مدارس تعليم الشرقية تحتفي بفعاليات اليوم الوطني ال 94    نائب أمير جازان يستقبل وكيل وزارة التعليم للتعليم العام ومنسوبي تعليم جازان    بالخفجي فعاليات وطنية وأركان متنوعة احتفاءً باليوم الوطني    المشرف العام على مركز الملك سلمان للإغاثة يلتقي مديرة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في نيويورك    النائب العام: تتواصل المسيرة بعزيمة راسخة لتحقيق الرؤية    المملكة تدعو قادة الصناعة في العالم للمشاركة في منتدى السياسات الصناعية متعدّد الأطراف 2024    قصف إسرائيلي يغتال رئيس منظومة صواريخ حزب الله    اليوان الصيني يرتفع لأعلى مستوى له في 16 شهرا مع تكثيف الصين للتحفيز    مجلس الوزراء: الموافقة على إنشاء 10 كليات أهلية    فيصل بن مشعل يشيد بجهود أمانة القصيم في تنظيم احتفال اليوم الوطني ال 94    نائب أمير جازان يرعى حفل أهالي المنطقة باليوم الوطني 94    أطعمة تناولها مجمدة أفضل للصحة    «الصندوق العقاري»: إيداع أكثر من مليار ريال في حسابات مستفيدي «سكني» لشهر سبتمبر    5 عقود بقيمة تقارب 6 مليارات ريال لرفع جودة الطرق في العاصمة    القيادة تهنئ رئيسة جمهورية ترينيداد وتوباغو والقائد الأعلى للقوات المسلحة بذكرى يوم الجمهورية لبلادها    مصر تؤكد ضرورة التوصل لاتفاق فوري لإطلاق النار بغزة وفتح المعابر    الخميس القادم.. انتهاء مدة تسجيل العقارات ل 8 أحياء في الرياض    موعد مباراة الأهلي القادمة بعد الهزيمة أمام الجندل    الأسطرلابية.. إرث ملهم للفتيات والعالمات السعوديات    تشكيل الإتحاد المتوقع أمام العين    السعودية تشارك في الاجتماع الوزاري لشبكة جلوبل إي "globe network" في الصين    الفرصة لا تزال مهيأة لهطول أمطار على جازان وعسير والباحة ومكة    (No title)    وزير الدولة للشؤون الخارجية يلتقي نائبة مدير عام المنظمة الدولية للهجرة    الأمير سعود بن نهار يرعى إحتفالات أهالي الطائف باليوم الوطني 94    بيريرا يزيد أوجاع الاتحاد    نيفيز يغيب عن مواجهة البكيرية    " الاحنباس" يرفع حرارة الأرض إلى 3 درجات مئوية    إطلاق أول نموذج ذكاء اصطناعي لمعالجة الصور    نائب أمير جازان يشهد فعاليات اليوم الوطني ال 94    اليوم الوطني.. تتويج وبناء    يوم للوطن.. وفخر لأُمة    «هلال نجران» يشارك في احتفالات اليوم الوطني ال 94    من أجل الوطن    الكونغرس يتوصل لاتفاق تجنب إغلاق حكومي قبل الانتخابات    107 جوائز حققتها السعودية في الأولمبيادات الدولية    الوطن.. ليس له ثمن    «طاقة المجد» ختام معرض مشكاة التفاعلي    «بالروح يا صنع الرجال»    «إنسانية المملكة».. ندوة ثقافية بالعلا احتفاءً باليوم الوطني    خيركم تحقق أكبر عدد حافظ للقرآن الكريم بتاريخ المملكة    (يوم الوطن ووصافة العالم)    « تزييف عميق» لمشاهير الأطباء يهدد حياة المرضى    وصفات تراثية سعودية.. طريقة عمل الجريش السعودي مع الكشنه    علاج جديد للانزلاق الغضروفي بمخاط الأبقار    اليوم الوطني - وطن استقرار وبناء    اليوم الوطني السعودي.. تسبيح التغيير وابتهالات الثوابت..!    تألق وتنوع فعاليات ينبع باليوم الوطني السعودي ال 94    رسالة إلى الأجداد بحق هذا الوطن العظيم    أحمد فتيحي يكتب لكم    ملكٌ على موعدٍ مع التاريخ    فوبيا الشاحنات    د. التميمي: القطاع الصحي في المملكة يشهد تحولاً نوعياً    فرع هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يشارك في فعاليات اليوم الوطني    استمرار هطول الأمطار على بعض المناطق ابتداء من اليوم حتى الجمعة    اليوم الوطني 94 (نحلم ونحقق)    بخطى متسارعة.. «غير النفطي السعودي» يتجاوز %4.4    مصادر الأخبار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



معتبراً أن تغييب المثقف الحقيقي يضر بالسياسي قبل سواه . الشاعر العراقي فاضل العزاوي ل "الوسط": أسوأ ما يمكن أن تفعله الضحية هو الاقتداء بسلوك جلادها !
نشر في الحياة يوم 18 - 09 - 1995

"إن الممر الوحيد الممكن إلى الابداع هو طريق الانجاز الفعلي الذي يحققه الكاتب في حياته، لا ذلك الزقاق المغلق للادعاءات الفارغة السائدة في حياتنا الثقافية العربية". بهذه الكلمات يختصر فاضل العزّاوي تجربة تتميّز بغزارة الانتاج وتنوّعه. انطلق هذا الشاعر والروائي في بغداد الستينات وكان بين أبرز وجوهها، وهو يعيش اليوم في منفاه البرليني منكبّاً على العمل والتأليف والترجمة، لا تثنيه حالة الانحسار التي نعيش، ولا يحبط عزيمته كون "الرقباء وحدهم يقرأون كل ما نكتبه". في غمرة العمل على رواية جديدة، يتحدّث العزّاوي عن تجربته، عن موقفه من بعض القضايا الراهنة، وعن ثقافتنا الراهنة التي "تفتقر برأيه إلى الشروط المادية والاجتماعية التي لا يمكن لأي ثقافة حية أن تزدهر من دونها".
كان فاضل العزاوي بين أبرز وجوه جيل الستينات الذي لعب دوراً هاماً في تجديد الأدب العراقي المعاصر شعراً ونثراً، لغة وأسلوباً. ولفت العزاوي انتباه النقاد والقرّاء على حد سواء منذ بدأ بنشر قصائده ونصوصه، ثم لم يلبث ان تمكن في فترة قصيرة للغاية من فرض نفسه واحداً من أكثر الاصوات تميزاً في الشعر العراقي الحديث، ذلك انه استطاع، كما يقول عنه فوزي كريم، أن "يفلت من بلاغة القصيدة الجديدة، وأن يجمع بين طرفين شعريين متنافرين: اللغة اليومية والمخيلة التي تجد جذورها في السوريالية".
غادر العزاوي العراق إلى المانيا الشرقية سابقاً مطلع العام 1977، بمساعدة اتحاد الصحافيين الألمان الذي دفع له ثمن بطاقة الطائرة. وفي مطلع الثمانينات، لعب دوراً أساسياً إلى جانب سعدي يوسف وصادق الصائغ وزهير الجزائري في تأسيس "رابطة الكتاب والصحافيين والفنانين الديموقراطيين العراقيين". وازداد نتاج فاضل العزاوي غزارة وتنوعاً خلال السنوات الأخيرة، إذ صدرت أعماله الشعرية الكاملة عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر"، تحت عنوان: "صاعداً حتى الينبوع" 1993، كما أصدر عن "دار رياض نجيب الريس" رواية "آخر الملائكة" 1992، ودراسات نقدية جمعها في كتاب بعنوان "بعيداً داخل الغابة: البيان النقدي للحداثة العربية" دار المدى يتضمن نقد الأسس التي قامت عليها الحداثة العربية، ومجموعة شعرية: "في نهاية كل الرحلات" دار الجمل، وهو الآن منكب على انجاز رواية جديدة هي "كوميديا الاشباح"... ولديه مشاريع مستقبلية باللغة الالمانية مباشرة.
"الوسط" التقته في برلين حيث يعيش، ودار حديث طويل ننشر هنا أبرز فقراته:
بعد أكثر من ثمانية عشر عاماً أمضيتها في المنفى لم تنقطع قط عن الكتابة، بل ربما أمكن القول إن نتاجك الأدبي أصبح اكثر غزارة واتساعاً وتنوعاً...
- إنني متفرغ منذ اعوام للكتابة الأدبية والثقافية وحدها، بعد أن انقطعت صلتي بالعمل الصحافي الذي مارسته فترة طويلة من الزمن، ما عدا المقالات التي أنشرها في فترات متباعدة في بعض المجلات والصحف العربية والالمانية. أثر ذلك بالتأكيد على وضعي المعيشي، ولكنه أتاح لي الفرصة لأنجز العديد من الأعمال التي كان يهمني أن أكتبها. أكتب كما لم أكتب في حياتي كلها، كما لو أنني سأموت غداًً. كل تجربة يخوضها الكاتب هي في الحقيقة امتحان جديد لقدرته على الابداع. وهنا يكمن ذلك السحر الآسر للكتابة: ان تتحدى نفسك في كل مرة. وإذا ما أردنا الاستناد إلى نيتشه فإن الكاتب يدفع غالياً ثمن ابداعه: انه يموت مراراً من أجل ذلك في حياته.
منفى الثقافة العربية
ما هو المعيار الذي تقيس به مستوى النجاح والاخفاق بالنسبة إلى عمل أدبي ما؟
- على المستوى الذاتي هو اقتناعي الخاص بالعمل الذي أكون أنجزته، وهي اقتناع يستند بالطبع إلى كل ثقافتي وخبرتي السابقة في الكتابة. بوسع الناقد طبعاً أن يساعد الكاتب والقارئ معاً على الوصول إلى أعمق قعر للنص والنظر اليه بعين جديدة. ولكن مثل هذا الناقد يكاد يكون غائباً في الثقافة العربية. لا يوجد عندنا نقاد محترفون يمكن للقارئ ان يعتمد على آرائهم في قراءة كتاب ما أو عدم قراءته. ان معظم الذين يمارسون كتابة النقد في الصحف والمجلات العربية هم في الحقيقة شعراء أو كتّاب قصة يمارسون نقد الكتب هواية، مستغلين حاجة الصحافة إلى ذلك. هؤلاء النقاد الهواة غالباً ما يكتبون نقدهم بالطريقة نفسها التي يكتبون بها قصائدهم، عاكسين في كتاباتهم عواطفهم الغائرة سواء في كيل المدائح للعمل أو شتمه.
ولكن لا ينبغي أن نلوم هؤلاء، فالأمر أكثر تعقيداً. إنه يرتبط بآلية عمل الثقافة العربية ذاتها ومستوى تطورها. فبعكس العالم كله يصعب الحديث داخل الثقافة العربية عن وجود دور نشر حقيقية او حتى قارئ عادي، بالمعنى الأوسع للكلمة. إذ غالباً ما يظل الاهتمام بالكتاب حكراً على الأدباء وحدهم، وأحياناً على بعضهم. الأسوأ من ذلك أن ثمة ألف عقبة وعقبة تواجه انتشار الكتاب العربي الذي غالباً ما يظل في حدود البلد الذي طبع فيه. ولذلك لا تهتم دور النشر كثيراً بقيمة الكتاب الذي تنشره، ما دامت كل الكتب محكومة بالمصير ذاته.
وإذا لم أكن مخطئاً فإن الصحف العربية أيضاً تعتبر نقد الكتب أمراً ثانوياً فيها، لا قيمة كبيرة له، وهو أمر لا يخلو من تناقض. فإذا كان دور الكتاب محدوداً في حياة المواطن العربي فلماذا إذاً كل هذه الرقابات الصارمة المفروضة عليه؟ يقول نيتشه: القارئ الجيد يجعل الكتاب دائماً أكثر جودة. في منفاي البعيد هذا لا أعرف ان كان هناك قراء جيدون او حتى نقاد موضوعيون يتابعون كتاباتنا. الرقباء وحدهم يقرأون كل ما نكتبه، وهو أمر لا ينفعنا كثيراً ما داموا يلجأون إلى الصمت بحكم المهنة. ومن جهة اخرى فإنني لا أعتبر الانتشار دليلاً على نجاح كتاب ما، ولا الشهرة بطاقة هوية للعبقرية. وفي الأغلب فان الكتب التي تتصدر قائمة "الكتب الاكثر رواجاً" في الغرب هي الكتب التي تقترب مما يطلق عليه عادة اسم "الأدب العابر".
قلّة من مجايليك يتميّزون بهذه العزارة التي نقع عليها لديك، في التأليف والترجمة. ما هي مشاريعك الكتابية الجديدة؟
- أهم ما أنجزته خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة والذي يهمني أن أنشره خلال الفترة القادمة فهو رواية جديدة بعنوان "كوميديا الأشباح" وكتاب كبير عن جيل الستينات في العراق بعنوان "الروح الحية" سوف ينشر جزء كبير منه في مجلة "عيون" التي تصدر قريباً عن دار الجمل، وديوان شعري بعنوان "الجنة الآن"، فضلاً عن ترجمة مختارات من شعر كريستيان مورغينشتيرن، بدعم من مؤسسة ثقافية المانية. كما صدرت لي هذه الأيام عن دار المدى ترجمتي لرواية "صاحب الفخامة الديناصور" للكاتب البرتغالي الكبير خوزيه كاردوسو بيريس، وهي عن دكتاتور يبلغ به جنون العظمة حد توجيه خطبه إلى الكواكب الأخرى، بحثاً عن اتباع محتملين. وفي الوقت ذاته قمت بترجمة ديواني "الشجرة الشرقية" إلى اللغة الالمانية وديوان آخر هو مختارات من شعري في مراحل مختلفة. وقد انتهيت أخيراً من محاولة شعرية باللغة الالمانية، وهي عمل كبير نوعاً ما حوالى 400 بيت بعنوان "رحلة السحرة" أعول عليه في إثارة اهتمام القارئ الالماني بالكتابة العربية الجديدة.
إنني أعمل الآن على رواية تتناول، بطريقة خاصة، تاريخ العراق عبر أربعة دكتاتوريين، يعقب احدهم الآخر في انقلاب دموي. كما اكتب في الوقت ذاته ديواناً بعنوان "في كفي أحمل جمرة الاجداد"، أعيد فيه كتابة قصائد قديمة من الشعر العربي بطريقة جديدة، مستفيداً من سيرة الشاعر نفسه. في هذه القصائد أحاول ان أنقل الشاعر من زمنه إلى زمن آخر هو زمننا نحن بالذات. نشر عدد من هذه القصائد في مجلة "نزوى" العمانية.
لماذا الاتجاه إلى الكتابة باللغة الالمانية؟ ان بعض الكتاب الجزائريين الذين يكتبون باللغة الفرنسية يعتبرون الفرنسية منفاهم. هل تريد ان تضيف منفى آخر إلى منفاك؟
- الأمر مختلف هنا. انني كاتب عربي قبل ان اتعلم اللغة الالمانية. اللغة العربية تسكنني حتى العظم. وفي كل القراءات التي نظمت لي هنا في المانيا كنت اؤكد انني كاتب عربي حتى عندما اكتب الالمانية. الكتابة باللغة الالمانية من قبل كاتب عربي تتضمن في الحقيقة نوعاً من الاحتجاج على منفى مؤسسات الثقافة العربية ذاتها. الأمة العربية التي لا تكف عن الافتخار الكلامي بماضيها الثقافي الذهبي لا تعيل كاتباً عربياً واحداً في الحاضر. لقد اضطر شاعر كبير مثل السياب وهو يموت ان يمدح كل من هب ودب ليحصل على ثمن الدواء او ليظل على قيد الحياة فقط. كيف يمكن للكاتب او للشاعر ان يبدع اذا لم توفر له ثقافة المجتمع الفرصة لكي تدر عليه اعماله ما يجعله بمنأى عن الحاجة ويضمن له استقلاليته الفكرية؟ كيف يمكن للكاتب ان يبدع اذا لم يكن ثمة قراء يشترون كتبه، اذا لم تكن ثمة دور نشر تدفع له ولا تسرق جهده أو حتى تجعله يدفع لها؟
إن ما يحدث داخل الثقافة العربية أمر اقرب إلى المهزلة: تدمير الكاتب والكتابة معاً، تجويع الكاتب من جهة وتزوير الابداع من جهة اخرى. والتوجه إلى الكتابة بلغة اوروبية واسعة الانتشار هو في الحقيقة نوع من الدفاع الذاتي عن النفس في مواجهة بؤس واقع الثقافة العربية والقيود المفروضة على الكاتب.
خراب على كل المستويات
ما هو الحل للخروج من هذا النفق الذي انتهى إليه الوضع الثقافي؟ هل يمكن الحديث عن تصور واقعي لوضع آخر؟
- أكيد أن هناك تصوراً آخر لوضع ثقافي عربي أفضل. ولكن كيف يمكن الوصول إليه في ظل الخراب الذي نعيشه على كل المستويات؟ الخراب الثقافي الراهن هو في الحقيقة نتيجة طبيعية للفشل الشامل منذ عقود عدة من الزمن في العثور على جواب صحيح لاشكالية الحداثة في المجتمعات العربية، وعلاقة ذلك بتراثنا وهويتنا. كيف يمكن أن نكون مبدعين في زمننا الذي يفاجئنا دائماً بأسئلته الجديدة، من دون خوف من خيانة أنفسنا؟ من سوء حظنا أن كفاحنا الذي خضناه ضد الهيمنة الاستعمارية على بلداننا انتهى في الأغلب إلى هيمنة الدكتاتوريات العسكرية التي لم تكن قادرة على النظر إلى المواطن الا باعتباره جندياً سيء التدريب والى الشعب الا باعتباره فوجاً من الصعاليك.
في دراستك "داخل الحلبة الوثنية" تقول إن الكاتب العربي فقد حتى فمه. فهو اما فم مؤجر للسلطة أو فم ملغوم بالديناميت. هل فشل المثقف في لعب الدور الذي تسنده اليه كضمير؟
- المثقف التابع هو جزء من المشكلة وليس المشكلة كلها. ولا ينبغي أن نختصر الطريق، ونلقي باللوم على عاتق المثقفين وحدهم. فإلى جانب المثقف التابع كان هناك دائماً، وفي ظل أقسى الظروف، المثقف الحقيقي الذي يقاتل من أجل حريته ودوره الابداعي. وهنا لا ينبغي أن ننسى أن مثقفين عرباً كثيرين تعرضوا إلى الاعتقال والتعذيب والسجن والقتل حتى من دون ان يجدوا مَن يرفع اصبعه من أجلهم. وعلى رغم كل شيء فان الأمل يكمن الآن بالذات في الصراع الذي يخوضه افضل مثقفينا من اجل انتصار العلم على الجهل والحقيقة على الوهم والحرية على الدكتاتورية والتسامح على العنف والعقلانية على التعصب. عندما اتحدث عن أزمة الثقافة العربية الراهنة، إنما اقصد قبل كل شيء شروطها المادية والاجتماعية المفقودة، تلك الشروط التي لا يمكن لأي ثقافة حية ان تزدهر من دونها.
هل نستخلص مما سبق أن الأزمة ليست في نظرك على مستوى الابداع؟
- أعتقد أن الابداع العربي بلغ مستويات عالية من التطور خلال نصف القرن الأخير. ففي امكاننا الآن أن نقدم للعالم كله نتاجاً لا نخجل منه. المشكلة في آلية عمل الثقافة العربية قبل أي شيء آخر. فهنا لا يختلط الذهب بالتراب فحسب، وانما غالباً ما يكون التراب أغلى من الذهب. إن ثقافة ينعدم فيها شرط الحرية سوف تؤدي بالضرورة إلى سيادة الاشباح على المشهد العام. وما دام المجتمع عاجزاً عن ان يشكل قوة ثقافية مادية يرتكز إليها الكاتب من خلال بيع كتبه على الأقل، فان الكثيرين سوف يقعون في أحضان الحاكم القادر على تعويضهم عن كل ما لم يقدمه لهم المجتمع. لكن الدكتاتورية لا يمكن أن تحترم احداً، تمن عليه ببركاتها. أذكر أن الشاعر سامي مهدي، وهو كادر ثقافي حزبي كبير في العراق، قال لي ذات مرة بما يشبه الاعتذار: "لا تغرنك المظاهر، فنحن لا نعتبر هؤلاء سوى خيول نمتطيها".
هناك جدل كثير يدور الآن حول الأدباء الذين تعاونوا مع السلطة في العراق، والأدباء الذين تصدوا للدكتاتورية منذ البداية كنت أنت من المناهضين للسلطة... كيف تنظر إلى هذا الجدل؟
- انه جدل عقيم وبائس للأسف، بسبب لا عقلانيته ومستواه الثقافي المتدني. أكيد ان كل كاتب مسؤول عن مواقفه دائماً، وهي مواقف تعكس بالضرورة، مستوى وعيه لوظيفته ككاتب داخل ثقافته ومدى استعداده للتضحية. ولكنها لا ينبغي بأي حال من الأحوال ان تتحول إلى ما يشبه الامتياز او التفوق. اذا كنت رفضت الدكتاتورية دائماً فقد فعلت ذلك من أجل نفسي قبل ان افعله من أجل اي شخص آخر. لا أضفي على موقفي أي مسحة بطولية، كما لا يحقّ لي أن أفرض هذا الموقف على الآخرين، فالثمن الذي دفعته يخصني وحدي وليس سلعة أتاجر بها.
تلعب المصادفة دوراً كبيراً في حياتنا. ليس كل من قادته الاقدار إلى الخارج بطلاً، وليس كل من ظل في الداخل جباناً او متعاوناً مع الدكتاتورية. إنني لم اختر منفاي وانما أرغمت عليه، ولكنه ليس موضوع مزايدة على الآخرين. هناك شعراء وكتاب تواطأوا مع القمع وخدموا الدكتاتورية، لأسباب مختلفة، ولكن ذلك لا يعني ان نقطع الطريق امامهم للعودة الينا او ان ننصب من انفسنا حكاماً عليهم. المؤلم هو أن يظل الشاعر او الكاتب أسير الدكتاتورية حتى الآن. ولذلك ينبغي أن نفتح أذرعنا لكل الذين يريدون أن يحرروا أنفسهم من الموت الذي يفترس العراق وان نشجعهم على ذلك. ولكن مثل هذا التحرير الذاتي يظل مستحيلا من دون نقد الشاعر أو الكاتب نفسه لموقفه السابق. وفي رأيي ان اعتراف شاعر مثل عبدالوهاب البياتي أو حميد سعيد أو سامي مهدي أو حسب الشيخ جعفر بالخطأ الكبير الذي ارتكبوه في التفريط بدورهم الثقافي كضمير حي لشعبهم وأمتهم لفترة طويلة من الزمن، هو الطريقة الوحيدة الممكنة للتعلم من تلك التجربة. وفي الوقت ذاته فاننا لا نملك الا ان نحترم اؤلئك الذين فرضوا على انفسهم الصمت حتى لا يسبحوا في مستنقع النظام، وهو ما يعرف في تاريخ الأدب الالماني بمصطلح "الهجرة الداخلية".
وضع يبعث على الرثاء
وما هو الدور الذي يلعبه المثقفون العراقيون في الخارج؟
- إن وضع المثقفين العراقيين الموجودين في الخارج يبعث على الرثاء. فامتداد اعوام المنفى، مع المأساة التي آل اليها العراق، جعل الكثيرين ينتهون إلى نمط من العدمية التي لا تترك أي فسحة للأمل في ظل انعدام الفاعلية الثقافية للكثيرين منهم. هذا الوضع المدمر للروح عاشه المنفيون الروس والالمان ايضاً. من المؤسف ان عراقيي المنفى لم يعودوا يملكون شيئاً يفعلونه سوى شتم بعضهم البعض وتصدير الاكاذيب الساذجة، بدل احتضان الابداع العراقي كجزء من دفاعهم عن انفسهم على الأقل. إن أسوأ ما يمكن أن تفعله الضحية هو الاقتداء بسلوك جلادها.
وحده الابداع الحقيقي يؤسس لثقافة وطنية متحررة. كل أسبوع تقريباً أتلقى كتباً من شبان عراقيين لم أسمع بأسمائهم من قبل. إن جيلاً جديداً من الكتاب والشعراء العراقيين ظهر في المنفى، خارج أي اهتمام به. ولا توجد مجلة واحدة تتبنى أعماله وتشق أمامه الطريق، بل إن كتاب وشعراء الجيل الذي أعقب الستينات وذلك الذي عاش مأساة الحرب ضاعوا او أتلفوا بين خراب السياسة وفوضى الثقافة العربية. إن بعضهم قد بلغ الآن الاربعين من عمره، من دون ان تتاح له فرصة التعرف إلى معنى عمله. إن مئات الكتاب والشعراء والمثقفين العراقيين الذين يشكلون قبل غيرهم ضمير المعارضة العراقية وقوتها الحقيقية لا يجدون حتى من يسأل عنهم، في حين أن المعارضة العراقية التي تضم ما لا يقل عن خمسين حزباً، ما زالت تعمل بالطرق القديمة نفسها. هذه هي الكارثة المدمرة للثقافة العراقية. انني أحلم بمجلة ثقافية وأدبية مفتوحة، تعمل على عكس الوجه الحقيقي للابداع العراقي، ودار نشر تتولى طبع المئات من الاعمال التي لا تجد من يخرجها إلى الضوء واتحاد كتاب مستقل بديل.
أنت تتحدث أيضاً عن شروط مادية لتطور الثقافة العربية. كيف تحدد هذه الشروط؟
- هذه الشروط تتحدد قبل كل شيء بدمج الثقافة في حياة المجتمع، بحيث تصبح حاجة وتمتلك قيمة تخص الجميع. ولكي نفعل ذلك لا بد من أن نؤسس دور نشر تحترم الكاتب والقارئ معاً. إنني ضد فكرة اسناد مثل هذا الامر إلى الدولة، ولكن الدولة تستطيع أن تلعب دوراً حيوياً في هذا المجال من خلال الدعم المادي غير المشروط الذي يمكن ان تقدمه للكتاب وللمؤلف ولدور النشر، كما هو عليه الامر في العديد من الدول الاوروبية. وعلى المسؤولين أن يلغوا كل الحواجز التي تحول الكتاب إلى سلعة مثل اي سلعة اخرى. ان اهم ما يشد العرب إلى بعضهم هو ثقافتهم، وعليهم الا يفرطوا بها مهما كانت الاسباب. في الوقت الذي تزحف فيه ثقافة الظلام بألف رجل لتدمير كل شيء ينبغي ان نؤكد على الثقافة الحقيقية القادرة وحدها على اعادة الثقة والأمل.
دور التابع؟
تلقيتَ قبل شهور دعوة من مهرجان الشعر العالمي الثالث الذي يعقد في القدس، ولكنك اعتذرت عن المشاركة. هل تعتقد ان ثمة فرصة لقيام حوار ثقافي بين النخبة العربية والاسرائيلية، أم أن مثل هذا الحوار الآن لا يمكنه إلا أن يصبّ في خانة "التطبيع الثقافي"؟
- إن ما يضيرني في الامر كله هو أن المثقفين العرب، المؤيدين منهم للحوار أو المعترضين عليه، ما زالوا يواصلون الدور القديم نفسه داخل لعبة السياسة العربية، اي انهم يكررون كأتباع مخلصين، كل ما يطلبه منهم السياسيون. فالذين حضروا مؤتمر غرناطة مثلاً، ما كانوا فعلوا ذلك على الأرجح لولا تأييد منظمة التحرير الفلسطينية ورئيسها لهم، اي انهم حولوا الامر كله إلى جزء من عملية سياسية ما زال يكتنفها الكثير من الغموض في ما يتعلق بالحقوق العربية المشروعة. لم يكن الامر في واقع الحال سوى اعلان سياسي صارخ، أضفيت عليه صفة الحوار الثقافي. أما الذين يرفعون شعار مقاومة التطبيع فإنهم يعكسون أيضاً مواقف أحزابهم وحركاتهم السياسية مثلما فعلوا دائماً.
إن جوهر الأمر يكمن في النهج السياسي. فإذا كانت الدول العربية انتهت إلى القبول بالحل السياسي، فإنه يصبح من العبث شن الحرب ضد مثقفين عرب التقوا مثقفين يهوداً أو تحاوروا معهم. لا المثقفون العرب مسؤولون عن هذه النهاية ولا المثقفون اليهود يقودون السياسة الإسرائيلية. ولكن يبدو أن شتم الكتّاب العرب هو الأسهل دائماً. أما أنا، فرفضت حضور مهرجان الشعر في القدس في هذا الوقت بالذات، لمعرفتي بالطابع السياسي للدعوة ضمن نهج ما زال يتسم بالمغامرة وإلغاء الحقوق العربية، ولا يعنيني كشاعر أن اكون طرفاً فيه.
أنت شاعر وكاتب متعدد الاهتمامات، فأنت تكتب الشعر والرواية والنقد، وتمارس الصحافة. وحتى في الشعر فإنك تكتب القصيدة الموزونة إلى جانب القصيدة الحرة وقصيدة النثر، كما تترجم من اللغتين الألمانية والانكليزية. كيف توحد بين كل هذه الاهتمامات؟
- إنني شاعر قبل كل شيء وقد ارتبطت حياتي بالشعر في فترة مبكرة جداً من حياتي، ولكن اهتمامي الثقافي لم يقتصر في أي وقت على الشعر وحده. وفي رأيي أن الشاعر قد يتعلم من الفنون والعلوم والفلسفة والاشكال الكتابية الأخرى في كتابة قصيدته أكثر مما يتعلم من قصائد الآخرين. بل انني تعلمت الكثير أيضاً من تجربتي الصحافية. وربما كانت رؤياي للقصيدة التي اكتبها هي التي جعلتني أكتب الرواية والقصة القصيرة والمقالة والنقد. إن قصيدتي تقوم على الاختزال المكثف للعالم الموضوعي، بحيث تتحول اللغة نفسها إلى اشارات هادية، متجنباً بذلك التهويم اللغوي الذي يقتل الشعر في نظري. هناك دائماً مساحة فارغة في قصيدتي متروكة للقارئ، مساحة يشطرها الضوء والعتمة معاً. في الرواية أحاول الدخول إلى تلك المساحة الفارغة وأن اضيئ النصف المعتم في عالمي الشعري. وبهذا المعنى فإن القصيدة والرواية تتكاملان عندي.
في "البيان الشعري" الذي أثار صدوره عام 1969، ضجة كبيرة، قدمت مفهوماً جديداً للقصيدة، قوامه الحرية. هل اختلفت رؤيتك الآن للقصيدة الجديدة؟
- أكتب قصائدي لأن ثمة ما أريد قوله والتعبير عنه، يصعب الوصول إليه خارج الشعر. أملك رؤيتي الخاصة للقصيدة ولكنني لا أريد أن أسجنها داخل وصفة واحدة. كل قصيدة هي بناء خاص، مسعى لتفجير كل ما يمكن أن نعتبره شعرياً في الكتابة. إن أسوأ ما يمكن أن يفعله الشاعر هو ان يكتب قصائد، تكرر الواحدة منها الأخرى، أن يظل يقرع دائماً على الطبل ذاته، مدوخاً ايانا بأصوات سمعناها من قبل. هناك قصائد قد تتطلب وحدة في الشكل وطرق التعبير، لأنها تتعلق بتجربة ربما فرضت هذه الوحدة، ولكنني أنتظر من القصيدة بصورة عامة أن تتخلص من الرتابة التي تشمل الكثير من قصائد الشعر العربي الحديث، وأن تنقذ نفسها من الملل الذي يصيب قارئها، بسبب بنيتها الفنية أو لغتها الجافة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.