توجه ثلاثة من قادة "الاخوان المسلمين" في كل من مصر وسورية والأردن، الى تركيا في زيارة سرية مطلع شهر كانون الأول ديسمبر 1996 حيث التقوا مطولاً رئيس الوزراء التركي نجم الدين اربكان في اطار سلسلة اللقاءات المستمرة بين "الاخوان" وحزب "الرفاه" التركي منذ سنتين. وحمل قادة "الاخوان" الى اربكان اسئلة كثيرة وتخوفات من "الانقلاب" البادي على سياسته الخارجية والذي يبدو مناقضاً للشعارات التي طرحها "الرفاه" بزعامته اثناء الحملة الانتخابية وبعيد فوزه بالغالبية النسبية في البرلمان. وتلقت جماعة "الاخوان المسلمين" تقريراً "مريحاً" عقب زيارة وفدها القيادي الذي أبدى تفهماً لدوافع سياسية اربكان الخارجية، ومن ضمنها التقارب الصريح مع اسرائيل. فما الذي دار بين اربكان وقادة "الاخوان"؟ ولماذا عاد "الاخوان" مطمئنين الى سياسة رئيس الوزراء التركي؟ استمع اربكان في بداية اللقاء الى اسئلة وملاحظات قياديي "الاخوان" الثلاثة وسجل بعض الملاحظات قبل ان يجيب بحديث مطول فيما يلي أبرز ما جاء فيه: "تعلمون ان تركيا دولة علمانية، لكن عليكم ان تعلموا ايضاً ان أجهزة الدولة التركية كانت تعدم الموحدين لله جهاراً في الخمسينات، اي قبل أقل من نصف قرن. ثم سأل "الاخوان": "هل تعلمون لماذا اغتيل رئيس الوزراء عدنان مندريس في الستينات؟ ببساطة لأنه قرر اعادة الآذان؟ وتابع: "في تركيا اليوم ثلاث مؤسسات على أي رئيس حكومة ان يحسب لها ألف حساب: أولها وأكبرها المؤسسة العسكرية، وكما تعلمون فان الجيش التركي، تسليحاً وتدريباً وتنظيماً، يسير وفق النظام الاميركي، وللجيش موقف حاسم من اي حكومة. وثانيها الاحزاب السياسية وهي في صراع مستمر ولصراعها تأثير حاسم كذلك على اية حكومة. اما المؤسسة الثالثة فهي طبقة الاقتصاديين ورجال الاعمال، وكما تعلمون فان مديونية تركيا عالية واوضاعها الاقتصادية ليست على ما يرام". وواصل اربكان مفصلاً: "اكتشفت فور تسلمي رئاسة الحكومة ان للجيش موقفاً سلبياً من حزب الرفاه ومني شخصياً فبدأت فوراً بمد جسور الثقة وكانت البداية ليست في قرار زيادة رواتب الجيش بل وبربط رواتبهم بالدولار لحماية دخول العسكريين من تذبذب اسعار صرف الليرة التركية وقوتها الشرائية. واكتشفت كذلك ان لدينا نحو 600 طائرة اميركية من طراز "إف 4" تحتاج الى قطع غيار فطلبنا من الولاياتالمتحدة تزويدنا بها، وكان الرد الاميركي مفاجئاً: عليكم ان تطلبوا قطع الغيار من اسرائيل. وبالفعل طلبنا قطع الغيار من اسرائيل التي حاولت ان تساومنا على بعض المواقف ومنها السماح للطائرات الاسرائيلية بالتحليق فوق شمال العراق والتي اوقفتها حكومتي فور تسلمها السلطة، لكننا رفضنا وقلنا اننا سندفع ثمن قطع الغيار كاملاً ومن دون شروط، وتم الاتفاق". ويعتقد اربكان انه حقق نجاحات كبرى خلال الأشهر الستة الأولى من حكمه. فعلى الصعيد الداخلي بدأت حكومته بمكافحة الفساد الذي طال الحزب الآخر المشارك في الائتلاف الحكومي بزعامة تانسو تشيللر. وشرح اربكان مضمون قرار عزل وزير الداخلية وهو من قادة حزب "الطريق القويم" بزعامة تشيللر، وكذلك مدير أمن اسطنبول، وقال ان حادث سير وقع لمدير الأمن كشف عن فساده وفساد وزير الداخلية كذلك. فقد اودى الحادث بحياة سائق السيارة وشخص آخر كان يجلس الى جانب مدير الأمن الذي نجا من الحادث وسبق لتركيا ان طلبت من الانتربول المساعدة في القاء القبض عليه واعادته الى تركيا لمحاكمته. وقال اربكان ان أشد خصومه السياسيين يلماظ طالبه بفض الشراكة مع تشيللر وتشيكل حكومة أقلية ووعده بمساندته برلمانياً الا ان اربكان رفض العرض ليس لأنه رجل مبدأ لا يفض الشراكة مع تشيللر فحسب بل ولأنه لا يريد ان يشكل حكومة أقلية تظل في مهب الريح امام أي خلافات حزبية قد تنشأ في أي وقت. وأضاف اربكان: "ثمة حملة شرسة تشن حالياً ضد تشيللر وحزبها وتتهمها بالفساد، وعلى رغم كل ذلك فان شراكتها لنا في الائتلاف رفعت من شعبية حزبها ست نقاط، حسب استطلاعات الرأي". وقال ان "خصوم تشيللر كثيرون وسيثيرون ضجة عندما يحين دورها لرئاسة الحكومة ونحن لن نتخلى عن شركائنا لكننا نتعامل مع كل الاحتمالات ومن ضمنها ان نستمر في رئاسة الحكومة او نخوض انتخابات مبكرة، ولدينا شعور أكيد بأننا الغالبية". ومضى اربكان قائلاً: "لقد كسرنا الحاجز النفسي ليس مع المؤسسات الثلاث، ولكن مع الموظفين ايضاً، فخلال خمسة أشهر نجحنا في خفض مديونية الدولة بمقدار ستة مليارات دولار وقدمنا موازنة عامة للدولة للسنة المقبلة 1997 تخلو للمرة الأولى في تاريخ تركيا من العجز، وشعر المواطنون بأهمية تحركنا الخارجي وفي المنطقة خصوصاً حيث أصبحت لنا استثمارات ضخمة في العراق وتعاون ايجابي مع ليبيا وايران". وعن سياسة تركيا الخارجية قال رئيس الحكومة التركية ان بلاده جزء من اوروبا، لكن الرهان على اوروبا خطأ كبير لأن اوروبا نفسها غير معتمدة على ذاتها وليس لديها موقف موحد. وقال: "لم يعد في العالم سوى قوة واحدة هي الولاياتالمتحدة، وبالنسبة الى منطقتنا فليس في العالم قوة سوى اسرائيل التي هي ليست فقط الابن المدلل للولايات المتحدة بل ان اسرائيل واليهود هم الولاياتالمتحدة". وخلص اربكان الى القول: "من الخطأ ان نتوقف عند الشعارات وهذا مأخذي على الحركات الاسلامية، صحيح اننا رفعنا شعارات كثيرة لكننا عند التطبيق وعندما يصبح الحزب في السلطة فعليه ان يراعي الحقائق على الأرض. فليس في العالم قوة اخرى تحقق توازن القوى والمصالح. وعلى رغم كل ذلك فلدينا الكثير لنحققه من مبادئنا وشعاراتنا". وانهى اربكان حديثه بالقول ان علاقات تركيا مع كل من سورية والعراق "تتطور ايجابياً بالفعل لا بالقول وقد لمست الجارتان هذا التطور وسنلمسه جميعاً في وقت قريب". وأبلغ اربكان قادة "الاخوان" انه بدأ بتطبيق "نظام الرفاه" اقتصادياً وهو نظام يحد من الربا في تركيا ويلاقي قبولاً جيداً في اوساط الاقتصاديين