على رغم دوره الحاسم في ادارة شؤون الدولة الا ان العاهل الأردني مصون حسب الدستور الأردني من المساءلة. فالملك هو رئيس السلطة التنفيذية يتولاها بواسطة وزرائه، وهو شريك اساسي في السلطة التشريعية الى جانب مجلسي الأعيان والنواب، وكذلك فإن كافة قرارات السلطة القضائية تصدر باسمه. غير ان ارادات الملك مراسيمه لا تنفذ الا بتوقيع رئيس الوزراء والوزراء المختصين عليها ليكونوا مسؤولين عنها امام السلطتين التشريعية والقضائية. ومن هنا فإن لعبة الحكم في الأردن وبعد سنوات قليلة من تسلم الملك حسين سلطاته الدستورية باتت تدار خارج عتبات القصر ولا تصل اليه بأي حال على رغم ان الملك هو الذي يدير اللعبة بنفسه. في منتصف الخمسينات واجه الملك الشاب آنذاك معارضة لحكمه وصلت الى حد تمرد وحدات من الجيش ضد النظام، لكن الملك واجه الموقف بكل حزم فعزل الحكومة والبرلمان وحل الاحزاب السياسية. ومنذ ذلك الوقت احتكم الجميع الى الدستور كقاعدة للعبة. وجاءت العودة الى الانتخابات النيابية العام 1989 بعد توقف 22 عاماً والميثاق الوطني العام 1991 بمثابة تنشيط للذاكرة السياسية الأردنية وتنبيه للاعبين الجدد بأصول اللعبة الأردنية التي تبدو نموذجاً فريداً في المنطقة. وفي العام 1984 اتخذت حكومة السيد احمد عبيدات قراراً تاريخياً باعادة مجلس النواب المنتخب في العام 1967 من ضفتي الأردن الى العمل، اذ حال احتلال الضفة الغربية في ذلك العام دون اجراء انتخابات جديدة للمملكة المتحدة. واستندت الحكومة في قرارها الى اعتراف الأردن بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني في قمة الرباط 1974، لكنها عدّلت قانون الانتخابات النيابية بحيث يتم انتخاب ابناء الضفة الغربية ممن شغرت مقاعدهم بسبب الوفاة من قبل مجموع اعضاء مجلس النواب. غير ان الوفاة لم تقتصر على ابناء الضفة الغربية بل شملت عدداً من اعضاء المجلس من ابناء الأردن. وأجريت الانتخابات التكميلية بالاقتراع العام المباشر وفاز بأحد مقاعد العاصمة المهندس ليث شبيلات الذي عرفته الحياة العامة الأردنية قبل ذلك بأعوام عدة عضواً في المجلس الوطني الاستشاري الذي شكله الملك بالتعيين لسد فراغ السلطة التشريعية. وبدءاً من العام التالي 1985 تشكلت حكومة جديدة برئاسة السيد زيد الرفاعي وبدأت تواجه معارضة لم تشهدها حكومة أردنية منذ حكومة والده سمير الرفاعي التي اسقطها البرلمان العام 1961. ومع ان المعارضين كانوا قلة قليلة الا انهم ازعجوا الحكومة. وكان في مقدم النواب المعارضين المهندس الشاب ليث شبيلات الاسلامي المستقل. وفي العام 1989 عندما اجريت الانتخابات النيابية العامة للمرة الأولى منذ 22 عاماً ترشح المهندس شبيلات عن الدائرة الثالثة في العاصمة وهي التي تعتبر الدائرة الاصعب على مستوى الأردن وتفرز النخبة في الغالب، وفاز بالمرتبة الأولى. نجم بين قلة لكن النائب شبيلات عام 1989 غيره عام 1985، ففي المرة الأولى كان نجماً بارزاً وسط قلة معارضة. اما في الثانية فهو بين 23 نائباً عن "الاخوان المسلمين" بينهم صقور وحمائم، وبين يساريين وقوميين برزت اسماؤهم بسرعة في مجلس نيابي مختلف. ومرة اخرى حاول شبيلات ان يكون لاعباً متميزاً فلعب دور "الاستاذ المعارض" وليس مجرد معارض فحسب، وأصبحت خطبه موجهة الى المعارضة اكثر منها الى الحكومات، اذ اخذ عليها، خصوصاً الاسلامية منها، مناوراتها ودخولها احدى الحكومات. وفي السنة الثالثة من عمر المجلس كان شبيلات خلف قضبان السجن بتهمة تنظيم حركة "النفير الاسلامي" بقصد قلب نظام الحكم. وأصدرت محكمة امن الدولة حكماً بالاعدام خففته الى الاشغال الشاقة لمدة 20 عاماً. غير ان الملك حسين اصدر عفواً عاماً شمل شبيلات وأعاده الى الحياة العامة من جديد، لكنه فاجأ الجميع في ما بعد باعلان اعتزاله السياسة وإحجامه عن الترشيح للانتخابات النيابية التالية في العام 1993. وتعاطف كثيرون مع شبيلات هذه المرة، ليس لأنه اعتزل بل لأنهم لم يصدقوا التهم المنسوبة اليه. وفوق هذا انحوا باللائمة على الحكومة بسبب "الاخراج" غير المقنع لمسيرة محاكمة شبيلات. لكن غيبة شبيلات عن السياسة لم تدم طويلاً، اذ عاد اليها عبر المحاضرات والندوات، فكانت المحاضرة الشهيرة العام الماضي 1995 التي اتهم فيها الأسرة الهاشمية، من الحسين بن علي الى الملك عبدالله ابنه جد الملك حسين الى الملك حسين نفسه بالخيانة وعلاقاتهم مع اليهود. وأودع شبيلات السجن تمهيداً لمحاكمته بتهمة "اطالة اللسان" وقدح مقام الملك والأسرة الهاشمية امام محكمة امن الدولة التي حكمت عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات تبدأ من تاريخ اعتقاله في تشرين الثاني نوفمبر 1995، ليمنع بعدها من ترشيح نفسه للانتخابات النيابية التكميلية في محافظة البلقاء، ولكن ليفوز مرة اخرى نقيباً للمهندسين وهو في سجنه. غير ان ما جرى يوم الجمعة قبل الماضي 8/11/1996 سيظل علامة فارقة في تاريخ الأردن السياسي، ليس بسبب خروج ليث شبيلات من سجنه بل بسبب الظروف غير العادية التي احاطت بخروجه والاسئلة التي اثارها تصرف الملك حسين المألوف لكن غير المسبوق تجاه شبيلات. كان الملك حسين في منزل شقيقه الامير محمد قبل الحادثة بثلاثة أيام. وكان في المنزل حماة الامير السيدة سميحة المجالي وهي زوجة السياسي الأردني المعروف عاكف الفايز، وقبلها ارملة المرحوم هزاع المجالي رئيس الوزراء الأردني الذي اغتيل بانفجار نسف رئاسة الوزراء مطلع الستينات، وهو والد الاميرة تغريد زوجة الامير محمد. وتشعب الحديث الى ان وصلت صديقة سميحة والدة ليث شبيلات وهي ارملة السياسي الأردني المعروف فرحان شبيلات الذي شغل مناصب وزارية عدة في عهدي الملك عبدالله والملك حسين. اكراماً للوالدة وأبلغت السيدة سميحة المجالي العاهل الأردني ان صديقتها ام ليث شبيلات مستاءة من معاملة ادارة السجن لابنها اذ تمنع زيارته او حتى استخدامه الهاتف. وبعد دقائق اتصل الملك هاتفياً بپ"العمة" ام ليث ووعدها بأن يحل المشكلة. لكن حتى العمة ام ليث لم تكن تتوقع ان يكون الحل على هذا النحو ولا بكل تلك السرعة. فيوم الجمعة 8/11/1996 ومع غروب الشمس كان الملك حسين يدخل سجن سواقة الصحراوي 70 كيلومتراً جنوبعمان ويجلس في مكتب المدير "الغائب" ويطلب من نائبه الافراج فوراً عن السجين ليث شبيلات وتسليمه اليه. ولما أرسل الضابط طالباً من ليث الحضور الى مكتبه تمهل ليث في الحضور كي يتمكن من تناول افطاره بعد صيام النوافل. وفوجئ شبيلات بوجود الملك وبقراره الافراج عنه فطلب منه التدخل للافراج عن زملائه المعتقلين على خلفية احداث الجنوب الاخيرة المعروفة بأحداث الخبز، فوعده خيراً وقام شبيلات بنفسه بإبلاغ زملائه بالفرج القريب. وبث التلفزيون نبأ الافراج عن شبيلات حيث ظهرت على الشاشة رسالة من صفحتين مكتوبة بخط يد الملك حسين نفسه وهو خط معروف للشعب الأردني موجهة الى رئيس الوزراء عبدالكريم الكباريتي يطلب فيها اعتبار الرسالة ارادة ملكية بالافراج عن المهندس ليث شبيلات. ولكن الملك وجّه في الرسالة انتقاداً عنيفاً لشبيلات واصفاً اياه بالمتمادي والمسيء الى الأسرة الهاشمية، لكنه عفا عنه "اكراماً للعمة والدته والعم الجليل والده ولشقيقه عضو مجلس الأعيان الدكتور غيث ولزوجته وأطفاله وأبناء محافظة الطفيلة" على حد تعبير الرسالة. رسالة الملك الى رئيس وزرائه كانت بخط واضح ومن غير اخطاء او "تشطيب" مما يدل على انه كتبها بتأن على الأقل او انه اعاد كتابتها. فلماذا لم تطبع الرسالة على الآلة الكاتبة؟ ولماذا لم يعلم الملك حسين احداً بنيته وفوجئ الجميع بالخطوة بمن فيهم الحكومة؟ ثم لماذا الرسالة قبل صدور الارادة الملكية وقرار مجلس الوزراء الذي يعتبر شرطاً للعفو الخاص؟ لقد اعتبر بعضهم ان العفو خطوة ملكية نحو المواطنين جميعاً في رسالة مفادها ان الحكومات مهما فعلت فلن تستطيع السحب من رصيد الملك الشعبي. وبعضهم الآخر اعتقد بأنها موجهة الى الحكومة التي تسببت باحتقانات شعبية بأن رحيلها اقترب وان قرارات كالعفو الخاص ستخفف من الاحتقانات. كل ذلك مطروح فيما شبيلات مصمم على السكوت، بل انه تحدث قليلاً الى عدد من الصحافيين المقربين منه ثم عاد للاتصال بهم في اليوم نفسه طالباً عدم نشر اي كلمة على لسانه وقائلاً انه تلقى نصيحة من جهات عليا الملك على الارجح بألا يتكلم في هذه المرحلة على الأقل. وإذا كانت هذه الحادثة صحيحة فان سياسيين اردنيين يعتقدون بأن في ذهن الملك قرارات جديدة قد يعلن عنها لدى افتتاحه البرلمان في التاسع عشر من الشهر الجاري. وذكر مقربون من شبيلات لپ"الوسط" ان الحديث الذي استغرق طوال نحو 45 دقيقة في سيارة الملك منذ خروج شبيلات من السجن حتى منزل والدته تشعب كثيراً، بدءاً من الشيب الذي غزا رأس ولحية شبيلات وانتهى بالتذمر المتبادل من الاوضاع العامة في البلاد. وقال هؤلاء ان شبيلات انتقد الأداء الاعلامي الرسمي وشبه الرسمي وقال ان الصحافة الشعبية التابلويد والمعارضة تخدمان النظام على عكس الاعلام الرسمي الذي يحجب الحقائق. اسئلة كثيرة ما زالت تدور في الأردن عقب خروج شبيلات من السجن. فالحكومة الأردنية صامتة وتقول ان الاجراء حق من حقوق الملك من دون غيره. اما "الاخوان المسلمون" فعلقوا على لسان النائب الدكتور بسام العموش بأنهم أول من طالب بالافراج عن شبيلات وعن المعتقلين السياسيين، لكنهم ضد "اطالة اللسان"، فيما راهن نائب وسطي بارز على ان شبيلات لن يتغير. وأخيراً فإن شائعة انطلقت من بعض المقربين من شبيلات تقول ان الملك وعده بموقع جديد