لوحة شاكر حسن آل سعيد مادة تكشف عن نفسها، وعن الأرض التي خرجت منها. فيها ينتهي الخشب بالحريق، والنحاس بالزنجار، وينتهي الطين بالوحل. ويبدو العالم منزوع القشرة، دامياً، مرئياً من لبّه. كأن شيخ الفنانين العراقيين يبحث عن خطى الزمن وآثاره تحت المادة، في ظلمة الأشياء وعماها. في ما يلي، على هامش معرضه البيروتي، محاولة لقراءة تجربته من منطلقات فلسفيّة. شاكر حسن آل سعيد شيخ الفنانين العراقيين جاء من بغداد إلى بيروت ليعرض في "صالة 50 x 70". أصغينا إليه وهو يستمد من فوكو والحلاج وعلم الآثار والاساطير ليبني بمصطلحاته الخاصة كلاماً مغلقاً كالتمائم والطلاسم. لكنه أيضاً متعدد النوافذ والمرجعيّات. حفرياته تسعى للوصول إلى الجزء الأصغر الذي يجده بعد أن ينبش عنه آلاف السنين. إنه مربع الخصوبة الذي يتنزل من حضارات ما بين النهرين إلى الزخرفة الاسلامية والخط العربي. وكلام شاكر حسن آل سعيد ذو جبلة سحرية. كلام موثق بأشكال وأرقام طلسمية، تجد فيه ما يغوي. لا يتيسر لك كلامه كثيراً لكنك تجده أرضية صالحة للّوحة. فهي قريبة من التعاويذ، لكنّها تتألف ككلام صاحبها من طبقات. لوحاته نافرة أحياناً، لكنّ عمقها الفعليّ هو في اللون نفسه الذي ليس ابن اللحظة. إنّه لا يولد تحت عينيك، بل ينظر إليك من بعد زماني ومكاني. العمق في الحتّ والتحفير الذي تحت اللون، في الملمس المبرغل الذي يوحي به اللون، ملمس الحجر المتأكل والرق والجلد. والعمق في الخرق الدائري الواسع الذي يفتح اللوحة على الفضاء، بل يستدعيه إلى اللوحة. لكن هذه الفتحة الدائرية المحروقة الجوانب تبدو أيضاً هاوية. إنها عمق شاسع للوحة. فضاء بلا نهاية ولا قاع. وقد نجد أن الخرق الواسع الدائري مسدود بقاع من الخشب، وإنه لم يعد خرقاً بل حفرة إلى طبقة أخرى. فالخرق الواسع كان دائماً فتحة بقدر ما كان حفرة. واللوحة، أذ تبدو حفريات وطبقات، لا تبتعد عن "فكرتها" بل تتكامل فيها. ما يسكن مخيلة شاكر آل سعيد هو الحفرة الأركيولوجية، بل الطبقات الأركيولوجية التي هي أيضاً حفريات المعرفة بتعبير الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو. إن الأرض هي التي تستقطب الفنّان، الأرض العميقة المتراكمة الطبقات. واللوحة نوع من منشور ترابي، إذا جاز التعبير. لذا نفهم شاكر آل سعيد حين يقول إن تخريقه يختلف عن تخريق فونتانا الذي كان أوّل من عرض لوحة "معدنية" مخرقة. فخلافاً لفونتانا، لا يتقصد آل سعيد "البحث عن معنى الفضاء" كما هو الأمر لدى فونتانا. إنّه يستخدم التخريق "لا من أجل الكشف عن خامة الفضاء لذاتها، بل من أجل إحكام التوافق بين الممتلىء والفارغ في كيان اللوحة". ما يسعى إليه هو "النقطة" التي هي أصغر وحدة في الخط، ولهذه النقطة محل في التصوّف كما نعرف. زقورة مقلوبة واللوحة التي نحن بصددها هي أيضاً نوع من زقوره برج مقلوبة. الطبقات تتدرج عمقاً لا علواً والخرق، مسدوداً أو مفتوحاً، رأس البرج أو النقطة التي يتكامل بها ويندفع في الفضاء. واذا صح هذا التفسير أم لا، فإن حضارة الطين، أو حضارات الطين في وادي الرافدين ليست بعيدة عن لوحة شاكر آل سعيد. إنه مجدداً يستنبش الطين، بل يصوغ منه محولا الخشب الذي هو من نبات الطين والارض، إلى مادة تكشف عن نفسها وعن الارض التي خرجت منها في آن معاً. ليست حفرة أركيولوجية فحسب هذه اللوحة، بل نوع من التاريخ الطبيعي. فهذه تضاريس وهذه حجبة صخور خشنة، وهذا تأكل وحتّ وانقشار. في ذلك كله نجد "الزمن الطبيعي"، زمن بلا زمن تقريباً، إذ لا يمر شيء سوى حركة المادة والفصول والزمن البحت. يسمي الفنّان ذلك "التعرية والامتلاء"، أو "التعرية والتراكم"، ويعني بذلك طبعاً ما هو ابعد من الزمن الطبيعي. لكن أصل الكلام في الجغرافيا الطبيعية واضح. ولا يفاجئه أن تقول له ذلك، بل يؤيده بأن ثقافته التحتية "هي تاريخية جغرافية"! كم هي موفقة هذه العبارة مقابل "ثقافته الفوقية" التي تبدو أحياناً اعلاء صارماً وغير واضح لعناصر تحتية. يصعب علينا أن نفهم نظرية البعد الواحد. لا يسعفنا في ذلك كتاب مركوز الشهير "الانسان ذو البعد الواحد"، ولا مفهوم التوحيد نفسه. ولا نصدق أن مثل هذه النظرية يمكن أن تكون أكثر من فلسفة شخصية. بل تستفزنا النظرية كي نبحث أكثر عن العناصر التحتية، فننتبه إلى أن تخريق شاكر آل سعيد في حقيقته تحريق بالحاء. فأطراف الخروق الخشبية الدائرية محروقة. الحريق واضح عليها بلونه السخامي، بل ان ثمة لوحات ذات سطوح محروقة توحي بأنها ما تبقى من حريق عنيف. ولون الحريق واضح على السطوح الخشبية كلها. اللون غالباً محروق. يقول آل سعيد إن "الاساطير كلها تنتهي بالحريق أو الطوفان" ويدعونا هذا إلى التأمل. ينتهي الخشب بالحريق. ينتهي النحاس بالزنجار، فهنا اللون الزنجاري يبدو وكأنه معدن. ينتهي الطين بالوحل، فالوحل هنا أيضاً ناشف أو رطب. ينتهي المعدن بالصدأ، والصدأ هو أثر الزمن، والتحوّل الذي يترك في النهاية بقيته ولونه. التحول يكشف صميم المادة، لونها الزمني، أصلها وعنصرها الأصلي. إنه زمن المادة، إذا جاز القول. وحين نسأله عن مادية اللوحة هذه، يستشهد بالحلاج الذي "كان يبدو اشكالياً بين انتسابه للناس واتجاهه نحو الأسمى". ولعلّ الشعور الذي يراودنا هنا، هو أن في الرسم شيئاً من النحت. ليس الرسم النافر مصدر هذا الشعور، بل سعي التصوير إلى الكشف عن طبيعة المادة، وعن داخلها وصميمها. فالحريق يكشف جوهر الخشب، والخشب المرسوم هنا يبقى خشباً ينحتّ وينتزع لحاؤه وينشر ويلون ويبقى في ذلك كله خشباً بالدرجة الأولى. بل أن الوحل والصدأ والزنجار تبدو وكأنها دم المادة وعصارتها. ولا يبدو الشكل الطلسمي والسحري للوحة لافتاً بالقوة نفسها. ليست الفوضى فقط ولا الاختلاط، بل العالم يبدو منزوع القشرة مجروحاً دامياً مرئياً من لبّه. وقلما يبدو أن الفنان يلون حقاً، ولكنه يكشف عن اللون الأصلي. اللون الذي هو تأكد الاشياء واحتراقها. أي انكشافها في التجول وفي الزمن. وإذا تأمّلنا أكثر في مصطلح "التعرية"، نجد أن الفنان احتفى بالجدران، بسطوحها الخشنة والمبرغلة والمتجعدة. ولا يزال يحتفي بملامس الأشياء كما يحتفي بنحوتات الطبيعة: البقع والتحويرات المائية على الجدران وفي التراب. جماليات المصادفة، بل جماليات ما تحت الاشكال وما تحت المادة نفسها. إنه يبحث بصورة أو بأخرى في ما تحت اللحاء، في ما يجري في ظلمة الأشياء وعماها وخفية عنها، في طفاواتها ومصادفاتها ولعب الزمن الخفي والعادي بها. يبحث ما وراء الزمان والمكان. فعل اصغاء وتلمّس هل أن شاكر آل سعيد منشغل إذاً بمخلوقات المصادفة التي بالكاد تتشكل، بالبقايا والأشياء المستنفذة، الناجية من عنف عاصف... من الحريق والطوفان، من طبقات الزمن سحيقة؟ لا يوافق الفنّان على هذا التفسير ويعتبره اخلاقياً وذاتياً، فيما عمله ذو بعد موضوعي. لكن الرسام حين يتموه بالاركيولوجي، يجعل الرسم شيئاً آخر. إنه الآن فعل اصغاء وتلمّس. فعل ازالة الطين والغبار. هكذا تبدو السطوح فهرسة وترقيماً وتوثيقاً وتسجيلاً. وفي لغته الخاصة جداً، يستخدم آل سعيد كثيراً لفظة توثيق. اللوحة ايضاً هي فهرس ما لهذا الغائب الكبير. من الخشب، ابن الارض، الثقيل العميق المتشقق المكتوب، نحو الورق الطيار الشفاف الخفيف... مسافة. اللوحات الورقية معروضة في زجاج يمسكها من الجانبين. معروضة حيث تشرب الضوء المحوم، وتبثه حولها. هنا الخفة التي تحدو بالرسام ليترك بعض لوحاته معلقاً متحركاً نظير منحوتات كالدر. هنا الفضاء الذي يبدو أن اللوحة المرسومة من جانبيها تسبح فيه، تردّه وتعكسه. ولعلّ الفرصة سانحة كي يوضح شاكر آل سعيد مفهومه للتعرية والامتلاء، بوصفهما متوافقين متكاملين. جانب من اللوحة معرى وجانب ممتلىء، وبين الجانبين قرابة واضحة، بحيث تبدو الواحدة فراغ الثانية أو خلاءها. قد لا تقبل تفسير الفنّان العراقي الكبير، لكنك تعرف يقيناً أن القائم بين لوحتي الوجهين وجهي الصفحة ليس اعتباطاً ولا ادعاءً. فمثل شاكر آل سعيد ليس أكذوبة، ومثله من يتركنا دائماً نصب معانيه المطوية. الوجهان مرسومان، لكن ذلك لا يكفي لتمام اللوحة. فاللوحة ليست مخرقة بقدر ما هي مثقّبة، مخدشة. والضوء يسلك في هذه الخدوش والثقوب المشتركة بين الوجهين والتي تجمع بينهما. كلّ ذلك يحيل اللوحة إلى نوع من أرخبيل ضوئي. إننا بعيدون شيئاً ما عن الأرض. بل نحن بعيدون عن عمقها وخفائرها وطفاواتها. فما نراه في هذه اللوحات قد يكون على وجهها وفوقها. قد يكون نماء وماء وضواً مشمساً. يظهر اللون، ليس لون التأكل والصدأ والحتّ، إنّما لون النماء والخصب ولون الظاهر. لون الخضرة العشبية والأزرق البحري، والبني الترابي. لا يبتعد كثيراً عن الأرض، لكنها الأرض الساطعة السابحة في الفضاء القائمة في الضوء. اللوحة مرسومة من جانبيها لكنها لا تكتمل: إنها تتحرك، تعكس الفضاء لترمينا فيه، وتجعلنا نراه يتوالد من حولها. كذلك اللوحة الخشبية ترمينا في أعماق لا نهاية لها. يقول شاكر آل سعيد إنه فهم من مشهد في فيلم عن بيكاسو، أن تحت اللوحة لوحات كثيرة. يتحدّث شاكر حسن آل سعيد عن فوكو والحلاج وعلم الآثار والأساطير... وعن نفسه أولاً، تلك النفس التي جعلت من كل هذه الشوارد البعيدة بناء صلباً ومغلقاً كالتميمة. إنه مؤمن ملتزم. حجّ ثلاث مرات ولا يصافح النساء ويؤدي الطقوس الدينية كلّها. وهو أيضاً حديث وطليعي بأكثر معاني الكلمة جدية. بل هو الوحيد القادر، في نظرية شبه سرية وشبه سحرية، أن يقيم بين الاصول الغابرة والعصر التشكيلي قربى رحمية، وأن يصوغ من كل ذلك أسطورته الخاصة. واذا سألته عن ذلك تحدث عن وجوده البيني بين بين الذي لا يستقر على حال. بل هو دائماً في حال ارتعاش وانزياح عن المركز. وليس هذا من عندياته فمرجعه صوفي. ثم يتحدث عن موقفه الخليقي، وجوهر هذا الموقف ان الانسان وحده الذي يتميز الجمال من القبح، أو ينسب للأشياء جمالاً وقبحاً، فيما الخالق لا يضع الاّ جمالاً، وكل ما خلقه جميل. الفن إذاً ابن الانسان. والجمال أيضاً على هذا النحو، صنعة وادعاء الانسان. أما الجمال الالهي، يواصل الفنّان الذي تمعن في الحلاج، فلا تحدّه حدود. ولعلّ الكشف عن هذا اللامتناهي هو موضوع اهتمامه الروحي الأساسي في الوجود