لم تكن الحرب في افغانستان مجرد اقتتال داخلي ليمكن حسمها بالوسائل العسكرية وحدها. وحتى حين ارغم الاتحاد السوفياتي على الانسحاب وسقط النظام التابع له اندلعت الحرب بين الفصائل الافغانية التي دخلت في تحالفات اقليمية متناقضة. ربما لهذا السبب لا يكفي ان تفرض حركة "طالبان" سيطرتها على كابول ليمكن القول ان السلام بات وشيكاً. فالذي يسيطر على كابول عليه ان يأخذ في الاعتبار حسابات الجيران الاقوياء وفي طليعتهم باكستانوروسياوايران. واذا كانت "طالبان" استندت اصلاً الى تعاطف باكستاني فانها لا تستطيع تجاهل التحذيرات التي صدرت من موسكو وطهران خصوصاً ان التركيبة الافغانية نفسها تتيح لهؤلاء الجيران الامساك بأوراق داخلية. وحتى ولو افترضنا ان نظام "طالبان" قادر على "تأديب" قائد القوات الرئاسية السابق احمد شاه مسعود المتحصن في وادي بنشير فماذا تراه سيفعل بالجنرال الاوزبكي عبدالرشيد دوستم؟ الصفقة مع دوستم تعني ان طالبان لم توحد افغانستان تحت سيطرتها والحرب مع دوستم قد تكون باهظة لأنها ستعطي روسيا فرصة لتصفية الحسابات وارغام "طالبان" على اخذ مصالح موسكو في الاعتبار. ربما لهذا السبب حرص رئيس مجلس الامن القومي الروسي الجنرال الكسندر ليبيد على تحذير طالبان من مغبة المساس بحدود الجمهوريات السوفياتية السابقة في آسيا الوسطى معتبراً ان وصول المقاتلين الاسلاميين المتطرفين الى الحكم في افغانستان "يشكل تهديداً خطيراً لامن روسيا". وقال ليبيد ان ما حصل في الشيشان قد يكون مجرد نزهة قياساً على ما يمكن ان يحصل في افغانستان في حال اندلاع نزاع واسع. يبقى ان مستقبل الوضع في افغانستان مرهون بالطريقة التي ستدير بها "طالبان" الانتصار الذي حققته وتسعى الى استكماله. والسؤال هو هل ستكون قادرة على طمأنة الشعب الذي انهكته حروب الفصائل وفي الوقت نفسه اقناع روسياوايران والهند بأن قيام نظام متشدد في كابول يبقى افضل من حرب اهلية مفتوحة اتاحت ل "الافغان" الوافدين من بلدان شتى فرص التدرب على الارهاب وبناء معاقل وشبكات لتصديره. كان إعدام الرئيس الشيوعي الافغاني السابق الدكتور نجيب الله في كابول اخيراً بداية غير موفّقة لحكم حركة طالبان. فقد اصيب سكان العاصمة بعدما نزلوا الى الشوارع اثر سيطرة قوات طالبان عليه بالهلع والفزع ولم يحتفوا بانتصار الحركة الذي قد يضع حداً لحرب ظلت كابول تصطلي بنيرانها منذ 17 عاماً. وكان الدكتور نجيب الله رئيساً بلا شعبية تُذكر عندما أُقصي من السلطة واضطر الى اللجوء الى مجمع الاممالمتحدة العام 1992. وعلى رغم ان سكان كابول الصامدين ربما تمنوا لو ان رئيسهم السابق حظي بمحاكمة عادلة، فان سكان الريف - خصوصاً المناطق البشتونية - رحّبوا بطالبان ترحيباً واسعاً. ذلك ان القيود التي فرضوها على النساء لا تمثّل مشكلة بالنسبة الى تلك المناطق المحافظة اصلاً. كما ان روح الانضباط التي تتميز بها قوات الحركة كانت عاملاً آخر زاد الترحيب بتوليهم السلطة. فعلى النقيض من احتلالهم المناطق الاخرى، فإن مقاتلي طالبان لم ينهبوا ولم يفرضوا أتاوات باهظة على سائقي الشاحنات في الطرق الرئيسية المؤدية الى العاصمة الافغانية. وكنت حاضراً عندما تفاوض شيوخ احدى القرى قرب جلال اباد مع زعماء طالبان لمنحهم اذناً لدفن جثة صبي قتل في المعارك التي دارت في المنطقة. فقد عامل رجال الحركة شيوخ القرية باحترام، وسمحوا لهم بدفن الصبي بما يليق بتقاليد المنطقة. اذ ان معظم مقاتلي طالبان من صبيان أشد الأرياف الافغانية فقراً، ولا تشعر بأن لقادتهم اي حرص او تكالب على ما تجلبه السلطة من مزايا ورفاهية. حركة زاهدة وكان عدد من زعمائهم، خصوصاً على الصعيد العسكري، من قادة المجاهدين سابقاً. غير ان ملا رباني - وهو اشد قادة طالبان نفوذاً في الحكومة السداسية الموقتة التي شكلت في كابول - تخرّج في مدرسة دينية نظامية إسوة ببقية مقاتلي الحركة الذين أشعلوا شرارة "ثورتهم ضد المجاهدين في مخيمات اللاجئين الافغان في باكستان. واثناء سيرنا وراء قوات طالبان في تقدمها السريع صوب كابول، كان ملا رباني مهتماً بالعثور على مكان مناسب يسعنا ان نمضي فيه الليل. وعندما قلنا له ان بقاءنا مع طالبان لمتابعة اخبار المعارك ونقلها الى مؤسساتنا الاعلامية اهم بالنسبة الينا من راحتنا الشخصية، ضحك وردّ بعفوية: أنتم مثل "الملالي"، الذين يستطيعون ان يناموا في اي مكان. والواقع ان ذلك أحد اسرار نجاح الحركة، اذ انها جيش يتسم بالمرونة، ولا تحتاج الى دعم لوجستي، كما انها حركة ثورية زاهدة في الترف المادي المعتاد. وفي المقابل تجد ان خصومهم يعتبرون قوة تقليدية جداً. وبعدما احتل طالبان مدينة جلال اباد، سيطروا بسهولة على المناطق الزراعية الخصبة المحيطة بالمدينة في طريقهم شمالاً الى نورستان. وهذا الجزء هو اشد مناطق البلاد كثافة سكانية. لكن السكان رحّبوا من دون ابداء اي مقاومة. ومع ان الطريق من هناك الى كابول لم تكن سهلة، الا ان قوات طالبان المدججة بأسلحة خفيفة ويعززها ايمانها العميق بقضيتها واصلت تقدمها سريعاً صوب العاصمة. اكبر المعارك وكانت اكبر معركة خاضها مقاتلو طالبان تلك التي دارت للسيطرة على بلدة ساروبي الواقعة على وادٍ على طريق وعرة بين جبلين. وشنّ المقاتلون هجوماً جريئاً من الجنوب عبر حقل الغام فتمكنوا عملياً من عزل عدد كبير من قوات الحكومة التي كانت تدافع عن طريق الحرير الواقع الى الشرق من ساروبي، فتراجعت من هناك اشتاتاً. وبعد اربع وعشرين ساعة لاحقتها قوات طالبان حتى بوابات كابول لتحاصر المدينة من ثلاثة جوانب. وقد رأيت ملا رباني في اليوم التالي وهو يتناول غداء خفيفاً في ارض حدائق القصر الرئاسي مع مئات من رجاله. وكان هؤلاء يملأون جنبات المكان الذي كان قصراً ملكياً ذات يوم، وحطموا تمثالي أسدين وعدداً كبيراً من صور الاشخاص والحيوانات. ورفض ملا رباني مقابلة اي صحافية، كما رفض ان تلتقط له اي صورة. وسعى، في المقابلة التي سمح لي باجرائها معه، الى تبرير اقدام مقاتليه على التعجيل بإعدام الرئيس السابق الدكتور نجيب الله، فقال ان الرئيس السابق مجرم، "لقد كان شيوعياً وتلك جريمته اما جرائمه الاخرى فهي جَلِيَّة، اذ قتل عدداً كبيراً من الاشخاص، ونحن نريد ان نوجه رسالة من خلال قتله بأن اي شخص يعمل ضد الاسلام سيواجه المصير نفسه". دوستم وطالبان وفي مزار الشريف، وهي المعقل الرئيسي لقوات الجنرال عبدالرشيد دوستم في شمال افغانستان، ندّد كبار اعوان الجنرال الأوزبكي باعدام الرئيس الشيوعي السابق. وتعتبر المحافظات الست التي يسيطر عليهم دوستم آخر مناطق افغانستان التي لا تخضع لسيطرة طالبان. وكان هذا الجنرال الذي نجا من كل الحروب التي شهدتها البلاد التقى اخيراً زعماء الحركة في العاصمة الباكستانيةاسلام اباد بغية التوصل الى صفقة. وذكر لي ملا رباني انه قد يكون مستعداً للتفاوض مع دوستم للتوصل الى اتفاق سلام، وقال ان ثمة فرقاً بين دوستم والرئيس الشيوعي السابق نجيب الله "اذ ان دوستم تخلى عن الشيوعية وأضحى مسلماً جيداً". غير ان المتشددين من كلا الطرفين يطالبون بخوض حرب حتى النهاية. ويعتقد بأن رئيس الوزراء السابق قلب الدين حكمتيار على اتصال وثيق حالياً بالجنرال الاوزبكي سعياً الى التحالف معه ضد طالبان. واذا استمرت الحرب الاهلية الافغانية فمن شأن ذلك ان يزيد تدهور العلاقات المتردية اصلاً بين طالبان وطهران. وكانت ايران التي تجاور افغانستان من الغرب أبدت استياءها من التقدم السريع الذي احرزه مقاتلو الحركة. ويبدو ان الاقلية الشيعية التي تقيم في كابول مرتاحة الى بسط طالبان سيطرتها على البلاد، وذلك بسبب المعاملة السيئة التي لقيها الشيعة على ايدي قوات الحكومة السابقة. بيد ان غرب افغانستان حيث يتكلم عدد كبير من السكان اللغة الفارسية يقيم صلة ثقافية قديمة مع ايران. واذا كانت الحركة ستواجه اي معارضة فمن المتوقع ان تنطلق تلك المعارضة من مدينة هيرات حيث يعتبر السكان مقاتلي طالبان غزاة وليسوا محررين. وليست لدى حركة طالبان اي سياسة لتصدير ثورتها. كما انها اغلقت معسكرات الافغان العرب. ولكن على رغم ان قادتها يقولون انه لا يوجد خلاف بينهم وبين المهندس اسامة بن لادن فانه هرب من المكان الذي كان يلوذ به، لوجوده في منطقة تخضع لسيطرة طالبان. قضية المرأة ويبدي الديبلوماسيون الذين ينتمون الى دول معينة بتطورات الشأن الافغاني حذراً حيال ما يجري في افغانستان. ومع انه ينبغي الترحيب بأي حكومة قادرة على احلال السلام وتوحيد البلاد الا انه لا يزال يتعين اجراء مفاوضات طويلة مع قيادة طالبان في شأن القيود التي فرضتها على النساء. وقال نوربرت هول المبعوث الخاص للامين العام للامم المتحدة الى افغانستان، في تصريحات ادلى بها اثر لقائه زعماء طالبان، ان بعض برامج المنظمة الدولية قد تعطلت في المناطق الخاضعة للحركة، بسبب اصرارها على عدم قيام النساء بأي دور. وكان هول التقى، قبل اجتماعه مع الحكومة السداسية الموقتة، مع ملاّ رباني على انفراد وبحث معه في انتهاك مقاتلي الحركة الحماية التي يتمتع بها مجمع الاممالمتحدة، اذ ان الرئيس السابق نجيب الله أُخذ من المجمع عنوة. غير ان المبعوث الدولي اوضح لاحقاً ان تلك الحادثة لن تمنع الاممالمتحدة من اجراء حوار بنّاء مع النظام الجديد في كابول. ولا تزال المساعي الرامية الى جمع الفرقاء الافغان الى طاولة المفاوضات متعثرة في الوقت الحالي، بيد ان ديبلوماسيي الاممالمتحدة يبذلون جهوداً لا تكلّ لتذكير قادة طالبان بالتزاماتهم الدولية خصوصاً البند الذي ينص في ميثاق الاممالمتحدة على منع التمييز ضد النساء. ولا يبدو في افغانستان التي يتسم مجتمعها بأنه محافظ جداً ان فرض قيود على حركة النساء يتسم بالصعوبة نفسها لو فرضت تلك القيود في مكان آخر. ولكن يبدو على وجه الخصوص ان المرسوم الجديد الذي يمنع خروج المرأة الى العمل شديد القسوة في مجتمع يكثر فيه عدد الأرامل. اذ خلّفت الحرب عشرات الآلاف من النساء اللاتي أضحين مسؤولات عن أسرهن بعد مقتل أربابها. وفي محاولة لتخفيف الوقع اعلنت القيادة الافغانية الجديدة ان النساء العاملات في مكاتب الدولة ستدفع لهن رواتبهن اذا بقين في دورهن. غير انه لا يتوقع ان يسفر هذا القرار عن تحديد دور المرأة على المدى البعيد في المجتمع الافغاني. ولا يبدو، من ناحية ثانية ان قرار اغلاق مدارس البنات يثير قضية مدوّية تذكر. فقد ذكر لي ملاّ رباني ان الحكومي لا تنوي منع اي شخص من التعليم ولكن على الفتيات ان يتعلمن "وفقاً لما تقضي به الشريعة". وثمة من يتوقع ان تعمل حركة طالبان على تغيير سياساتها الزاهدة المتشددة لاضفاء قدر من الحيوية على حياة مقاتليها التي ستتغير عندما يواجهون الواقع العملي وما تتطلبه ادارة البلاد. غير انه لا يتوقع ان ترخي حركة طالبان قبضتها على التطبيق الصارم للشريعة بما في ذلك تنفيذ العقوبات الحدّية. والواقع انه في معظم الارجاء التي سعت الحركة على فرض الشريعة فيها حالت متطلبات اثبات جرائم من قبيل الزنا دون تطبيق الحدود، ولذلك مثلاً لم تقطع أيدي المتهمين بالسرقة في المحافظات المحاذية للحدود مع باكستان. * مراسل هيئة الاذاعة البريطانية في جنوب آسيا.