية خصوصاً والفنية عموماً الجديرة بالمشاهدة. أرى هنا أن (دريد) الكوميدي الشعبي قد انتهى مع نهاية مسلسل (صح النوم)، ليبدأ بعدها (دريد) الكوميدي السياسي والذي تجسد في المسرحيات الأنفة الذكر والتي إنما نجحت لأن حافظ الأسد لم يكن قد بدأ بعد عصر المجازر وكان معظم الشعب لايزال مخدوعاً به كبطل (التصحيح والتحرير). ولذلك نجد أن الخط البياني لأعمال (دريد) السياسية قد بدأ بالهبوط مع مسرحية (شقائق النعمان 1987) التي أتت بعد مجازر تدمر (1980) وحماة (1982) وغيرها والتي كشفت حقيقة (الأسد) وبالتالي حرقت أوراق المطبلين والمزمرين له من أمثال (دريد) وغيره. أما إعلان سقوط هذا (الممثل) بالضربة القاضية (الفنية) فأتى في مسرحية (صانع المطر 1994)، وأيضاً في مسلسلات هابطة مثل (الدوغري 1992) و(أحلام أبو الهنا 1996) وغيرها. اكتشف السوريون بعد ذلك أن (دريد لحام) لم يكن (فناناً) بمعنى الكلمة بقدر ماكان (ممثلاً) اعتمد في نجاحه على كاتب النص أولاً والفريق الفني الذي يعمل معه ثانياً والأوضاع السياسية السائدة ثالثاً، فاذا غاب أحدها أو تغير، فشل ولم تنفعه موهبته التمثيلية. ولا أعتقد هنا أن اثنين في الوسط الفني يختلفان حول هوية الرجل الذي أوصل (دريد) إلى النجومية ويستحق لقب (الفنان العبقري)، فهذا الرجل لم يكن سوى الراحل (نهاد قلعي 1928-1993) مؤسس المسرح القومي السوري. تتجلى عبقرية (نهاد) أكثر ماتتجلى في أنه (كاتب) المسلسلات التلفزيونية الثلاثة الأولى الآنفة الذكر والتي أسست للكوميديا السورية وأوصلت (دريد)، مع من أوصلت، إلى سدة الشهرة. كما أنه لعب إلى جانبه في تلك المسلسلات شخصية (حسني البورظان) الجميلة التي هي سر نجاح شخصية (غوار الطوشة) التي لعبها (دريد) وأوصلته إلى الشهرة. وللبرهان على مقولة فضل (نهاد) على (دريد) يكفي أن نعرف أن آخر عمل فني اشترك فيه معه كان مسرحية (غربة)، وهو العمل الذي، كما سبق وذكرت، بدأت بعده نجومية (دريد) بالمراوحة مكانها حتى (كاسك ياوطن) حيث بدأت أعماله بعدها بالهبوط الواضح. الجدير بالذكر هنا أن الفنان العبقري (نهاد قلعي) قد تم تغييبه عن الساحة الفنية بعد تعرضه لاعتداء بالضرب على رأسه خلال فترة التحضير لمسرحية (غربة) عام 1976 من قبل (المخابرات) السيئة الصيت، وهناك من يقول من قبل (سرايا الدفاع) ذات الصيت الأسوأ. أما أسباب ذلك الاعتداء الحقيقية فما زالت غامضة حتى اليوم، ذلك أن الحقيقة لم يكن لها وجود في سورية في عهد الأسد. الحقيقة الوحيدة هي أن الرجل أصيب بعدها بشلل نصفي وبقي كذلك حتى توفي عام 1993 وهو في حالة مادية لايحسد عليها. هكذا يكرم العباقرة في سورية الأسد طالما أنهم ليسوا من (الطائفة الكريمة) ولا من تلك التي تتحالف معها، إذ لم يبق وسام إلا ومنح ولاحفل إلا وأقيم لتكريم (دريد) وبمباركة من الأسد الأب وبعده الابن. بالرغم من أن (نهاد) كان العبقرية الحقيقية التي أوصلت (دريد) إلى النجومية، إلا أنه لم يكن الوحيد الذي أوصل هذا (الممثل) إليها. فقد عمل أيضاً مع فنانين كبار ساعدوه في ذلك من أمثال الفنان (عمر حجو) مؤسس (مسرح الشوك) في نهاية السيتينيات، وكذلك المخرج (خلدون المالح) الذي أخرج مسلسلاته الناجحة. وأيضاً عمله إلى جانب ممثلين موهوبين من أمثال (عبد اللطيف فتحي)، (ياسر العظمة)، (نجاح حفيظ)، (ياسين بقوش)، (فهد كعيكاتي)، (زياد مولوي) وغيرهم. ولكن كان هناك أيضاً الكاتب الساخر (محمد الماغوط) الذي كتب المسرحيات السياسية (ضيعة تشرين، غربة، كاسك ياوطن)، وهذا ماساعد (دريد) على تكريس نجوميته على المسرح بعد التلفزيون ولعدة سنوات، حتى بدون وجود (نهاد) معه في المسرحية الأخيرة. ولكن وبسبب اختلاف (الماغوط) مع (دريد) في مسرحية (شقائق النعمان) لخروجه عن النص الأصلي، فقد ابتعد عنه ليبدأ صاحبنا في مرحلة سقوطه الفني التي مازال يعيشها حتى اليوم. وهكذا أثبت (دريد) أن نجوميته كانت من صنع غيره، وحين رحل هذا الغير أو ابتعد عنه، رحلت النجومية. وهنا أريد أن أقف قليلاً عند مسرحيات (الماغوط) المذكورة تلك. فبالرغم من نجاحها الجماهيري الكبير، إلا أن الكاتب، بقصد أو بدون قصد، قدم من خلالها خدمة دعائية كبيرة لنظام الأسد بتلميعه من جهة وأيضاً بالايحاء للناس أن هناك مساحة من حرية التعبير والنقد في ظل هذا النظام المافيوي الشمولي. وطبعاً لم يكن أفضل من (دريد) للقيام بخدمة النظام بتمثيل تلك الأدوار الوطنية المزورة، معتمداً على نجومية صنعها له غيره. إذاً كان سقوط (دريد لحام) الأول سقوطاً فنياً، ولكن كيف سقط مرة ثانية وماطبيعة ذلك السقوط؟ وهنا نأتي إلى الثورة السورية المباركة التي أتت لتعري (دريد) أكثر وأكثر، ولتبرهن أنه بالاضافة لكونه ليس فناناً، فهو أيضاً ليس سورياً وبل ليس إنساناً. فقد طلع علينا في بداية الثورة بتصريح برر فيه استعمال نظام الأسد للجيش في قمع الثورة التي كانت ماتزال في مرحلتها السلمية، قائلاً أن الجيش يجوز استعماله (للعدو الخارجي والعدو الداخلي). وهو تصريح لايتحمل التأويل وضع نفسه فيه وبصراحة في صف النظام القاتل وحليفه الايراني ضد الشعب الذي يبحث عن الحرية والكرامة، مغلباً بذلك مرجعيته المذهبية الشيعية على تلك الوطنية. ومايدعو للسخرية في ذلك أن الرجل ومن خلال مسرحياته وأعماله السياسية كان دائماً يدعو إلى عكس مانراه منه اليوم، فلم يختلف بذلك عن صديقه المصري (عادل إمام) الذي قدم عشرات الأعمال التي تحارب الظلم وتطالب بالحرية والعدالة، فاذا به يقف ضد الثورة المصرية ويؤيد نظام (حسني مبارك)، مع أنه لامجال للمقارنة في الوحشية بين النظامين. وبالعودة إلى (دريد)، فيبدو أن الرجل لم يكن حتى (ممثلاً) موهوباً، فهو وباجادته لشخصية (غوار) الانتهازية والناكرة للجميل والمحبة للمقالب وللغدر بالآخرين بما فيهم أقرب أصدقائه، إنما كان يعيش حقيقته ولا يمثل، ولهذا أجاد تقمص الدور وأتى معه طبيعياً وناجحاً. حين قال (دريد لحام) قبل أيام أنه سيتخلى عن جنسيته السورية في حال سقط الأسد، فهو بذلك إنما يقول (لا وجود لسورية من دون الأسد)، وهذا بحد ذاته إعادة صياغة لشعار (الأسد أو لا أحد). وإذا اعتبرنا أن سورية هي أمنا جميعاً، فإن المقولة الوحيدة التي أطلقها هذا الرجل خلال رحلته مع التمثيل والتي صدق فيها ولم يظهر منه عكسها، فكانت تلك الكلمات التي أتت على لسانه في أغنية (يامو) وقال فيها (ضاعت الترباية فيني يامو). وكل ما أتى منه غير ذلك إنما تنطبق عليه صفة اليوم: (كذبة نيسان)، فهذا الرجل لم يكن (يضحكنا) بقدر ماكان (يضحك علينا). بقلم / طريف يوسف آغا