تناولت "الوسط" في العدد الماضي "تجارة" الشهادات الاكاديمية وإنتاجها المحدود في دول عربية هي في معظم الاحيان اسواق استهلاك للألقاب التي ترد اليها من الخارج. وهنا الجزء المكمل من خلال تحقيقات أجريت في الدول المنتجة للشهادات العالية "السهلة" التي تصدّرها جامعات في اوروبا واميركا ودول الاتحاد السوفياتي السابق الى المستهلك العربي. قد تكون فرنسا معقلاً مهماً لهذه التجارة فجامعاتها كثيرة وتلقى شهاداتها، عموماً، احتراماً عربياً واسعاً خصوصاً اذا كانت الجامعة واحدة من المؤسسات الاكاديمية العريقة التي تحظى بسمعة باهرة. وتنتشر في الأوساط الجامعية الفرنسية روايات كثيرة عن قنوات يتبعها حاملو الألقاب في الدراسات العليا، ممن لا يستوفون الشروط الأكاديمية الحقيقية. ولم تعد هذه القنوات محصورة بالجامعات الموجودة في المدن الكبيرة في المقاطعات البعيدة عن العاصمة، وانما صارت متصلة بباريس وبجامعة السوربون ذات الشهرة الاسطورية. وفي هذا السياق يمكن استناداً الى تقصي بعض الحالات والاستماع الى شهادات طلاب وأساتذة في الوسط الجامعي الفرنسي، رسم مخطط للقنوات التي اعتمدها الدكاترة العرب في الحصول على ألقابهم. 1 - القناة الأولى تتصل بطلاب عرب ميسورين لا يجيدون اللغة الفرنسية ولا يبدون استعداداً لقضاء سنة أو سنتين في دراستها تمهيداً لصياغة أبحاثهم، في هذه الحال يلجأون الى طلاب فرنكوفونيين من المغرب العربي ممن ضاقت بهم الأحوال، ويمكن العثور على هؤلاء بواسطة مكاتب طباعة رسائل الدكتوراه. وهنا يلجأ الطالب الى مترجم مغاربي محترف يجيد العربية والفرنسية ويحدثه عن موضوع بحثه أو يعطيه نصاً عربياً مفككاً فيصنع منه المترجم اطروحة دكتوراه تستوفي الشروط الاكاديمية، الشكلية على الأقل. وغالباً ما يضيف المترجم قناعاته الى النص. وبعد انجاز البحث يتقاضى المترجم أجراً معيناً ووعداً بمكافأة بعد الحصول على اللقب. وبما ان الطالب لا يجيد الفرنسية مما يجعله عاجزاً عن تقويم نصٍ يحمل توقيعه والدفاع عنه أمام لجنة من الأساتذة الجامعيين، فهو يعمد أحياناً الى الاتصال بهؤلاء لتسهيل مهمته أثناء مرافعته متوسلاً الوعود أو الهدايا أو ما شابه ذلك. وقد يجد من يصغي اليه بين الأساتذة الفاحصين، فيحصل على لقب "دكتور". ويحدث ان يختلف الطالب مع المترجم لسبب من الأسباب بعد انجاز قسم من النص، فيلجأ الى مترجم محترف آخر لاكماله مما قد يتسبب في ظهور أسلوبين أو ترجمتين مختلفتين لمفردات عربية واحدة. وفي احدى المناقشات لم يتمكن طالب عربي من الاجابة عن سؤال حول ورود مفردة عربية الأصل بترجمات شتى في النص، لكن الاستاذ السائل لم يقف طويلاً عند هذه النقطة معتبراً ان الأمر يتصل بخطأ تقني، ولو أراد الدقة والتحقيق في الموضوع لتوصل الى خيوط اللعبة. والهيئات الجامعية في فرنسا، تتساهل عموماً في منح الألقاب للطلاب الأجانب، خصوصاً ان هؤلاء يستخدمون شهاداتهم في بلدانهم وليس في فرنسا. ويطاول التساهل بصورة خاصة ميدان العلوم الاجتماعية. جهل... ومجاملة 2 - القناة الثانية تتعلق بطلاب يجيدون الفرنسية بهذا القدر أو ذاك، لكنهم، لأسباب خاصة بهم، لا يرغبون في بذل جهدٍ طويل لتحضير أطروحة دكتوراه، فيعتمدون على نصوص مكتوبة بالعربية فيترجمونها أو يتصلون بمترجمين محترفين لهذه الغاية ثم يتقدمون الى اللجنة الفاحصة للحصول على اللقب. وفي هذه الحالة يتجنب المرشحون للقب "دكتور" تسجيل أطروحاتهم مع أساتذة مستشرقين أو مستعربين لديهم قدر من الاطلاع على النصوص العربية للحؤول دون اكتشاف اللعبة. وبذلك، يستفيد هؤلاء من جهل الاستاذ المشرف وعدم اطلاعه على النصوص العربية الأصلية. وتروي طالبة ان ادارياً كبيراً في احدى الجامعات جمع ملفاً صدر في احدى الصحف وصاغ منه اطروحة دكتوراه من دون الاشارة الى النص، وعندما سألته عن السبب اجابها ان المعطيات التي تنشرها الصحف ملك عام للجمىع ويجوز استخدامها من دون الرجوع الى مصدرها! 3 - القناة الثالثة تتعلق بأطروحات المجاملة وبألقاب المجاملة كأن يرتبط استاذ جامعي بطالب أو بمسؤول سياسي أو شخصية بارزة، ارتباط صداقة أو تواطؤ لسبب من الأسباب فيعمد الى التساهل مع هذا الطالب في كل مراحل البحث كافة ويمنحه شهادة الدكتوراه. ويؤدي الافراط في منح ألقاب الدكتوراه لأسباب شخصية أو سياسية الى انتشار الشائعات في الوسط الجامعي الأمر الذي قد يحمل ادارة الجامعة على التحقيق مضطرة في الموضوع، وعلى اتخاذ اجراءات قد لا تصل الى حد الغاء اللقب ولكن الى الاستغناء عن خدمات الاستاذ المشرف أو نقله الى فروع أو جامعات اخرى. أما سعي الطلاب الى الحصول على لقب "دكتور" من جامعة السوربون فهو يرمي الى الانتماء الى النخبة العالمية التي تتخرج من هذه الجامعة والتي يعرف افرادها باسم Sorbonnards - سوربوناريون - وبالتالي الى ماضٍ كان عريقاً، والى شهرة آخذة بالتراجع التدريجي وهو أمر يخفى على العامة في بلداننا العربية. فالسوربون لم تعد المكان الذي تتخرج منه صفوة النخبة الفرنسية ولم يعد المكان الوحيد أو حتى الأبرز لاستقطاب النخبة الثقافية الفرنسية والعالمية. لذلك صارت شروط الحصول على لقب Sorbonnard منها أقل تشدداً بكثير من ذي قبل، الأمر الذي أتاح لمئات أو آلاف السوربونار العرب التخرج من هذه الجامعة وأصبحوا دكاترة في جامعات بلادهم أو خارجها من دون ان تكون ألقابهم الوجيهة سبباً في حدوث تغييرات مهمة في بلدانهم. موسكو: شهادات "ايديولوجية" حظ جامعات الاتحاد السوفياتي السابق قليل، فليس لأي منها الشهرة العلمية التي تتمتع بها السوربون او اكسفورد او هارفارد... لكن ثمة ما يُعزي المعاهد الاكاديمية العليا والجامعات في روسيا واذربيجان واوكرانيا، فهي الاولى بامتياز في ميدان الشهادات "الايديولوجية" التي قد يكون بعض انواعها "الجريئة" ابتكاراً سوفياتياً، ولعل الجامعات العريقة الغربية حاولت ان تتعلم من تلك الخبرة السوفياتية الواسعة. فهناك ازدهرت "سوق" الشهادات الايديولوجية، وغيرها. وكما حصل كثيرون من "الكوادر" العربية الشيوعية و"الصديقة" على شهادات دبلوم، سعى آخرون الى نيل درجة الدكتوراه. غير ان "الشراء"، بمعانيه المختلفة، انحصر في مجال الدراسات الانسانية والاجتماعية. كان "شراء" الشهادة العليا في الاتحاد السوفياتي أشبه بعبارة اصطلاحية جداً فهو لا يعني ان حائز الدبلوم أعطى الذين دبروا له مناقشة رسالته العلمية مبلغاً من المال وهذا ايضاً كان يحدث وانما دفع مكافآت بمختلف الطرق. ففي العهد السوفياتي، عندما كانت السوق تعاني من نقص في السلع، كان يمكن شراء الدبلوم بزجاجات كحول مثلا أو بعض الالبسة أو بالدعوة الى زيارة وطن من حاز الدبلوم. وكانت توصية صادرة عن احدى الدوائر الحزبية تكفل الحصول على الدعم المطلوب من أي كان. اختلفت السبل ولكن بقي الجوهر واحداً. فكثيرون من مواطني البلدان العربية وغيرها من بلدان "العالم الثالث" كانوا يشترون بهذا الشكل او ذاك دبلومات في التعليم العالي في الاتحاد السوفياتي. نستدرك فوراً ونقول ان الحديث عن "تجارة" الشهادات في الاتحاد السوفياتي يدور هنا حصراً حول العلوم الاجتماعية والانسانية - الآداب والفلسفة والتاريخ والخ... أي تلك الفروع من العلوم التي ليس لها مجال ملموس تماماً للاستخدام. اما الحصول على دبلوم في العلوم - كالطب أو الطاقة النووية، أو مناقشة الرسالة العلمية فلم يكونا أكثر سهولة في الاتحاد السوفياتي مما كانا عليه في بلدان اخرى. وألوف الخريجين من المعاهد التعليمية العالية السوفياتية يعملون بنجاح في بلدانهم وبعضهم لقي تقديراً دولياً. تأهيل الكوادر الوطنية ان التعاون السوفياتي - العربي على مدى سنين كان له جانب غير منظور تماماً لكنه لا يقل أهمية عن المشاريع المدنية والعسكرية التي نفذها الطرفان. وهذا الجانب "الخفي" كان يحمل في المصطلحات الرسمية السوفياتية اسم "تأهيل الكوادر الوطنية". هكذا تم تأهيل الوف المصريين والسوريين والجزائريين والفلسطينيين وابناء البلدان العربية الاخرى ممن نالوا في موسكو وغيرها من مدن الاتحاد السوفياتي الاخرى شهادات عالية في الطب والهندسة والزراعة وغيرها. وكان يستهوي العرب كما يستهوي شبان البلدان النامية الاخرى ان التعليم في بلاد السوفيات مجاني، علماً بأن كل معاهدها التعليمية العالية تقريباً كانت تخصص منحاً دراسية للطلاب وطلاب الدراسات العليا الاجانب. يجب الاعتراف ان "شراء" الدبلوم السوفياتي كان يبدأ بالنسبة الى الطالب العربي قبل المجيء الى موسكو أو باكو بمدة طويلة، اذ تُخصص لكل بلد حصة معينة من المنح الدراسية. وكان اركان السفارة مسؤولين عن وضع القائمة التي تضم ابناء مواطني البلد الذين تربطهم علاقات خاصة بموظفي السفارة كإبن بستاني السفارة أو ابنة صاحب الحانوت الذي اعتاد الدبلوماسيون السوفيات شراء حاجاتهم منه باستمرار. وكان الوسطاء ايضاً يُعاملون معاملة مميزة. فمثلا كان في وسع شخص له علاقات أعمال مع سفير سوفياتي أو غيره من الدبلوماسيين الكبار استخدام صلاته هذه لضم طالبين او ثلاثة طلاب الى القائمة. وكان هذا الشخص يشكر اصدقاءه السوفيات، مثلا، بهدايا قيمة او بمبالغ نقدية. وتستحيل معرفة المبلغ الذي يقبضه السمسار من الشاب الذي يغمره بفضله، الا انه أقل من كلفة الدراسة في جامعة محلية. والحديث عن الرفاق السابقين في الايديولوجيا له مذاق خاص. فالأحزاب الشيوعية، وجمعيات الصداقة التي ترعاها، كانت تحصل على منح دراسية اضافة الى تلك التي تخصص للسفارات. وهذا الامتياز يستخدم غالباً لملء خزانة الحزب وكانت جمعية الصداقة مع الاتحاد السوفياتي في احدى البلدان العربية تأخذ من كل طالب دراسة مبلغاً يعادل 5.1 ألف دولار تقريباً ل "ملء الاوراق الضرورية". وهي كانت توفد الى الدراسة في الاتحاد السوفياتي كل سنة زهاء مئة شخص... ولا أحد يعرف كيف دبرت ادارة هذا المعهد أو ذاك وثائق السنوات الدراسية لخريجين قلما حضروا محاضرة فيها، وما هو حجم "الشكر" الذي قدمه خريجون كهؤلاء . على كل ليس مستبعداً ان الحصول على الدبلوم لم يكلف "الطالب" شيئاً وان قيادة المعهد نفذت فقط أوامر "الهيئات العليا" وهي التسمية البيروقراطية السوفياتية للجنة المركزية للحزب الشيوعي. واعتاد طلاب الدراسات العليا العرب ان يكتبوا رسائلهم العلمية عادة بالعربية. ولهذه الظاهرة تفسير منطقي تماماً اذ مهما اتقن الاجنبي اللغة الروسية فهو قد لا يستطيع كتابة بحث اكاديمي بها. ولهذا دأب معظم طلاب الدراسات العليا على كتابة رسائلهم العلمية باللغة العربية ثم تترجم فصلاً بعد فصل الى اللغة الروسية ويشرف على صياغتها النهائية المشرف العلمي. وهذه العملية الصعبة تقنياً توفر كثيراً من الفرص الملائمة لمختلف أنواع التلاعب الكبير والصغير. وباعتبار ان عدد الاختصاصيين السوفيات في مختلف شؤون العالم العربي محدود كثيراً فكل بحوث هؤلاء العلماء المطبوعة تعتبر عملياً من الدراسات الكلاسيكية - وغالباً ما يصبح هؤلاء اما مشرفين علميين أو مناظرين في المناقشة أو اعضاء في مجلس العلماء. ولهذا يترجم طالب الدراسات العليا احياناً الى اللغة العربية مضمون اعمال جهابذة الاختصاصيين السوفيات في شؤون الشرق الاوسط ثم تترجم ثانية الى الروسية مما يعطيها شكلاً آخر تماماً. ولكن تبقى كل الاستنتاجات والتقديرات من وجهة نظر الاستشراق السوفياتي الرسمي صحيحة كل الصحة. ويسمح الاستشهاد بالمؤلف، واقتباس بعض كلماته وآرائه التي "تنشر" في نص الرسالة الاكاديمية بمزيد من "التألق". واذا صدرت الرسالة في ما بعد في وطن الباحث الشاب في كتاب صغير أو كبير كان ذلك أفضل بالنسبة الى العالم السوفياتي المعروف لأن بوسعه ان يؤكد عندها في عمل علمي آخر أن الزملاء العرب قد استخدموا افكاره. وصار العمل الاكاديمي يكتب منذ البداية باللغة الروسية بمشاركة علماء ومترجمين سوفيات لأن معظم العلماء السوفيات المتخصصين بالشؤون العربية يعرف لغة الضاد بشكل لا بأس به، وهكذا تذهب كل الاموال الى "سلة واحدة". لكن هذا لا ينطبق على كل العرب من طلاب الدرجات العلمية. فقد تخرج من المعاهد السوفياتية عدد غير قليل من العلماء الموهوبين. ومع انهيار الاتحاد السوفياتي تضاءل نوعاً ما تدفق الطلاب وطلاب الدراسات العليا العرب الباحثين عن المعرفة والدرجات العلمية. فروسيا الجديدة تطلب مالاً في مقابل اعداد الاختصاصيين الأجانب بسبب عدم كفاية المال اللازم للتعليم فيها والتخلي عن المبادئ الايديولوجية التي دفعتها في الماضي الى مساعدة البلدان الاجنبية. وجامعة باتريس لومومبا الشهيرة للصداقة بين الشعوب مثال واضح على الوضع الجديد. فهي كانت مصنعاً قوياً لكوادر الاحزاب الشيوعية وأصدقائها في البلدان النامية. ومع بدء بريسترويكا تحولت هذه الجامعة شيئاً فشيئاً الى سوق غير شرعي لتصريف العملة في موسكو وأخيراً صارت سوقاً لبيع المخدرات المعروفة في العاصمة الروسية! بريطانيا: شهادات "اهداء" تفاصيل الحكاية في بريطانيا لا تختلف كثيراً عنها في روسيا، مع ان الشهادة الصادرة عن جامعة انكليزية أو اسكتلندية... كانت دائماً تثير اعجاباً شديداً في العالم العربي، سواء حصل عليها الطالب بعرق جبينه أو بأمواله. والشهادة "الايديولوجية" لا تتوافر هنا بشكلها السوفياتي السافر، كما ان دكتوراه "المجاملة" لا تُمنح مجاناً كما في جامعات عربية وأجنبية بل لها "ثمن" اذا دفعه المرء بسخاء فاز بالوثيقة الثمينة مهما كانت معرفته ضحلة او ناقصة بالانكليزية وبموضوع الاطروحة. أما شكل "المساعدة" وآلية تقديمها الى الشاري، ونوع الاطروحة في بريطانيا فكلها مألوفة لدى العارف بأحوال "سوق الشهادات" الفرنسية والاميركية خصوصاً. تبدأ المغامرة دائماً بالبحث عن كاتب للاطروحة قد يكون طالب دراسات عليا عربياً، أو استاذاً جامعياً عربياً أو بريطانياً. والاخير لا يتوانى احياناً عن كتابة اجزاء من الاطروحة، أو غض الطرف عموماً عمن يأخذ بيد الضيف العربي، اذا أحسن هذا مساعدته في تأمين نفقات الحياة المعيشية المرتفعة في هذا البلد! وثمة فرص ذهبية تنتظر القادر على استغلال الثغرات الموجودة في النظام التعليمي المتبع في الجامعات البريطانية. فبوسع الطالب الذي يحضّر الشهادات الثلاث العليا التي تلي الاجازة الجامعية - الدبلوم والماجستير و"إم فل" - ان "يجند" شخصاً ما لكتابة البحث المطلوب أو جزء منه ثم تقديمه الى الجامعة على انه ثمرة جهود الطالب الغريب. وقد تنطلي الخدعة لاسباب عدة أهمها ان تحضير أي من هذه الشهادات لا يتطلب الدفاع عن البحث امام لجنة فاحصة. وان الطالب يمكنه ان ينجز الاطروحة او الدراسات كلها في المكان الذي يختاره، من دون حسيب أو رقيب، وهو لا يخضع في معظم الحالات لأي امتحان. وهكذا تكاد تكون الاطروحة التي يكتبها له "فاعل خير"، هي العينة الوحيدة التي تقرر على أساسها لجنة الممتحنين - التي تجتمع في معزل عنه - نجاحه او رسوبه. اما في مرحلة الدكتوراه، فتكون حرية الطالب مقيدة الى درجة ما. اذ ينبغي ان لا يقل حجم الاطروحة عن 80 ألف كلمة ويجب ان "ترفد المعرفة الانسانية بمساهمة أصيلة". ومن جهة اخرى، عليه ان يدافع عن اطروحته امام لجنة مؤلفة عموماً من ممتحن داخلي هو مدرس في الجامعة المانحة، وممتحن خارجي أو اكثر قادم من جامعة اخرى. ومع ان جلسة الدفاع تجري خلف أبواب مغلقة فلا يحضرها سوى الطالب وممتحنيه، فهي - نظرياً على الاقل - تجربة لا يُستهان بها، وقد يرسب الطالب أو تطلب منه اعادة كتابة الاطروحة كلها أو بعض اجزائها. ويستطيع الممتحنون تأجيل النتيجة، كأن يلزموا الطالب اجراء تعديلات معينة على اطروحته كي يصار الى فحصها ثانية بعد 6 أشهر أو اكثر، مما يمكن ان يشكل صدمة حقيقية تحبطه وترهقه نفسياً وجسدياً. لكن بوسع الطالب الاجنبي، خصوصاً العربي، ان ينجو احياناً من هذا المأزق ويدفع عنه الكابوس بمبلغ يدفعه الى أحد "الضليعين" من الاساتذة او وكلائهم فيختارون له ممتحناً خارجياً "متفهماً"! وكثيراً ما يشعر الطالب بأنه في أمس الحاجة الى ممتحن "متعاطف"، لأن الاطروحة قد تكون بحثاً قدم سابقاً لنيل درجة علمية أقل أهمية في بريطانيا أو خارجها. أو يمكن ان تكون نسخة مترجمة عن كتاب صادر أساساً بالعربية ادعى الطالب انها من بنات افكاره التي خرج بها من ابحاث مضنية يستحق ان يكافأ عليها بشهادة دكتوراه. وفي معظم هذه الحالات، قد يكون الباحث الزائف قادراً على التواصل مع الآخرين بالانكليزية مما يمكنه من النجاة بجلده في جلسة الدفاع خصوصاً اذا ساعده احد اعضاء اللجنة. وبالطبع لكل معونة ثمنها، سواء قدمت في جلسة المناقشة مع لجنة الممتحنين أو اثناء اعداد الاطروحة. ويستطيع الاستاذ المشرف عادة ان يساهم مساهمة بالغة الأهمية في اختيار ممتحن خارجي "صديق"، لئلا نقول تعيينه. ولكن ماذا تقول الجامعة البريطانية اذا افتضح أمر صفقة دكتوراه تمت في عقر دارها، وبدا ان شهادة بيعت او توشك ان تُباع؟ يقول استاذ جامعي بريطاني - فضل ان يبقى اسمه مجهولاً - ل "الوسط": ان كشف صفقة من هذا النوع "أمر صعب جداً ان لم يكن مستحيلاً، والامثلة المتوافرة لدينا تُعد على أصابع اليد الواحدة. احياناً تفوح رائحة الغش، كما حصل في جامعة في جنوب انكلترا قبل سنوات عندما اتهم بروفسور عربي زميلاً عربياً آخر يدرّس في الجامعة ذاتها بترتيب أمر "سرقة" بحث كان الأول كلف باحثاً انكليزياً اعداده كي يكون جزءاً من دراسة أوسع. وأكد البروفسور العربي ان زميله الدكتور ساهم في اعادة صياغة البحث على شكل اطروحة نال بموجبها عربي شهادة الدكتوراه. ولكن حتى في حالة كهذه، تجنب مجلس الجامعة فرض أي عقوبة على أحد لسبب أساسي، هو ان العربي اجزل العطاء للجامعة. والسبب الثاني كان على الأرجح، رغبة المجلس في عدم التدخل. فهو يعتقد بأنه ليس جهاز استخبارات مهمته التحقيق في اصول كل اطروحة وكيف كتبت ومن كتبها... خصوصاً ان البريطاني يتربى عادة على تصديق الآخرين والثقة بكلامهم. المهم بالنسبة الى مجلس الجامعة هو استيفاء الاطروحة للشروط العلمية والتزامها القوانين المتبعة بغض النظر عن أي شيء آخر. واذا توافر لها ذلك فلا مبرر لرفضها، ولماذا يكذبون الطالب ويحققون في صحة اقواله ويهدرون وقتهم ووقته وأموالهم وأمواله؟" ويتندر أحد الاكاديميين العرب المخضرمين في بريطانيا بحكاية "زميل" مثيرة شهدتها أروقة الجامعة ذاتها. يروى ان طالباً مصرياً تقدم قبل سنوات بأطروحة ماجستير في الأدب العربي الحديث في جامعة مصرية، فلما رسب كلف مترجماً نقل البحث - الذي تناول ناقداً وكاتباً مصرياً معاصراً - الى الانكليزية. وجاء بالاطروحة، المترجمة، بعد اعوام الى الجامعة الانكليزية التي منحته على أساسها شهادة دكتوراه! وهذا "الدكتور"، وامثاله، يمكنهم ان يمنعوا أياً كان من الاطلاع على اطروحاتهم لسنوات طويلة. فالمكتبة الجامعية تحتفظ عادة بنسخة من الاطروحة الناجحة أو نسختين، حسب الجامعة والاختصاص. والقانون يخول الى الطالب حجب اطروحته لفترة زمنية طويلة، فلا يفسح لغيره في الاطلاع عليها أياً كان السبب. واذا كانت سوق الدكتوراه ناشطة الى حد ما في بريطانيا، فهي بعيدة عن الانظار اكثر من مثيلاتها في دول عربية وأجنبية. لكن انكشاف بعض الحالات التي لم يوفق ابطالها في تنفيذ الخطة ببراعة كافية، يلفت المرء الى توافر الشهادات "السهلة" في جامعات بريطانية عريقة او جديدة. احد اسباب هذا الغش الاكاديمي، هو "الفاقة" التي تعاني منها المؤسسة الجامعية في بلاد شكسبير. ويجب ان لا تحرم هذه الحالات الشاذة الشهادة الصادرة عن بريطانيا من الاحترام والسمعة الطيبة اللتين تستحقهما عن جدارة في معظم الاحيان. والجدير بالذكر، ان هذا الغش بأنواعه يكاد ينحصر في بريطانيا في الاختصاصات الاجتماعية والانسانية، كما كانت الحال - وربما لا تزال - في دول الاتحاد السوفياتي السابق وفرنسا... وثمة سبب رئيسي لتورط بعض العاملين في الجامعات البريطانية وطلابها الناطقين الانكليزية في هذه التجارة، هو ان الدرجات العالية أو الواطئة لا تعني لهم الكثير، تاريخياً. فما ضر ان يمنحوها في مقابل مكافأة سخية خصوصاً ان صاحبها سيستثمرها في بلاده البعيدة؟ اميركا: مصانع الشهادات خلافاً لبريطانياوفرنسا حيث لا تُحاط شهادة الدكتوراه بهالة من العظمة، تحظى الدرجات العلمية العالية في أميركا بأهمية كبيرة خصوصاً انها شرط لا بد منه للراغب في أي عمل تقريباً. فمثلاً، لا يمكن أميركياً ان يعمل مدرساً حتى للتصوير ما لم يحمل اجازة جامعية في هذا الفن. وبينما يستطيع البريطاني ان يمارس المحاماة بمجرد اجتيازه امتحاناً مهنياً، يستحيل على الأميركي ان يحلم بمزاولتها من دون شهادة جامعية في القانون. ولا ننسى ان الناجح في امتحان المحاماة البريطاني لا يقل بالضرورة كفاءة عن حامل الاجازة الجامعية في القانون، فالأول يقضي فترة سنتين، على الأقل، في الاستعداد للامتحان الصعب. غير ان المكانة المرموقة التي تحتلها الشهادة العالية لا تدل انها صعبة المنال دائماً في أميركا. لا بل بوسع المرء ان يحصل احياناً على اللقب النفيس حتى لو لم يستوفِ الشروط الأكاديمية المألوفة، ومن دون ان يدفع أي ثمن في مقابل الشهادة! ليس المقصود هنا شهادة "المجاملة"، بل حالة اخرى سنسوق عليها مثالاً كان بطله زميلاً صحافياً. ففي أواخر الستينات اتصل به صديق كان يعمل استاذاً في جامعة بوسطن ورئيساً لپ"جمعية الدراسات الافريقية" في أميركا، ليعرض عليه الاستقالة من عمله في صحيفة "واشنطن بوست" والتفرغ لتأسيس قسم للدراسات الافريقية في جامعة ساوث كارولينا. فاعتذر الزميل لأنه لا يحمل سوى ليسانس لا تخول اليه التدريس في الجامعة فكيف بتسلم رئاسة القسم المزمع اقامته. ولكن قيل له عندها من الممكن اعتبار كتابه المؤلف من جزئين عن تاريخ دول شبه الصحراء الافريقية اطروحة لنيل درجة الدكتوراه، ووعدوا بمنحه شهادة الماجستير أولاً على أساس بعض المقالات التي كان نشرها في "واشنطن بوست". غير انه اعتذر عن عدم قبول العرض السخي، قائلاً ان جميع رؤساء المكاتب الصحافية الاجنبية في ايطاليا يحملون لقب "دوتوري" دكتور في صورة آلية، فلماذا تعب القلب! وفي هذا السياق، يُذكر ان أقدم وأشهر جامعات انكلترا، كمبردج واكسفورد، تمنحان شهادة الماجستير في شكل شبه اوتوماتيكي لأي طالب يجتاز المرحلة الجامعية التي تستغرق 3 سنوات، ويقرر ان يقضي سنة رابعة للحصول على الدرجة العلمية التي تليها. أقصر الطرق وربما كان أقصر الطرق المؤدية الى الدكتوراه الأميركية وأيسرها،هو الفوز بدكتوراه فخرية Honoris Causa . ومن شروط اللقب الجديد الذي تعود به هذه الدكتوراه على المرء هي عدم الاستعمال تماماً، كلقب سير الذي "ترشو" به بريطانيا بعض أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي كي تضمن ولاءهم. لكن هناك دوماً من يخرق القانون والقواعد المتبعة، مثل كوامي نكروما رئيس وزراء غانا الأول. فمنذ حصل على دكتوراه فخرية من "نيفرو كوليج"، احدى كليات جامعة "لنكولن" في المدينة التي تحمل الاسم ذاته في ولاية بنسيلفانيا، صاروا ينادونه "الدكتور نكروما". كأن اللقب الفخري محا ذكريات خيبة الرسوب في امتحان المحاماة البريطاني الذي تقدم اليه مرتين من دون جدوى! ولعل الشهادات "السهلة" الأميركية والأوروبية على اختلاف أنواعها هي وليدة تقاليد غربية قديمة. فمنذ زمن طويل اعتاد أبناء الأثرياء والنافذين في المجتمع الغربي تكليف طلاب أذكياء فقراء كتابة وظائفهم الصغيرة أو الكبيرة نيابة عنهم. وعلى رغم نفي قصر باكنغهام باصرار شديد، فإن اللغط استمر على نطاق واسع في بريطانيا أيام كان الأمير تشارلز طالباً، عن "اعتكاف" ولي العهد عن الامتحانات التي يذهب اليها آخرون بدلاً منه! وبطبيعة الحال، قد ينجح الاجنبي في التهرب من الامتحان الذي يقدمه أحد عنه، لأن الفاحصين الأميركيين لن يميزوا على الارجح بين ملامح أجنبي وآخر. الا ان أنشط "آلات" انتاج الألقاب الأكاديمية في أميركا هي "مصانع الشهادات". وهذا الاسم يطلق على جامعات تمنح الشهادات العالية بسهولة فتستقطب مزيداً من الطلاب الأميركيين والاجانب مع انها لا تحظى باحترام كبير. وغالبية الشهادات التي تصدر عن هذه "المصانع" تكون عادة في مجال ادارة الأعمال. فمن يثبت انه عمل 10 أو 20 سنة في التجارة ولديه بعض الخبرة في الادارة، كأن يكون اشتغل في بيع السجاد مثلاً، هو مؤهل للحصول على ماجستير ادارة أعمال MBA من هذه الجامعات شرط ان يقدم اطروحة قصيرة بين 15 و20 الف كلمة. وينال الطالب اجازة جامعية من "مصانع الشهادات" بعد سنتين من الدراسة التي تتم بالمراسلة خلال العام كله اضافة الى اسبوعين يقضيهما الطلاب كل سنة مع أساتذتهم. الا ان هذه الشهادات مختلفة تماماً عن تلك التي تمنحها جامعات محترمة في بريطانياوجنوب افريقيا لمن ينهي بنجاح برامج دراسية ذات مستوى جيد، وهي تؤمن فرصة التحصيل الجامعي لشباب من دول افريقية صغيرة لم يكن ابناؤها يحلمون بمتابعة الدراسة بعد المرحلة الثانوية. ومن الطبيعي ان توفر برامج الدراسة بالمراسلة على اختلاف انواعها فرصاً أفضل للغش واعتماد الطالب على الآخرين لتأدية وظائفه. وربما كان ذلك هو السبب الذي دفع دولاً كثيرة الى سحب اعترافها بالشهادة التي يحصل عليها الطلاب بالمراسلة. وصارت الشهادات الأكاديمية "السهلة" مصدر قلق للسلطات المعنية منذ سنوات. وعلى رغم التعتيم الذي أحيطت به المسألة، أصدرت "جمعية الكليات والجامعات الحكومية الأميركية" AASCU العام 1989 تقريراً تناولت فيه ازدياد الحالات التي قدم فيها طلاب أو اساتذة "مساعدة" الى طلاب اجانب أو أميركيين، وأشارت الى ان ذلك أدى الى طرد عدد من المذنبين. ولكن ما هي الممارسات التي تحظرها الجامعات الأميركية باعتبارها غشاً اكاديمياً؟ لا تعترض المؤسسة الأكاديمية على استعانة طالب اجنبي بزميل اميركي أو كندي ليراجع له اطروحة أعدها لنيل الدكتوراه. فالمساعدة مقبولة طالما بقيت ضمن حدود المعقول واقتصرت على تصحيح الأخطاء اللغوية وتحسين طريقة العرض، كما قال لپ"الوسط" الدكتور نورتون فان دن هاغ الديبلوماسي السابق والاستاذ في قسم الدراسات العربية في جامعة ديوك البارزة في ولاية نورث كارولينا. واعتماد الطالب الأجنبي على ناطق بالانكليزية ليضبط له لغة الأطروحة، أمر منطقي خصوصاً ان لجان الامتحان لا تسامح، في الغالب، طالباً اجنبياً على أخطائه اللغوية والاملائية... وماذا عن كتابة طالب عربي الأطروحة بلغته الأصلية ثم "استئجار" مترجم أميركي من أصل عربي لنقلها الى الانكليزية؟ قال الدكتور هاغ: "لا بد ان هذا حصل ويحصل. وهو في رأيي غش، لأن المفروض في حامل الدكتوراه الأميركية ان يكون قادراً على التأليف بالانكليزية وتصحيح أوراق الطلاب المكتوبة بها". وقد يخطر لطالب عربي ان يقرأ أحد المراجع الضرورية لاعداد اطروحة الدكتوراه بعد ترجمته الى العربية، فهل ترضى الجامعة الأميركية بذلك؟ لا غضاضة في قراءة مرجع متوافر بالعربية اذا كان موضوع الأطروحة علمياً أو اجتماعياً أو تاريخياً… أما اذا كان البحث أدبياً فينبغي ان يقرأ صاحبه المراجع بلغتها الأصلية. فاذا كنت "تكتب اطروحة دكتوراه عن بلزاك يجب ان تقرأه بالفرنسية"