ليس هناك صحيفة عربية منتظمة الصدور، واسعة الانتشار، يحتل شأن المنفى او المهجر موقع الصدارة فيها. فجلّ أو أهم ما يحدث في هذا المكان الذي يسمى منفى او مهجراً - وكلتا التسميتين فيهما من الالتباس، بل المغاطلة، ما يوجب الاقلاع عن استخدامهما - انما يحظى بالتغطية في الصحف العربية الصادرة في اوروبا والتي تُعنى بالدرجة الأولى بشؤون البلدان العربية. وهذا ما يشي بأن حظ الشأن العربي في الغرب اوروبا في شكل خاص، واميركا الشمالية واستراليا، في شكل عام من التغطية الصحافية لا يزيد على حظ اي بلد عربيّ آخر. وغياب مثل هذه المطبوعة هو، من دون ريب، غياب الاطار الذي يمكن من خلاله متابعة وحصر ما يجري للعرب في الغرب، وما يقومون به من نشاطات مختلفة. واذا ما سوّغ لنا هذا الامر شكوى النقص في متابعة ما يجري هنا خصوصاً ما يتعلق بالشؤون السياسية والمجتمعية والدينية - والشكوى من الطقوس التي لا نقاوم مزاولتها في اية حال - فإن الامر يبدو اقلّ مدعاة للتذمر حينما يتصل بالشأن الثقافي، في ما هو انتاج او نشاط فنيّ وادبيّ. ولا يعود هذا الى صعوبة العثور على معيار نظريّ يتم في ضوئه التمييز بين ما ينتج هنا الغرب وينتج هناك الدول العربية، وانما لان جلّ ما ينتج ويجري من انشطة عربية هنا هو انشطة مشتركة. في مطلع هذا العام تابعنا اخبار معركة "ادبية" حول ترجمة ونشر عملين للكاتب الالماني غونتر غراس دارت رحاها بين دمشق وكولونيا والقاهرة، فبدت كأنها تدور في فضاء ثقافي واحد وليست بين "وطن" و"منفى". والفضل في ذلك يعود الى حقيقة أن وقائع هذه المعركة جرت على صفحات "الحياة" التي تصدر في اروربا وتتوجه الى العالم العربي. وصحيفة "الحياة" شأنها في ذلك شأن جلّ الصحف العربية الصادرة في اوروبا ساهمت على مدى اعوام، ومن خلال كيفيّة انتاجها وطبيعة توجهها، في ارساء فضاء ثقافيّ عربيّ لا يجمع فقط بين ابناء البلدان العربية والمقيمين في اوروبا، وانما بين ابناء البلدان العربية انفسهم. فمن خلال هذه الصحيفة وغيرها، صار في وسع القارئ العربي متابعة بعض اهم ما ينتج في عواصم عربية مختلفة. ليست الصحافة العربية في اوروبا وحدها ما ساهم في ارساء أو تكريس هذا الفضاء الموحّد، وانما مؤسسات عربية وغير عربية تُعنى بنشر الكتب مثل "دار الساقي" في لندن و"دار الجمل" في كولونيا او تعنى بنشاطات ادبية وفنية مختلفة مثل "معهد العالم العربي" في باريس او نوادٍ وجمعيات ادبية وقاعات فنيّة تابعة لمعاهد الدراسة الشرقية في جامعات مثل السوربون ولندن واكسفورد، او مستقلة مثل "جمعية السنونو الادبية" في كوبنهاغن و"غاليري الكوفة" وغيرها. ولئن قامت هذه المؤسسات في اوروبا، وبعضها اصلاً موزع بين اوروبا والبلاد العربية، في انتاج أو استضافة انشطة لادباء وفنانين عرب مقيمين هنا، فإنها لم تقصر ذلك على هؤلاء وانما تعدتهم الى الفنانين والادباء من ابناء البلاد العربية. بل ويمكن القول ان نصيب الاسد في انشطة هذه المؤسسات انما يذهب الى هؤلاء الاخيرين. ونشرت دار "الساقي" هذا العام رواية عالية ممدوح "الولع" باللغة العربية، وعن الفرنسية نشرت ترجمة كتاب المناضلة اللبنانية سهى بشارة "مقاومة"، ونشرت الترجمة الانكليزية لرواية "سبعة"، وهي رواية السفير السعودي في لندن الكاتب غازي القصيبي، والترجمة الانكليزية لرواية الكاتبة المصرية المقيمة في كندا مي التلمساني "دنيا زاد". غير انها ايضاً نشرت اعمالاً ادبية عربية ومترجمة عن العربية لكتّاب من مصر نوال السعداوي والمغرب محمد شكري والجزائر الطاهر وطار. والجدير ذكره ان هذه الدار تصدر كتباً بالعربية والانكليزية لكتّاب عرب وغير عرب. اما فصلية "ابواب" الصادرة عنها، فحفلت هذا العام، كما في الاعوام الماضية، بنصوص ومقالات من "الوطن" و"المهجر" على السواء. ومن الانشطة المتنوعة التي أحياها "معهد العالم العربي" في باريس، يبرز احياؤه "مهرجان الشعر العربي الأول" في اذار مارس من هذا العام. وكان مهرجاناً عربياً فرنسياً مشتركاً وتضمن امسيات شعرية وندوات ثقافية وعروضاً مسرحية وتشكيليّة. وتألفت اللجنة الاستشارية لهذا المهرجان من الشاعر الجزائري جمال الدين بن شيخ والمستشرق الفرنسي اندريه ميكال والشاعر المصري احمد عبدالمعطي حجازي. وتبعاً لما اوردته الصحف، فإن هذا الاخير سلك في المهرجان مسلك "شيخ الحارة"، متربعاً على سدة "الريادة الشعرية"، ومهدداً من يعصي او يحتج بعصا صداقته الوطيدة لمدير المعهد عاشت الريادة! ومن الواضح ان هذا المهرجان كان احتفاءً بالشعراء الاثنين من الوطن العربي، اكثر من المقيمين في لندن او باريس. فقد تخلف سعدي يوسف، المقيم في لندن، بينما حضر سامي مهدي من بغداد. واعتذر ادونيس عن المشاركة بينما حضر الشاعر السوري سليمان العيسى، وان شارك هنا كشاعر يمنيّ نيابة عن عبدالعزيز المقالح وما العيب في ذلك، فكلنا اخوة عرب! وحضر شعراء عرب من معظم البلدان العربية. وترافق هذا المهرجان مع الاحتفاء بصدور ترجمة فرنسية لمختارات من شعر محمود درويش، صدرت عن دار "غاليمار" في اطار سلسلة تُعنى بنشر اعمال كبار الشعراء في العالم. وعلى ما بلغنا، فلقد خطف وجود الشاعر الفلسطيني الكبير في باريس الاضواء. وكان أحيا امسيتين في "بيت ثقافات العالم" و"بيت الشعر". وترافق المهرجان أيضاً مع صدور "كتاب المدن"، وهو ديوان فخم لادونيس يضم قصائده المدينية التي كتبها في مراحل مختلفة من سيرته الشعرية. وينبغي ألاّ ننسى صدور المختارات الشعرية العربية باللغة الفرنسية وكان اختارها وترجمها وقدّمها الشاعر عبدالقادر الجنابي. وحملت شهادة من الشاعر الفرنسي برنار نويل. واذا جئنا الى مؤسسات أقل مواظبة ومبادرة، او الى جمعيات ادبية صغيرة، فنادراً ما سنجد ان أنشطتها مقتصرة على مساهمة المقيمين في اوروبا. وغالباً ما يرتبط الامر بمحور النشاط وبمداه الجغرافي او بالثقافات التي ينبغي ان يمثلها. فإذا كان المهرجان معنياً بفنون أو آداب الشرق الاوسط فإنه من الطبيعي ان يسعى الى استضافة ادباء وفنانين ما انفكوا يعيشون في هذه البلدان. وهذا ما حصل في مهرجان "لوديف المتوسطي"، وهو مهرجان ادبيّ وفني كبير اقيم في المدينة الفرنسية خلال شهر آب اغسطس من هذا العام. او ما حصل في "المؤتمر الدولي للتراث الشعبي في الشرق الاوسط" الذي عقد في معهد الدراسات الشرقية في جامعة اوكسفورد خلال شهر ايلول سبتمبر. وعلى رغم ان هذا مؤتمر ادبيّ اكاديمي أساساً فهو استضاف فرقاً فنية شعبية اضافة الى طائفة من الباحثين والاساتذة من مختلف جامعات المنطقة. فحينما يكون الحوار معنياً بالمسائل الراهنة للشرق الاوسط، فإنه لمن الاوفق ان تأتي المساهمة من الذين يعيشون هناك. وقد حذا "تجمع السنونو الادبي" في كوبنهاغن في نشاطه السنوي حذو هذه المؤسسات. فهو اذ يرفع شعار "الثقافة العربية الدانماركية"، ويعنى بالحوار والتبادل بين المثقفين العرب والدانماركيين، فلا مناص من تمثيل ملائم للحضور العربي فيه. وواحدة من ميزات هذا النشاط انه لا يركن الى الاسماء المعتادة وانما يسعى الى استضافة مساهمين في كل عام. لعل الكثير من المهرجان والفاعليات الادبية التي يشارك فيها العرب في اوروبا هي نشاطات ذات صبغة او توجّه عالمي، ومن ثم فإنها تعمل على جمع ادباء من مختلف انحاء العالم كما هو الامر بالنسبة الى المؤتمر الشعريّ الذي اقيم في كولونيا في حزيران يونيو من هذا العام، او الدورة التاسعة لمهرجان الشعر العالمي في السويد الذي احياه "اتحاد الكتّاب السويديين" بمؤازرة "جمعية جلجامش الادبية" في اواخر الشهر الماضي. وقد شارك فيه شعراء من ايران والعراق والمغرب والسويد. وهذه المهرجانات انما تشبه الكثير من المهرجات العربية ذات الطموح العالمي كمؤتمر الشعر العربي الألماني الذي نظمته وزارة الثقافة اليمنية في صنعاء في ايلول من هذا العام او "مهرجان الشعر العالمي" الذي نظمه "بيت الشعر" في الدار البيضاء. وقد يحدث ان تغلب مشاركة المقيمين في اوروبا على مثل هذه الانشطة او حتى ان تقتصر عليهم. بيد ان هذا لا يعود الى أسباب تصدر عن تركيز خاص على مسائل تتعلق ب"المنفى" او ب"المهجر"، وانما لسوء التدبير او صعوبة التنقل والاتصال او لضيق يد الجماعة المنظِمة. ففي خلال شهر تشرين الاول اكتوبر اقيم معرض فنيّ عراقي كبير في معهد الدراسات الشرقية في لندن. وشارك فيه قرابة 40 فناناً عراقياً يقيمون في مختلف انحاء العالم، فيما اقتصرت مشاركة الفنانين القادمين من بغداد على اربعة. وهذا مما قد يُعزى الى صعوبة الارتحال والسفر، او لانه ببساطة يمثّل توزع أو انتشار الفنانين العراقيين في بلدان مختلفة من العالم. ونحن اذ نتكلم هنا، ونطيل الكلام، على غلبة مشاركة ادباء "الوطن" على ادباء "المهجر" في الانشطة التي تجري في اوروبا، فليس هذا من باب التذمر او من باب التظلّم بإسم المقيمين على هذه الضفة من المتوسط، وانما لكي نبيّن ان هذه الانشطة لا تدل على انقطاع مزعوم بين مكانين جغرافيين وانما على العكس من ذلك تماماً. ونصيب الادباء المقيمين في اوروبا من المساهمة في انشطة ومؤسسات ثقافية في البلاد العربية يكاد يعادل نصيب ابناء هذه البلاد ممن يفدون للمشاركة في انشطة اوروبية. فلا يخلو مهرجان يجري في الرباط او الدار البيضاء او تونس او القاهرة او عمان او الامارات العربية او السعودية من مشاركة مجموعة من الشعراء او الكتّاب العرب القادمين من باريسولندن وكوبنهاغن واستوكهولم. والكثير من الكتّاب المقيمين في هذه العواصم يترددون على البلدان العربية بإنتظام وبعضهم يعمل مراسلاً لصحفها ومجلاتها ولا سيما تلك الصادرة في بلدان الخليج العربي. وجلّ نصوص هؤلاء انما تُنشر في دوريات عربية الموطن، اما كتبهم فتصدر عن دور نشر في بيروتوعمان والدار البيضاء والقاهرةودمشق. ومن كتب هذا العام، نجد ان رواية اللبنانية حنان الشيخ "انها لندن يا عزيزي" صدرت عن "دار الآداب"، وان رواية السورية غالية قباني "صباح امرأة" صدرت عن "المركز الثقافي العربي"، وان رواية العراقي المقيم في الولاياتالمتحدة جاسم الرصيف صدرت عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر"، وان مجموعة نصوص الشاعر اللبناني عيسى مخلوف "عين السراب" صدرت عن دار "النهار" وان مجموعة الشاعر العراقي فاضل السلطاني "محترقاً بالمياه" صدرت عن دار "الورّاق" في بيروتولندن. بل ان معظم الكتب الصادرة في اوروبا انما تطبع في بيروت، كما هو الامر بالنسبة لرواية العراقي عارف علوان "غرفة البرتقال". وقد يحالف الكتّاب العرب المقيمين في اوروبا الحظ فيظفرون بإحتفاء او يحصلون على جائزة من مؤسسة اوروبية. ولكنهم غالباً ما يعولون على الاعتراف والتكريم الذي قد يحصلون عليه في البلدان العربية. واذا ما كان حصول الجزائرية آسيا جبار على جائزة "معرض فرانكفورت للكتاب" في هذا العام، مما يثير الاعتزاز، فإن حصول اللبنانية هدى بركات على جائزة "نجيب محفوظ" لا ينبغي ان يكون اقل مدعاة للفخر. الترجمة والوصول تجيز لنا، اذاً، حقيقة ان المؤسسات التي يعمل فيها الكاتب العربي في اوروبا، وان الأطر الثقافية التي ينضوي فيها وينتج من خلالها، هي نفسها التي يعمل وينضوي فيها الكاتب في البلاد العربية. وتجيز لنا هذه الحقيقة الخلوص الى ان ثمة مدى ثقافياً موحّداً يقلص المسافة الجغرافية القائمة بينهما. مع ذلك تبقى حقيقة وجود الكاتب العربي في الغرب مصدر افتراض فارق او سمة جوهريّة. وهو افتراض مرده على الارجح الى خرافات متوارثة ومتراكمة تتعلق بالعيش في "المركز" او الدنو من برج "العالمية". لا شك في ان الاقامة في اوروبا لها امتيازات عدة، أقلها ما تيسّر للراغب والمهتم من امكان متابعة ما يجري وينتج في الغرب، وهو ما برح شاغلنا ومقياس إنتاجنا. وبعض الكتّاب والصحافيين العرب افادوا من وجودهم هنا، فتابعوا الانشطة الثقافية الغربية وتعلموا منها وكتبوا عنها، وبعضهم نقل نصوصاً من الانكليزية والفرنسية والالمانية والاسبانية وغيرها. ولكن ليس ثمة فارق شاسع بين من يتابع هنا ويحرص على المتابعة هناك. بل ان بعض المهتمين في لبنان ومصر والمغرب أشد مواظبة واوسع اطّلاعاً على ما يجري في الثقافة الغربية من عشرات المقيمين في الغرب. واليوم، وبفضل تمدد شبكة الانترنت، لم تعد المسافات الجغرافية ذات اهمية تذكر. اما أثر الاقامة هنا في كيفيّة التلقي والمتابعة، فهذا امر معقد ولا يمكن القطع به على اساس عامل او اثنين. وما ينقله المقيمون في اوروبا من نصوص الى العربية نادراً ما يزيد اهمية، وبالتأكيد ليس بأعظم كماً، عمّا ينقله المترجمون في بلاد العرب. وجلّ ما يُترجم هنا هو ما يألفه او يعرفه القارئ العربي، خصوصاً اعمال الكتّاب الفائزين بجائزة نوبل. ومن الكتب التي نقلها بعض الادباء المقيمين في لندن، والتي صدرت في هذا العام، هناك على سبيل المثال لا الحصر، الكتاب السادس عشر من ملحمة هوميروس "الإلياذة"، وقد نقلها الشاعر فالح حسن عبدالرحمن، ومجموعة مقالات الكاتب التشيكي ميلان كونديرا "خيانة الوصية"، نقلها القاص لؤي عبدالإله و"خمسة دقائق بعد غارة جوية" وهي قصائد مختارة للشاعر التشيكي ميروسلاف هولوب نقلها الشاعر العراقي فاضل السلطاني والطريف أنّه كان ترجمها عام 1980. الاقامة في اوروبا بحد ذاتها لا تزيد المرء إطلاعاً ولا متابعة للادب الغربي والفنون الغربية، ولا تجعله اشدّ إتقاناً للغات الاجنبية. وهناك من الادباء من يعيشون في بريطانيا منذ عشرين عاماً ومع ذلك فإنهم لا يعرفون من الانكليزية الاّ ما يسعفهم في النطق بعبارات عابرة. ولعل الامر الاشدّ صلة بموضوعنا هنا هو مسألة الترجمة الى اللغات الاوروبية أو الوصول الى القارىء الغربيّ، وهي من المسائل التي لا تبرح تشغل بال الكاتب العربي وحتى وان لم يكن كتب سوى بضعة نصوص. واذكر ان احد الشعراء لم ينتظر صدور مجموعته الأولى حتى بادر الى الإتصال بكبرى دور النشر البريطانية املاً في نقل ونشر كتابه بالانكليزية، كما لو ان هذه الدور واسواقها تنتظر بفارغ الصبر احدث ما كُتب من شعر عربيّ. والواضح ان الاقامة في الغرب ليست امتيازاً حينما يتعلق الامر بالترجمة والوصول. فشروط النقل ومفاتيح الوصول لا تقع في حوزة الكاتب المقيم في اوروبا مهما بلغ من المهارة في نسج شبكة من العلاقات العامة. واصابت الروائية المصرية اهداف سويف حينما أبدت شكّاً في ان يجد القارئ الانكليزي لذة في الادب العربي غير متوافرة له في الادب الانكليزي. وسويف التي تكتب الرواية باللغة الانكليزية ادرى من غيرها بأمر كهذا. وجاء هذا الكلام في سياق مؤتمر حول "الترجمة الادبية من العربية"، نظمه المجلس الفنيّ البريطاني بالاشتراك مع جامعة "ويست منستر" خلال شهر حزيران من هذا العام. وقد شارك فيه عدد من الكتّاب والاكاديميين العرب والبريطانيين. وكاد هذا المؤتمر المهم ان يتحول الى "مجلس عزاء" من شدّة ما ألح على مسائل مثل ضآلة ما هو مترجم الى الانكليزية وقلة الاكتراث وصعوبة الوصول، فضلاً عن مشكلة الكتابة بالانكليزية مباشرة. وهل يمكن ان يدور نقاش حول الادب من دون ان تخيم ظلال الازمات عليه؟ واذا شئنا إلتماس مؤشر عام لما يترجم من العربية الى الانكليزية فما علينا الاّ تتبع مجلة "بنيبال". وهذه مجلة معنية بالامر، وهي تصدر في شكل منتظم، وتحررها مارغريت اوبانك ويشاركها في التحرير والاستشارة صموئيل شمعون وامجد ناصر ومحمد علي فرحات وفاضل العزاوي وسركون بولس وآخرون. ونعثر بين غلافي هذه المجلة على كميّة هائلة من النصوص المترجمة من العربية او الفرنسية او الألمانية. قصائد ومقالات وقصص وفصول من روايات ومراجعات كتب ومتابعات انشطة. ناهيك بما تحفل به من صوّر فوتوغرافية لكتاّب عرب من مختلف الجنسيات والاعمار واماكن الاقامة. وتعمل المجلة على تركيز جهودها من خلال إفراد ملفات ادبية وملاحق. وفي اعداد هذا العام افردت المجلة ملفاً شاملاً عن الادب الجزائري ضمّ قرابة 20 نصاً ومقالة. وفي عدد الصيف الماضي افردت ملفاً عن الكاتب المغربي الطاهر بن جلون بلغ عشرين صفحة. اما في العدد الجديد فهناك عناية خاصة بترجمة مقتطفات من اعمال المغربي محمد زفزاف. واذا جئنا الى الكتب المترجمة، فإننا نجد ان ابرزها يعود الى من لا يقيمون في الغرب. فالى المختارات الشعرية التي اصدرتها دار غاليمار لمحمود درويش بالفرنسية، هناك مختارات له بالانكليزية صدرت عن "منشورات جامعة سيراكوس" في الولايات الاميركية، وتحمل عنوان "آدم العدنين". والى ذلك تم نقل رواية جمال الغيطاني "هاتف المغيب" الى الفرنسية وصدرت عن دار "سوي" في باريس. ومن المتوقع ان يصدر للغيطاني رواية اخرى عن دار سندباد. وتمت ترجمة رواية ميرال الطحاوي "الخباء" الى الاسبانية، وهذه روايتها الاولى التي اثارت لدى صدورها في القاهرة اهتماماً واسعاً. وصدرت أخيراً انطولوجية الشعر العربي باللغة الالمانية عن دار "داس ارابيشه بوخ" في برلين، وهي من تحرير الناشر العراقي خالد المعالي. وتضم هذه الانطولوجية عدداً كبيراً من القصائد لمختلف الشعراء العرب، الاموات منهم والاحياء. لا يتمتع الكاتب العربي المقيم في اوروبا بإمتيازات ترفعه عن مرتبة الكاتب في البلاد العربية، كما انه لا يعاني عزلة وقطيعة وانعدام فرص واستقرار. والكثيرون من الكتّاب العرب في اوروبا يحملون جنسيات اوروبيّة تخولهم التنقل والارتحال، وحتى زيارة البلدان العربية، وبأيسر مما يمكن الكاتب المقيم هناك. ولكن كما سبق واشرنا، فإن لا الاقامة هنا ولا الحصول على الجنسية هما جواز مرور الى جمهور القراء الغربيّ: وهناك من الناس من افلح في نسج علاقات عامة في سبيل الحصول على معونات مادية من مؤسسات رسمية وغير رسمية، وبإسم مشاريع وهمية احياناً، او بإسم مشاريع لا غرض لها الاّ الدعاية الشخصية. ولكن، وعلى ما يقول المثل العربيّ "لا يصحّ الاّ الصحيح"، فجلّ هؤلاء لم يذهبوا شوطاً بعيداً. وفي النهاية فإن السؤال المطروح على الكاتب، أينما سار وسعى: ما انت آت به؟ ما الذي تمثله؟ ما الحقيقة الانسانية التي بلغتها قبل سواك؟ ولعل الكاتب المعنيّ بهذا السؤال قبل غيره، هو ذاك الذي اقبل على الكتابة بإحدى اللغات الاوروبية. وثمة كتّاب لا خيار لهم سوى الكتابة بالانكليزية او الفرنسية او الالمانية، لا سيما اولئك الذين ولدوا او نشأوا في اوروبا ولم يتقنوا اتقان اية لغة اخرى سوى لغة هذه البلاد. وفي كل عام تقريباً تصدر اعمال ادبية لكتّاب عرب، او من اصول عربية، يكتبون باللغات الاوروبية، وفي كل مرة نتساءل اذا افلح الكاتب في الاتيان بجديد ام انه اكتفى بالاستجابة الى الصورة النمطية ومتطلبات السوق. أما هذا العام، فلا بد من الاشارة الى رواية الكاتب السوري رفيق شامي الذي يكتب بالالمانية نازعاً الى إحياء دور "الحكواتيّ" في السرد. وكذلك الى رواية الكاتب الفلسطيني الاصل طوني حناينا "جزيرة ايروس"، والى رواية الكاتبة السودانية ليلى ابو العلا "المترجمة"، وهي رشحت الى جائزة الرواية النسائية باللغة الانكليزية "اورانج" وفازت بجائزة "كاين" للادب الافريقي المكتوب بالانكليزية. وتجدر الاشارة الى رواية الكاتب السعودي احمد ابو دهمان "الحزام" التي صدرت بالفرنسية عن دار غاليمار وسط اهتمام اعلامي واسع. وفي جلّ اعمال هؤلاء الكتّاب تبرز مسائل مثل التردد بين الماضي والحاضر وبين الشرق والغرب، التسامح والعنصرية، الايمان وفقدان العقيدة... الخ. فهل تمثل هذه الاعمال الادب المسمى ب"ادب المنفى" او "ادب المهجر"؟ لعلّ صدور هذه الاعمال وغيرها تبيّن بأننا ننتمي الى فضاء ثقافي ما انفك يتسع وينفتح على آفاق ثقافية اخرى ويتقاطع مع آدابها وفنونها. فلندع أنفسنا من حكاية "المنفى" و"المهجر" هذه! فنحن في زمن العولمة!