الذين يعرفون رئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري عن قرب يؤكدون انه غير مرتاح الى الوضع الحكومي وذلك على رغم الانطباعات المخالفة التي يحاول ان يتركها في اوساط الرأي العام اللبناني من خلال عدد من المواقف والممارسات. ويعود عدم ارتياحه الى اعتبارات عدة أبرزها الآتي: 1 - تردي علاقته برئيس الجمهورية الياس الهراوي بعدماكانت سمناً وعسلاً في الماضي وتحديداً قبل دخوله نادي رؤساء الحكومات. والجميع يعرفون في هذا المجال الجهود الكبيرة التي بذلها الهراوي مع سورية من اجل اقناعها بقبول الحريري رئيساً للحكومة هي التي تتمتع بحكم وجودها العسكري في لبنان وبحكم نفوذها الواسع داخل قسم كبير من مجموعاته الطائفية والمذهبية بالقرار الاول على هذا الصعيد. ولهذا التردي في العلاقة سبب اساسي هو اختلاف نظرة كل من الاثنين الى دور الآخر في موقعه. فرئيس الجمهورية ظن انه يستطيع ان يمارس في ظل حكومة يرئسها الحريري صلاحياته المنصوص عليها في الدستور الحالي المعدل وفقاً لوثيقة الطائف وكذلك الصلاحيات الواسعة التي كان يمارسها في ظل الجمهورية الاولى رؤساء الجمهورية السابقون. واعتقد ان الحريري سيحصر عمله في مجالات اعادة البناء والاعمار والانماء. ورئيس الحكومة ظن ان مهمته هي تكريس الانتقال من الجمهورية الاولى الى الجمهورية الثانية وتالياً تكريس الدور المهم لمجلس الوزراء الذي تحول مؤسسة وتحديداً لرئيسه وللطائفة التي اليها ينتمي. ومن الطبيعي في هذه الحال ان يصطدم الرجلان وبقوة نظراً الى اختلاف التوقعات من كليهما عن الواقع وحقيقته. 2 - عجزه اي الحريري عن ادارة الامور في مجلس الوزراء بالطريقة التي يريد وذلك لمبادرة عدد من الوزراء معظمهم محسوب على سورية ومتحالف معها الى التصدي له والى معارضته من الداخل، وعجزه في الوقت نفسه عن ارغام هؤلاء على الانسجام معه او عن اقصائهم عن الحكومة في حال اصرارهم على رفض التجاوب معه، ويعود العجزان الى الحماية المباشرة وغير المباشرة التي وفرها ولا يزال يوفرها رئيس الجمهورية للوزراء المشاغبين او المشاكسين وان يكن بعضهم من غير جماعته، كما يعودان الى حماية سورية لهم النابعة من تحالفهم معها وولائهم لها وفي الوقت نفسه من حرصها على الاستمرار في الامساك بالوضع الحكومي وبأوضاع اخرى. وذلك قد لا يبقى متيسراً في حال اختفت الخلافات وتماسكت المؤسسات وسار كل شيء على ما يرام. وقد ظهر عجز رئيس الحكومة عندما لم يتمكن من اقصاء وزير الخارجية فارس بويز عن حقيبة وزارة الخارجية قبل أشهر بعد استعصائه على التطويع وبعد رفضه سياسة احتواء وزارة الخارجية والسياسة الخارجية التي حاول الحريري تنفيذها. وظهرا ايضاً بعد الاختلاف مع وزير الداخلية بشارة مرهج حول قرار منع التظاهر وتحديداً حول السماح او عدم السماح لتظاهرة اصولية - وطنية - فلسطينية اراد منظموها من ورائها الاحتجاج على اتفاق غزة - أريحا اولاً الذي وقع في 13 ايلول الماضي بين منظمة التحرير الفلسطينية واسرائيل. وظهرا ثالثاً اثناء الخلاف الذي لا يزال مستمراً مع وزير الاعلام ميشال سماحة حول تلفزيون لبنان. اذ استغل مجلس الوزراء، بايعاز من رئيس الحكومة، غياب الوزير سماحة للاستشفاء اولاً في لبنان ثم في فرنسا لاقرار سلطة مجلس ادارة التلفزيون في مجالات النشرات الاخبارية والبرامج السياسية. لكن عودة الوزير من الخارج وتأكيده ان القرار كان "خطأ" واصراره على ممارسة صلاحياته اثارا حفيظة الحريري الذي كان موجوداً في حينه في باريس. فثار وهدد بالويل والثبور وعظائم الامور بعد عودته الى بيروت. لكنه لم ينفذ تهديده اذ لفت نظره وزراء قريبون منه وحلفاء لسورية في آن الى دعم دمشق الذي يلقاه وزير الاعلام والذي تمثل باقدام وزير الاعلام السوري محمد سلمان على زيارته في منزله بعد عودته من الاستشفاء وزيارة من هذا النوع لا بد ان يستأذن القائم بها رئيسه. وموافقة الرئيس عليها ذات دلالة واسعة، كما انها قد تعني ابلاغ رسالة الى من يلزم بعدم المساس به. ولا يمكن في هذا المجال اعتبار نجاح الرئيس الحريري في اقصاء الوزير السابق للموارد المائية والكهربائية جورج أفرام اولاً عن حقيبته ثم عن الحكومة دليل قوة ينفي العجز المشار اليه اعلاه. ذلك ان افرام ليس من حلفاء سورية، وان يكن ليس من اعدائها في الوقت نفسه. فضلاً عن ان اقصاءه لم يواجه رفضاً من رئيس الجمهورية الذي كان جل همه تعكير العلاقة بين رئيس الحكومة والمسيحيين، وقد ظهر العجزان اخيراً من خلال التصدي المستمر لعدد من الوزراء لمواقف ومشاريع يعرضها الحريري او وزراء محسوبون عليه مئة في المئة ومن خلال محاولة اظهاره فئوياً ومصراً على امور قد تسهل اموراً خطيرة لبنانياً مثل التوطين. والمثل الابرز على ذلك الرفض المطلق لمشروع قانون تملك الاجانب في لبنان الذي طرحه وزير الدولة لشؤون المال فؤاد السنيورة قبل زهاء اسبوعين، علماً انه من ناحية واقعية فان المشروع لا يتضمن ما يبرر المخاوف التي اثيرت والمعارضة الشرسة التي ظهرت، اذ ان البيوعات للاجانب كانت تسجل ولا تزال تسجل في الدوائر العقارية التي لا تعرف اذا كان لاصحابها املاك سابقة في لبنان بسبب اتلاف الحرب لعدد كبير من السجلات، في حين ان المشروع المطروح ينص على افادة من اصحاب البيوعات تنفي ملكيتهم لعقارات في البلد وفي حال ثبوت العكس فان هذه العقارات تؤول ملكيتها الى الدولة. عدم ارتياح الحريري الى الوضع الحكومي هل يدفعه الى تقديم استقالة حكومته او الى محاولة تعديلها؟ وهل الظروف مهيأة الآن لتغيير حكومي؟ ومتى يمكن توقع تغيير كهذا؟ المطلعون على الوضع الداخلي ولا سيما الحكومي وعلى تشابكاته السورية والخارجية يجيبون على هذه الاسئلة بالآتي؟ 1 - تتداول الاوساط السياسية اللبنانية حالياً نظريتين تتعلقان بالشأن الحكومي: تقول الاولى ان الوضع الحكومي لن يشهد اي تغيير قبل حصول تقدم جوهري في مساري التفاوض السوري - الاسرائيلي واللبناني - الاسرائيلي وتحديداً قبل توقيع اعلان مبادئ بين اسرائيل وكل من لبنان وسورية. وذلك ان تغييراً من هذا النوع قد يتسبب في أزمة حكومية وقد ينعكس تالياً سلباً على مسيرة التفاوض وتحديداً على سورية الموجودة في لبنان، والممسكة به ورقة مهمة على طاولة المفاوضات. ومعروف ان لسورية الكلمة الاولى في هذا الموضوع لاعتبارات عدة معروفة. وتقول الثانية ان انتظار توقيع اعلان المبادئ مشروع ولكن ماذا لو تأخر هذا التوقيع اشهراً عدة ولم يتم قبل اواخر السنة الجارية كما تسعى الولاياتالمتحدة الاميركية؟ وهذا امر ممكن في ظل رغبة اسرائيل في التأخير. وهل يستطيع اللبنانيون ان يحتملوا حكومة غير متجانسة خلافاً للكلام المعلن؟ وعلى هذا يعتقد اصحاب هذه النظرية ان التأخير سيفتح الباب امام حكومة جديدة تدخلها معظم الاطراف اللبنانيين وفي مقدمها "حزب الله" وان بشخصية قريبة منه ومن ايران حاميته وراعيته و"القوات اللبنانية" و"الكتائب". وعلى رغم التداول الواسع لهاتين النظريتين وعدم حسم المعنيين اي منهما فان الاتجاه لا يزال يميل الى الانتظار. 3 - من أبرز العقبات التي تعترض تغييراً حكومياً، الى الاسباب المشار اليها اعلاه، عدم وجود بديل فعلي حالياً للرئيس الحريري، علماً ان المعطيات المتوافرة لا تستبعد بقاءه على رأس حكومة جديدة وان تكون نسبة هذا البقاء خفت عن السابق وباتت دون الخمسين في المئة. فالرئيس سليم الحص الكفوء والمؤهل في نظر الجميع لا ينسجم معه رئيس الجمهورية على رغم اعترافه بكفاءته ويختلف معه في الاسلوب. ولرئيس الجمهورية في هذا الموضوع تأثير مهم. والرئيس عمر كرامي عفوي وانفعالي. ولذلك فانه يحبط دائماً اي محاولة لترتيب العلاقة بينه وبين الرئيس الهراوي، وآخرها قام بها النائب سليم حبيب من جهة كونه حليفاً له والوزير فارس بويز القريب من رئيس الجمهورية من جهة اخرى. لكنها فشلت بعد التصريحات النارية التي ادلى بها كرامي اخيراً. والرئيس رشيد الصلح الذي ارتاح معه رئيس الجمهورية كثيراً لأنه ليس "نمروداً"، خلافاً لما يدعي، ليس رجل المرحلة ولا يعتبره معظم المعنيين بالتغيير والقادرين على تحقيقه رجلهم. اما "النائب العسكري" اذا جاز التعبير سامي الخطيب فان اسهمه ترتفع قليلاً ولكن ليس الى درجة اقتناع الكل بأن مرحلته بدأت. وفي ظل ذلك كله، يبقى الحريري حاجة في هذه المرحلة على رغم الخيبة التي يشعر بها الناس بسبب عدم تحقق الوعود الكبيرة. والحاجة اليه تنبع من كونه الوحيد القادر على تجميد الدولار الاميركي في مقابل الليرة اللبنانية. وقد ظهر ذلك يوم لوح بالاستقالة عشية الاجتماع الاخير الذي عقده وزراء خارجية دول الطوق في بيروت اذ اضطر المصرف المركزي الى ضخ 43 مليون دولار في السوق لمنع سعر الليرة من الانخفاض امام الدولار. وعلى رغم ان التلويح انزعجت منه سورية لأنها اعتبرته موجهاً اليها فانها عضت على الجرح كما يقال لانها لا تستطيع احتمال فوضى نقدية ومعيشية واقتصادية وتالياً امنية ربما في لبنان في هذه المرحلة الدقيقة. وارسلت نائب رئيس جمهوريتها الى لبنان عبدالحليم خدام ليحل الاشكال وقد نجح في ذلك، ولم يكن احد يشك في مقدرته على النجاح، لكنه ذهب الى أبعد من المطلوب عندما بايع الحريري رئيساً للحكومة الى آخر ولاية الرئيس الهراوي. ويقال انه روجع حول هذا الموضوع من قبل القيادة السياسية العليا في دمشق. وورقة الاستقرار النقدي التي يمسك بها الحريري يتوقع كثيرون في لبنان وسورية ان تفقد دورها واهميتها بعد توقيع اعلان المبادئ، وعندها لكل حادث حديث. ان بت الموضوع الحكومي سلباً او ايجاباً على نحو حاسم ونهائي لن يتم قبل تبلور حقيقة العلاقة بين سورية والولاياتالمتحدة الاميركية. هذا امر تعرفه دمشق ويعرفه الرئيس الحريري. ولذلك فان كليهما ينتظر. فالسوريون يعرفون ان للحريري قوة اعلامية ضخمة تطمس الاخطاء على كثرتها وتضخم الانجازات على قلتها وقوة مالية هي السبب لقوته الاعلامية ولقوته السياسية المحلية والخارجية. هذا فضلاً عن القوة الناجمة عن شبكة علاقات ومصالح في الخارج وتحديداً في أوروبا واميركا. ويعرفون تالياً ان اقصاءه ليس سهلاً الا اذا تمخضت العملية السلمية والمرحلة الراهنة عن وفاق اميركي - سوري لدمشق فيه الحصة الاكبر. والحريري يعرف مكامن قوته وينتظر تبلور العلاقة الاميركية - السورية. ولذلك فانه "يطنّش" عن كل ما يتعرض له من حرتقات ومواجهات وتهجمات. وقد اثبت بذلك انه صار سياسياً محترفاً ولكن على الطريقة اللبنانية. علماً ان اللبنانيين احبوه في الماضي ورحبوا به رئيساً للحكومة لانهم اعتقدوه عكس ذلك. وفي انتظار جلاء الظروف التي تؤثر في لبنان ولا سيما على حكومته، خلال الاشهر المقبلة ستستمر محاولة عصر الحريري لتحويله عادياً لا يختلف عن رؤساء الحكومات الآخرين في نظر الناس الذين لا يزالون يعتقدون انه مختلف عنهم. وسيستمر الحريري في الانسجام الظاهري مع دمشق وفي عدم مخالفتها في أي موضوع ولا سيما على صعيد السلام في الشرق الاوسط.