بينما ينعي البعض الرأسمالية الروسية، يتذكر بعضٌ آخر ظروف ولادتها العاصفة والمرتجلة، كما يتذكر انتقالات الى الرأسمالية والديموقراطية كانت أسهل وأسلم: في أواسط السبعينات، مثلاً، حصل انتقالان في اسبانياوالبرتغال. أقلعت اسبانيا وبدا الانقلاب العسكري كاريكاتورياً، أما في البرتغال فلم تعمّر طويلاً تلك الديكتاتورية الانتقالية، العسكرية - اليسارية، المصحوبة بفوضى كثيرة. لقد أنجزت مهمتها في اسقاط حكم سالازار وخليفته كايتانو، وفي انهاء آخر الاستعمارات الأوروبية لأفريقيا أنغولا، الموزامبيق، غينيا - بيساو، ثم رحلت غير مأسوف عليها. نهاية الشيوعية، أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات، سجلت انتقالات ناجحة جداً في بلدان البلطيق، ولكنْ أيضاً في بولندا وهنغاريا وتشيكوسلوفاكيا، لا سيما شقها الذي غدا تشيكيا. هذه البلدان على عمومها تمتعت بطبقة وسطى قوية، وبمجتمعات لم يستطع الاستبداد تحطيمها. فقد حافظت، مثلها مثل اسبانياوالبرتغال، على تماسكها، ونمّت نفسها كحالة ضامرة متقدمة على السلطة، فما ان سقطت الأخيرة حتى استطاعت المجتمعات المذكورة ان تنشىء بدائلها الديموقراطية والرأسمالية. وبالمعنى نفسها لعب قربها من أوروبا الغربية، وصِلتها بثقافتها، واستعدادها للتعلم من تقليدها السياسي، دوره الكبير في العملية هذه. روسيا لم تكن هكذا. ميخائيل غورباتشوف ربما كان المرشح لأن ينقلها بالتدريج الى الديموقراطية والرأسمالية معاً، لكنه فشل. وما حصل في بلاده يذكّر، بدرامية أكبر ومخاطر أكبر كما لا تني الأيام الأخيرة تبدي، بفشل بختيار في أن يتولى المهمة المماثلة في ايران، فيرث الشاه بدلا من الخميني. أو بفشل محمد نجيب في مصر في أن يحل، بدل جمال عبدالناصر، محل فاروق. لا بل يذكر بكيرينسكي الروسي الذي ورثته البلشفية، في 1917، قبل ان يرث القيصرية المتربعة طويلاً في الكرملين. ويبقى غورباتشوف حالة نموذجية وراهنة للدرس، بصفته آخر مأسويي التاريخ في عمليات الانتقال التي لم يُكتب لها النجاح: لقد اعتصره التطرف بوجهيه الشيوعي والمعادي للشيوعية، وتحكمت بنشاطه تربةٌ كان الشيوعيون جعلوها على امتداد سبعة عقود جرداء قاحلة: الخيارات المتاحة هي بين الخضوع للاستبداد والكبت، أو التعبير الديماغوجي والشعبوي الصادر عن ديمومة الكبت ووطأته. وهي بين الأوامر البيروقراطية التي تحول دون مشاركة البشر في صوغ حياتهم، وبين الفوضى التي تقارب الفتنة المفتوحة لبشر لم يتَح لهم من قبل أن يتولوا شؤونهم ويفكروا في تسييرها. طبعاً كان غورباتشوف شيوعياً، هو الذي توصل ما بين 1985 و1991 لأن يصبح الأمين العام للحزب الحاكم، وكان منذ 1952 انتسب الى الحزب، ليصبح بعد 19 سنة، عضو اللجنة المركزية. وفي النهاية كان "الاصلاحي" اندروبوف، ولكنْ أيضاً "الستاليني" سوسلوف، من ساهم في صعوده. لكن همّ غورباتشوف الأساسي، هو القليل الايديولوجية والكثير البراغماتية، كان احياء الاقتصاد السوفياتي الراكد بعد سنوات من النمو المتدني الذي عرفه عهد بريجنيف 1964 - 82. ماضي غورباتشوف كمسؤول حزبي عن الزراعة منذ 1978 أكسبه هذه الحساسية، ومن هنا بدأ، ليستخلص نهجه بأكمله على ما فيه من مناورة ومداورة وتراجع وتقدم: دعا الى تحديث تقني سريع، وعمل على رفع الانتاجية العمالية، وحاول جعل البيروقراطية المتثاقلة أشد فعالية واستجابة. النظام بدا منيعاً ومتيناً، ولهذا بدت نتائج الاصلاح بائسة. تقدم غورباتشوف، في 1987 - 1988، خطوة في اصلاحاته الاقتصادية والسياسية، مكتشفاً انه لا بد من الاخيرة لكي تسند الاولى. في ظل سياسته الجديدة، "الغلاسنوست" الانفتاح، بدأت الحياة الثقافية والتعبيرية المكبوتة بالتفجر. المارد خرج، والقمقم قرر ان يفتح. تم توسيع حريات التعبير والمعلومات في صورة ملحوظة. الصحافة والاذاعة سُمح لهما بهامش غير معهود قبلاً في كتابة التقرير وكتابة النقد سواء بسواء. الحكومة بدأت تتخلى علناً عن التركة الستالينية والتوتاليتارية في الاجتهاد والتأويل وقراءة التاريخ. بعد ذلك ظهرت سياسة "البريسترويكا" اعادة الهيكلة، فكانت المحاولات المتواضعة الاولى لدمقرطة النظام السياسي السوفياتي. بدأت انتخابات متعددة المرشحين في اطار الحزب، كما عُمل بسرية الاقتراع في بعض الانتخابات التي اجريت لاختيار مواقع حزبية وحكومية. أيضاً بعد "بيريسترويكا" بدأ ادخال السوق الحرة، بميكانيزمات محدودة، في جسم الاقتصاد السوفياتي، الا انها على محدوديتها واجهت مقاومة ضارية من قبل بيروقراطيي الحزب والحكومة الذين كان "طبيعياً" ان يقاوموا نزع قبضتهم عن الحياة الاقتصادية للبلاد. فهم غورباتشوف، من ضراوة المقاومة، ان الجبهة هنا ينبغي ان تكون آخر الجبهات. التف على المحافظين في السياسة الخارجية، فقفز قفزات جريئة وكبيرة بنسبة أرفع مما فعل في الداخل: علاقات أكثر حرارة، سياسياً وعسكرياً وتجارياً، مع بلدان العالم جميعاً في معزل عن الوانها الايديولوجية. في كانون الاول ديسمبر 1987 وقّع معاهدة مع الرئيس الأميركي رونالد ريغان تقضي بأن يدمر بلداهما كل المخزون من الصواريخ النووية الوسيطة. في 1988 - 89 أشرف على سحب القوات السوفياتية من افغانستان بعد تسع سنوات على احتلالها: تحديث روسيا كان أولويته، فترتبت على ذلك خدمة عظيمة للسلام العالمي. في تشرين الأول أكتوبر 1988 بدا قادراً، رغم كل شيء، على تصليب سلطته، بانتخابه رئيساً لمجلس رئاسة السوفيات الأعلى الهيئة التي يفترض انها التشريعية. ولأن الشيوعيين كانوا يعطّلون اصلاحاته الاقتصادية، حاول غورباتشوف اعادة هيكلة الوظائف والمواقع التشريعية والتنفيذية للسلطة، كي يعتقها من قبضة الحزب. تبعاً لذلك، وفي ظل التغييرات التي أدخلت على الدستور في كانون الاول ديسمبر 1988، ظهر برلمان جديد من مجلسين تشريعيين عُرف ب"مؤتمر نواب الشعب في الاتحاد السوفياتي"، وكان بعض اعضائه منتخبين مباشرة من الشعب في انتخابات متعددة المرشحين. في 1989 انتخب البرلمان هذا من صفوفه مجلساً سوفياتياً أعلى جديداً. وعلى عكس ما كان يجري قبلاً، بدا هذا برلماناً جديداً فعلاً يتمتع بسلطات تشريعية جدية هي الأخرى. في أيار مايو من العام نفسه، انتخب غورباتشوف رئيساً للسوفيات الأعلى. أتاح هذا كله لغورباتشوف أن يسجل نقاطاً أخرى حيث يمكن: في السياسة الخارجية التي تكمّل التحول الداخلي. هكذا غدا الى اللاعب الأهم دولياً خلال أحداث 1988 - 90 التي غيرت وجه اوروبا وأسست بداية نهاية الحرب الباردة: خلال 1989 أبدى دعمه المطلق لمن يماثلونه من شيوعيين اصلاحيين في شرق اوروبا ووسطها، فيما كانت الانظمة الشيوعية هناك تتهاوى فعلاً مثل حجارة الدومينو. ومع ظهور حكومات غير شيوعية ومنتخبة ديموقراطياً في ألمانياالشرقية وبولندا وهنغاريا وتشيكوسلوفاكيا، خلال 1989 - 90، وافق غورباتشوف على سحب القوات السوفياتية من تلك البلدان على مراحل. في صيف 1990 وافق على اعادة توحيد الالمانيتين، لا بل أقرّ احتمال انتساب البلد موحداً الى حلف شمال الأطلسي الناتو، واستحق الزعيم السوفياتي في العام نفسه جائزة نوبل للسلام. لكن تكوين الاتحاد السوفياتي، وكبته الجماعات والشعوب على عمومها، بدأ يعبر عن نفسه بأشكال شتى. فالحريات الجديدة الناجمة عن دمقرطة النظام السياسي ونزع مركزيته، افضت الى توترات أهلية في العديد من جمهوريات الاتحاد أذربيجان، جورجيا، أوزبكستان...، والى مطالبات ملحة بالاستقلال الفوري ليثوانيا.... ورداً على التحديات هذه، استعمل غورباتشوف مزيجاً من القوة العسكرية المحدودة في بعض جمهوريات آسيا الوسطى، ومن اجراءات اصلاحية هدفها اضفاء السلاسة واللاعنف على أية رغبة انفصالية قد تظهر في أي من الجمهوريات. وكان ان بدأ وزن الحزب نفسه يضمر في موسكو، فيما ازداد تفجر الطلب على الحريات والحقوق. واستجاب غورباتشوف، في 1990، بأن سرّع نقل السلطة من الحزب الى هيئات حكومية منتخبة. وفي آذار مارس من العام نفسه، انتخبه مؤتمر نواب الشعب الى المنصب الجديد ذي الصلاحيات التنفيذية الفعلية: رئيس جمهوريات الاتحاد السوفياتي، فالتغى تماماً الازدواج بين الدولة والحزب، وانتهى من ثم تغليب الثاني من خلال أولوية الأمين العام. في الوقت نفسه، وبقيادته، ألغى المؤتمرُ الاحتكارَ "الدستوري" الذي يضمن للحزب الشيوعي ابقاء السلطة في يديه، ما عبّد الطريق الى التشريع لحق أحزاب سياسية أخرى في الوجود. لقد نجح الزعيم الاصلاحي فعلاً في تفكيك الدولة التوتاليتارية، وفي نقل بلاده الى منصة قريبة من الديموقراطية التمثيلية. لكنه، في الآن نفسه، وعلى عكس تجارب البلدان الآسيوية التي انتقلت الى اقتصاد السوق قبل ان تنتقل الى الديموقراطية، آثر التردد في استخلاص الاقتصاد من قبضة السلطة المركزية وخطتها. لقد تجنب الاستخدام التوتاليتاري للسلطة، والذي كان تقليديا اداة تشغيل الاقتصاد وتحريكه، غير انه خشي الانتقال الى الملكية الخاصة والاستخدام الموسع لميكانيزمات السوق الحرة. ما افترضه غورباتشوف كان بمثابة تسوية هادئة بين البديلين، الا أن النظام السوفياتي والمجتمع الذي أنتجه كانا يخبئان قنبلة يصعب ان لا تنفجر في وجه اي محاولة للاصلاح. فإذا كان لتداعي النظام السياسي أن فجّر المطالب الثقافية والديموقراطية والقومية، غير أنه في المجال الاقتصادي اتخذ شكلاً مختلفاً: لقد شرع الاقتصاد المخطط في الانهيار، من دون ان يوجد المشروع الخاص الذي يحل محله، ومن دون ان يملك المجتمع الذي تمت مصادرته على الأصعدة جميعاً، ولعقود سبعة، اية قدرة على اطلاق هذا المشروع. هذه كانت الضربة الكبرى للغورباتشوفية كما تجسدت في شلل اقتصادي متعاظم، عمل، بدوره، على اضعاف الثقة الشعبية بالسلطة الغورباتشوفية. مذّاك بدا أن محاولة الانتقال الهادىء والتسووي تفتقر الى قواها الفاعلة، الهادئة والتسووية. وكُتب على غورباتشوف أن يتحالف مرةً مع الشيوعيين، للحد من جموح الراغبين في تحول سريع جارف وعشوائي. ومرة مع خصومهم المهتاجين ممن تزعمهم بوريس يلتسن، للوقوف في وجه رغبة الشيوعيين الحفاظَ على السلطة والامتيازات ومنع التغيير. ففي اواخر 1990 تحالف مع محافظي الحزب والاجهزة، الى أن أجبره الانقلاب الشيوعي في 19 - 21 آب أغسطس 1991 على تحالف مقابل مع يلتسن ونوابه. وفي النهاية، وكما درج القول، احترقت الغورباتشوفية في نار التطرف. وقد قيّض لهذا التطرف، المقدود من حجر الكبت الشيوعي، ان يقود روسيا الى حيث نرى الآن. × كاتب ومعلّق لبناني