بعيد اعلان المحكمة الدستورية في تركيا قرارها، بعد ظهر الجمعة الماضي، حلّ حزب "الرفاه" الاسلامي، وحرمان زعيمه نجم الدين اربكان وستة آخرين من قادته من ممارسة السياسة لمدة خمس سنوات" كان مدهشاً بالفعل، في كل الندوات المتلفزة والتعليقات الصحفية في تركيا، ان يكون مُدينو ومنتقدو قرار الحظر، هم العلمانيون أنفسهم قبل غيرهم. منذ قرارات مجلس الامن القومي التركي الشهيرة في 28 شباط فبراير 1997، كان واضحاً ان مسيرة الديموقراطية في تركيا، التي كانت بدأت تتعافى مع طورغوت أوزال وبلغت ذروتها مع وصول اربكان الى رئاسة الحكومة في حزيران يونيو 1996، تعرّضت لهزة شديدة، وان "النموذج" التركي في الديموقراطية الذي رُوّج له كثيراً بعد سقوط الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفياتي، لم يكن سوى "فقّاعة" سرعان ما انفجرت عند اول اختبار حقيقي، مع وصول الرفاه الى السلطة. اما قرار المحكمة الدستورية حظر حزب الرفاه فكان يعني ببساطة الموت النهائي للنموذج. لكن حظرَ حزب الرفاه، لم يكن متصلاً، في العمق، بجوانب حقوقية أو قانوية من قبيل "انتهاكه" للمبادىء العلمانية، والأتاتوركية وما الى ذلك. اتخذت المحكمة القرار، لكنه قرار سياسي في الدرجة الاولى والاخيرة. كانت المؤسسة العسكرية التركية، التي تعتبر نفسها وصيّة على النظام الكمالي بكل أبعاده، تمارس نفوذها، لوقف اي مدّ مناهض للكمالية، عبر أدوات عديدة أولها الانقلاب العسكري المباشر. وجسدت ذلك ثلاث مناسبات سابقة في اعوام 1960 و1971 و1980. وفي كل مرة كان الانقلاب محاولة للجم وقطع دابر اتساع المناخ الاسلامي في تركيا، حتى لو كان عرّابه علمانياً، كما حدث مع عدنان مندريس في الخمسينات. وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي وانتشار النزعات الديموقراطية في العالم، بدت استحالة المضي في الخيار الانقلابي امام العسكر التركي، فشدّد من استخدام ادوات اخرى لتنفيذ مآربه، ومنها مجلس الامن القومي الذي أصدر "انذاره" الشهير لاربكان في 28 شباط الماضي. والآن تستكمل المؤسسة العسكرية خططها من خلال المحكمة الدستورية التي أسدلت الستار على مرحلة كان اسمها "حزب الرفاه". قرار المحكمة الدستورية، محطة اخرى، ليست اخيرة، في سياق المواجهة بين العلمانيين المتشددين والاسلاميين. والمسار التصاعدي الذي عرفته الحركة الاسلامية في تركيا منذ ثلاثين سنة، وخصوصاً في السنوات السبع الاخيرة، كان مرآةً صادقة للتحولات الاجتماعية والاقتصادية التي طرأت على المجتمع التركي منذ الانفتاحين الاقتصادي والديني وحتى العرقي - الكردي لعهد أوزال. ومع اضمحلال التيارات اليسارية في الثمانينات، ولا سيما بعد انهيار الشيوعية، ومع سلسلة الفضائح التي نخرت الاحزاب العلمانية وادت الى "عقم" في تقديم المبادرات الخلاقة، فضلاً عن انقسامها على نفسها، ومع الازمات الاقتصادية، والنزاعات ذات الطابع الديني في اوروبا البوسنة والشيشان وقره باغ تحديداً كانت الحركة الاسلامية، ممثلة بحزب الرفاه تنتقل من انتصار الى آخر، تعضدها قاعدة مادية وفكرية قوية جداً. وما زاد في قوة هذه الحركة انها استخدمت في ممارستها السياسية أداة النظام نفسها، وهي الالتزام بقواعد اللعبة الديموقراطية، بعيداً عن العنف والفوضى. الى ذلك، لم يفوّت أربكان فرصة وصوله الى السلطة، ليقدّم خطاباً اسلامياً "جديداً" معتدلاً الى درجة أثارت حفيظة القواعد الاسلامية عموماً. فوقّع على الاتفاقات مع اسرائيل وصمت على السياسة الاميركية في الشرق الاوسط، وشمال العراق خصوصاً، ومدّد لقوة المطرقة الغربية، وفي الداخل انفتح على العلمانيين، ووقّع قرارات تسريح الضباط الذين لهم ميول اسلامية من الجيش... ووجد، فضلاً عن ذلك، دعماً غير محدود من شريكته تانسو تشيللر التي حرصت بدورها على تقديم خطاب علماني جديد، منفتح ومعتدل. كل هذه التطورات كان مقدراً لها ان تنتج نموذجاً جديداً علمانياً - اسلامياً يلحظ مكاناً للتيارين الرئيسين في البلاد، ويضع تركيا، بالفعل للمرة الأولى، على طريق ان تكون جسراً حقيقياً بين الشرق والغرب، بين الحضارة الاسلامية والحضارة الغربية. غير ان المتشددين العلمانيين كانوا ما زالوا في نهاية القرن العشرين ينظرون بعين بداياته، وفي عصر انهيار الايديولوجيات الشمولية، وآخرها الماركسية، كانوا يعضّون بالنواجذ على الكمالية، كما جاء بها أتاتورك في عشرينات القرن الجاري. واتخذوا من بعض محاولات أربكان تحقيق خطوات لها طابع اسلامي مثل الدعوة الى حرية ارتداء الحجاب، وتوقيت الدوام في رمضان وايام الجمعة وفقاً لمواعيد الصلاة والافطار، وبناء جامعين في اسطنبولوأنقرة، واستضافة زعماء طرق دينية على افطار في رمضان الماضي، ذرائع لتوجيه الضربة الثالثة، بعد الضربة الاقتصادية للشركات الاسلامية والضربة الفكرية لمعاهد التعليم الديني، وكانت ضرب الاساس القانوني لوجود الحزب والحؤول دون عودة اربكان وقادة تاريخيين آخرين مثل شوكت قازان واحمد تكدال الى تزعم الحزب البديل الذي سينشأ عوضاً عن حزب الرفاه. يأمل العسكريون ان يحدث قرار حظر حزب الرفاه إرباكاً داخل صفوف الحركة الاسلامية، وتجاذباً بين تياراتها على زعامة الحزب الجديد، ما يؤدي الى تشتت قواها وتسهيل وراثة فئات من قاعدتها لصالح احزاب اخرى، من اليمين المحافظ. وترافق قرار حل حزب الرفاه في يوم واحد مع صدور قرار يفتح الباب لمحاكمة تشيللر، زعيمة حزب الطريق المستقيم وشريكة اربكان السابقة في الحكومة، امام المحكمة العليا. من الواضح ان المستفيد الاكبر، نظرياً، من قرار حظر الرفاه هو الحزب الآخر في اليمين، حزب الوطن الام الذي يترأسه رئيس الحكومة الحالية مسعود يلماز. غير ان الطريقة التي حُظّر بها حزب الرفاه، وفي عهد يلماز بالذات، وردود الفعل الخارجية، الاوروبية والاميركية، تضع يلماز في موقف حرج جداً، وتضعه في واجهة الصورة غير الديموقراطية التي تظهر بها تركيا الآن امام الجميع، في الداخل والخارج، وقبوله بدور "الوكيل المدني" للمؤسسة العسكرية. ولن ينجوَ زعماء الاحزاب الاخرى، مثل بولنت أجاويد ودينيز بايكال، بصمتهم الكامل عما جرى، من تهمة التفريط بالديموقراطية والحريات وحقوق الانسان. اي إن قرار حظر الرفاه أصاب مباشرة منظمة الحزب، لكنه طال بتأثيراته السلبية كل القوى الداعية لتعزيز المجتمع المدني في تركيا. اما على الصعيد الخارجي، فيأتي قرار حظر الرفاه ليدخل "السرور" الى اعضاء الاتحاد الاوروبي، ومن ان قرارهم في كانون الاول ديسمبر الماضي استبعاد تركيا عن قائمة الدول المرشحة للانضمام اليه، كان قراراً في محله. وتبدو اليونان وألمانيا المنتصرتين الاكبر من دول الاتحاد، نظراً لتركيز أنقرة حملتها عليهما واتهامهما بانهما وراء استبعادها عن عضوية الاتحاد. ان قرار حظر الرفاه يزيد من عزلة تركيا الاوروبية، ويضاعفها الغاء المانيا قراراً سابقاً لها اعتبار حزب العمال الكردستاني "منظمة ارهابية". اما واشنطن فان أسفها وقلقها لقرار حلّ حزب الرفاه، لن يترجم اية خطوات عملية، لكنها ستسعى الى اعادة الاعتبار للقاعدة الاسلامية من خلال "قولبتها" في حزب سياسي جديد، بعيداً عن الخيارات غير السلمية، فتركيا قوية وموحدة، ما زالت، أطلسياً، حاجة اميركية في المحيط الاقليمي لتركيا. ماذا سيفعل الرفاهيون بعد حظر حزبهم وتغييب زعيمهم التاريخي عن المسرح السياسي؟ تعددت السيناريوهات، وكلٌّ يحاول ان "يرث" البقرة الذبيح. وهنا التحدي الاساسي الذي يواجه الرفاهيين. حُظر الحزب لكن الستة ملايين صوت الذين اقترعوا له في انتخابات 24 كانون الاول 1995، ما زالوا تياراً له قواعده وله تطلعاته. وهذه الكتلة العريضة تعرف ان الاحزاب الاخرى لم تستطع ان تكون مقتنعة في ادائها وبرامجها، من هنا كان التفافها حول حزب الرفاه. وهي ليست المرة الاولى التي يواجه فيها اربكان قرار حظر حزب يتزعمه. فقط حُظر حزبه الاول، النظام الوطني، عام 1971، وحزبه الثاني، السلامة الوطني عام 1980. وفي الحالتين كان اربكان يعود الى تأسيس حزب جديد، اقوى من السابق. حتى ان قرار حرمانه من العمل السياسي لمدة لن يؤثر عليه خمس سنوات، فهو سُجن او حُظر من تعاطي السياسة سبع سنوات من 1980 الى 1987 ثم عاد زعيماً للحزب. ومع ان عامل السنّ 71 عاماً في الظرف الراهن، قد يوثر سلباً على عودته اللاحقة الى الساحة السياسية، الا ان اربكان، وقادة الرفاه، لم يفاجأوا بقرار الحظر رغم انه وصف القرار بپ"المفاجأة"، وهم كانوا يعدون لتأسيس حزب بديل منذ ايار مايو الماضي. وبالتالي يؤكد الاسلاميون في تركيا مرة اخرى خيارهم الالتزام بالسبل السلمية واللعبة الديموقراطية للوصول الى السلطة، اولاً لانهم واثقون من ان التيار الاسلامي في تركيا في ظل ظروف سلمية وطبيعية، وفي ظل التحولات الاجتماعية التي شهدتها وتشهدها تركيا في السنوات الاخيرة، اكثر قدرة على اثبات حضوره وتحقيق تطلعاته. ثم ان الاسلاميين، ثانياً، وبحكم تجربتهم وخبرتهم الطويلة في العمل السياسي، ورغم الانقلابات المباشرة او "المقنّعة" باتوا اكثر قناعة على ان الديموقراطية هي خيار ناجح لا يتعارض مع الاسلام، ويضمن السلم الاهلي في مجتمع تعددي مذهبياً وعرقياً مثل المجتمع التركي. ويرى الاسلاميون، ثالثاً، ان اللجوء الى خيارات غير سلمية، يعني شيئاً واحداً هو "جزأرة" تركيا بكل مضاعفاتها التدميرية على المجتمع والكيان، وهي المستهدفة بقوة من جيران بينها وبينهم خلافات عميقة تاريخية وحضارية حول الارض والدور، وفي مقدمة هؤلاء اليونان وأرمينيا وروسيا. ان فتنة داخلية وحرباً أهلية ستطيح بالجميع ومنهم الاسلاميون. فضلاً عن ان اربكان ذاته، يرى ان تركيا مؤهلة لزعامة العالم الاسلامي، وشرطا هذه الزعامة، بنظره، وحدة تركيا وقوتها. من هنا، لا خيار امام الاسلاميين في تركيا سوى العودة لتأسيس حزب جديد يعيد نظمَ قاعدتهم الواسعة، ويمكنهم، الاستفادة من سلبيات واخطاء المرحلة الماضية لمواصلة المسيرة الناجحة حتى الآن نحو تأكيد حضورهم كلاعب اساسي لا يمكن تجاهله. ومع ان اربكان لن يكون على رأس هذا الحزب، الا انه، من جهة، سيبقى المحرك المحوري له، ومن جهة ثانية، لا يعدم حزب الرفاه القيادات المؤهلة لخلافة اربكان، وهو الذي بدأ منذ المؤتمر العام الخامس لحزب الرفاه تشرين الاول /اكتوبر 1996 تحضير رئيس بلدية اسطنبول رجب طيب اردوغان لخلافته، وان كانت الاسماء الاخرى، ومنها قيادات تاريخية، مثل رجائي كتان، مستعدة وقادرة على تحمل المسؤولية ان تطلب الامر ذلك. ان قرار حظر الرفاه لا يعكس انتصاراً للمؤسسة العسكرية، بل يؤكد المأزق الذي وصلت اليه، وهو بمثابة هروب الى الامام بدلاً من الاعتراف بحقائق الواقع المتحوّل منذ سنوات. والقرار الذي أنهى مجرد اطار تنظيمي يمكن استبداله بسهولة لستة ملايين شخص، وجّه في الواقع ضربة قاصمة للتجربة الديموقراطية في تركيا. والمؤسسة العسكرية بمثل هذه الاجراءات، تدفع، عن سابق تصور وتصميم، نحو الانقطاع النهائي عن اوروبا، وتؤسس لمزيد من الشروخ الاجتماعية في الداخل. والصراع الحقيقي المطلوب هو بين القوى الديموقراطية، بعلمانييها واسلامييها، وبين القوى غير الديموقراطية. الجميع امام الامتحان.