جاءت خطوة استخدام الصواريخ في سياق اظهار العزم على الاستمرار في زيادة الضغوط العسكرية والسياسية والمعنوية على القيادة الصربية، لحملها على الاستجابة للشروط الدولية لوقف القصف. لكنّ الأهم من ذلك ان مصادر الحلف والأممالمتحدة باتت تتحدث صراحة عمّا تصفه ب "تحوّل جذري" في الأهداف الدولية، يتمثّل في ان هذه الشروط لم تعد تقتصر على الاجراءات الميدانية المطلوب من الجانب الصربي تنفيذها، مثل "سحب الأسلحة الثقيلة من محيط العاصمة ساراييفو، ورفع الحصار العسكري المفروض عليها، وعدم التعرّض للمناطق الآمنة"، بل باتت تصل الى مضمون سياسي لم يكن موجوداً في الموقف الدولي من قبل. فللمرة الأولى اضحت المصادر تتحدث، ولو ضمناً، عن ضرورة "التزام الصرب مبدأ التسوية السياسية" وقبولهم رسمياً وعملياً اتفاق جنيف الذي اعلن المبعوث الاميركي ريتشارد هولبروك التوصل اليه اخيراً لإنهاء الحرب، والاعتراف المتبادل، والتعايش السلمي مستقبلاً بين الجمهوريات اليوغوسلافية السابقة. لكنّ هذه الأهداف لم تتحقق بعد. وفي ظل الغضب الروسي المتزايد، والارتباك الدولي الظاهر، تزيد التساؤلات عن المرحلة القادمة من الصراع في البلقان. قد يكون الحرص الملحوظ الذي يبديه التحالف الدولي على التخفيف من الوهج الاعلامي لخطواته العسكرية ضد صرب البوسنة مفهوماً ومبرّراً، فهو يواجه حالياً معضلة لا يستهان بها، اذ يريد، من جهة، إثبات حزمه في مواجهة الموقف الصربي المتصلب، وتصميمه على الاستمرار في عملياته الهجومية الى ان تحقّق اهدافها المعلنة، اي احداث الاثر المطلوب لتغيير ذلك الموقف ودفعه باتجاه القبول بحل وسط لكنّه يدرك تماماً، من جهة ثانية، انه يتعين عليه تفادي الظهور بمظهر المنحاز للقوات البوسنية الحكومية، والمحافظة ما امكن على غطاء محايد يستطيع من خلاله الاستمرار في ممارسة دوره الديبلوماسي للتفاوض مع جميع الفرقاء وحلفائهم الاقليميين والدوليين، ولا سيّما روسيا الاتحادية بالنسبة الى الصرب. ملاديتش وزيادة التشدّد لكن استمرار تقيّد حلف الاطلسي والأممالمتحدة بهذا الدور العسكري - الديبلوماسي يواجه صعوبات متزايدة، وقد يصل قريباً حدّ الاستحالة. وما يزيد هذا الاحتمال قوة ان الجانب الصربي لم يبد حتى الآن اي دلائل على استعداده لتلبية المطالب الدولية، او مجرد اضفاء اي قدر من المرونة على مواقفه، سواء كان ذلك على المستوى العملياتي والعسكري المباشر حول ساراييفو وغيرها من المناطق الآمنة، او على الصعيد السياسي المتعلّق بتسوية الأزمة وإنهاء الحرب. وعلى العكس من ذلك فان الموقف الصربي يبدو الآن اكثر تصلباً من أي وقت مضى. بل ان مصادر الاممالمتحدة تصفه اثر المحادثات التي اجراها مسؤولوها مع القيادة الصربية، خصوصاً الجنرال راتكو ملاديتش خلال الأيام الماضية، بأنه ينطوي على "تشدّد متعمّد بهدف تعميق المأزق الذي يواجه الجميع على أمل اعادة الأزمة الى نقطة الصفر". ونقطة الصفر التي تتحدث عنها المصادر الدولية تعني تحديداً: فشل العمليات الهجومية الاطلسية والدولية في تحقيق اهدافها السياسية، اي حمل الصرب على تغيير موقفهم، ووصول القيادة الدولية الى قناعة بضرورة وقف هذه العمليات قبل ان تنتزع اي تنازلات سياسية او عسكرية من القيادة الصربية. أما النتيجة المترتبة عن ذلك فستتمثل في العودة الى ما سمته مصادر "طاحونة الاستنزاف اليومي" في الحرب، دون ان يكون هناك اي مؤشر الى امكان وقفها. وذكر مصدر في مقرّ الأممالمتحدة في العاصمة الكرواتية زغرب ل "الوسط" ان خلفيات التصلّب الصربي المتزايد وأهدافه يمكن شرحها على النحو الآتي: 1 - اقتناع قيادة صرب البوسنة بأنه لن يكون في مقدور الجانب الدولي الاستمرار في عملياته الهجومية الى ما لا نهاية، واعتقادها بالتالي انه سيكون من شأن صمودها دون تقديم تنازلات سياسية او عسكرية دفع حلف الاطلسي والاممالمتحدة الى اتخاذ قرار بوقفها بعد التيقن من انه لا طائل منها. 2 - المراهنة على ان صمود صرب البوسنة سيكون مدخلاً الى تغيير موقف جمهورية صربيا نفسها، خصوصاً رئيسها سلوبودان ميلوتشيفيتش، ودفعه الى اعتماد مزيد من التشدّد حيال الخطط المتداولة لتسوية الأزمة، الى جانب الأمل في ان تذهب بلغراد مدى أبعد في زيادة دعمها العسكري والمادي المباشر للمجهود الحربي لصرب البوسنة، وربّما ايضاً ضد كرواتيا. 3 - اعتبار موقف روسيا الركيزة الدولية التي سيكون بمستطاع الصرب الاعتماد عليها لمواجهة الضغوط الاطلسية والغربية، والافتراض ان موسكو لن تستطيع الوقوف جانباً لمدّة طويلة اذا استمرت العمليات العسكرية الدولية او اتسع نطاقها. بين واشنطنوالأممالمتحدة لكنّ الأكثر خطورة من كلّ هذه الاعتبارات، في نظر المصادر الأطلسية والدولية، الهوة المتزايدة التي تفصل بين موقف الأممالمتحدة من جهة، والموقف الاطلسي والاميركي بالذات من جهة أخرى، حيال ما ينبغي على المجموعة الدولية عمله في مواجهة المرحلة التالية من الأزمة. ففي حين كان معروفاً منذ البداية ان الأممالمتحدة لم تكن متحمّسة كثيراً لفكرة الغارات الجوية على الصرب بالمقارنة مع موقف واشنطن المؤيد لهذه الفكرة منذ زمن بعيد، يبدو الآن ان التناقض بين الجانبين حول هذا الموضوع بلغ اخيراً "حدّ الخلاف المباشر والحاد" على حدّ تعبير مسؤولين في المنظمة الدولية. ويقول هؤلاء ان الجانبين لا يزالان يحرصان على ابقاء التعارض في وجهات نظرهما في هذا الصدد "طيّ الكتمان تجنّباً لاضعاف لا مبرّر له على جدية الموقف الدولي وصدقيته في الأزمة". ويشيرون في الوقت نفسه الى ان "تكتم هذا الخلاف قد يصبح غير ممكن خلال وقت قريب نظراً الى التباعد المتسارع في المواقف". ولا تتردّد مصادر وثيقة الصلة بالأمين العام للأمم المتحدة الدكتور بطرس بطرس غالي في القول "ان المنظمة الدولية تريد فعلاً في الوقت الحاضر وقف الغارات الجوية الأطلسية، لكنّها لا تملك القدرة الكافية على التأثير في الموقف الاميركي لجعل ذلك ممكناً". وتضيف ان الشعور السائد في اوساط مجلس الأمن "ان الولاياتالمتحدة استغلّت العجز الكامل الذي برهنت عليه الأممالمتحدة والجماعة الاوروبية" خلال السنوات الثلاث الماضية "حتى تبرّر استلامها دفة التعامل الغربي والدولي" مع هذه الأزمة. وكان متوقعاً على الأثر ان تضطر الأممالمتحدة والقوى الاوروبية المعنية اكثر من غيرها بالأزمة مثل بريطانيا وفرنسا والمانيا، الى القبول، ولو مرغمة، بتسليم دفة الأمور الى واشنطن، خصوصاً بعد ان تفاقم الوضع داخل البوسنة نفسها الى درجة لم يعد ممكناً تحمّلها اعلامياً وسياسياً، بغض النظر عن المأساة البشرية الضخمة. ووصفت مصادر دولية التحرك العسكري الأطلسي - الدولي الأخير بأنه "تعبير عن اتفاق الحد الأدنى" الذي تمّ التوصل اليه بين اطراف التحالف والاممالمتحدة، خصوصاً واشنطنولندن وباريس ونيويورك، للشروع في تنفيذ "سياسة عسكرية - ديبلوماسية". لكنّ ما حدث بعد ذلك كان بعيداً عن ذلك التنسيق، الأمر الذي يبدو انه أثار قدراً كبيراً من التحفظات لدى مسؤولي الاممالمتحدة، والى حدّ أقل لدى العواصم الاوروبية المعنية، لكنها تحفظات لا تزال حتى الآن ضمنية وغير معلنة. فمع ان العمليات الهجومية التي بدأت نهاية الشهر الماضي لا تزال تتم رسمياً تحت شعار اطلسي - دولي" مشترك، وعلى أساس المبدأ المعروف ب "المفتاح المزدوج" ]قرار شنّها يتخذه رسمياً كلّ من الأمين العام للأمم المتحدة ممثلاً بقائد قوات حفظ السلام الدولية الجنرال الفرنسي برنار جانفييه والأمين العام للحلف ويلي كلاس ممثلاً بالقائد الأعلى لقوات الحلف في جنوب اوروبا الأميرال الاميركي ليتون سميث[ فانه سرعان ما اتضح ان الواقع العملي حول تلك العمليات "حملة جوية هجومية اميركية في الدرجة الأولى تقتصر فيها المشاركة الدولية على الطابع الرمزي فحسب" على حدّ تعبير مصادر الاممالمتحدة. ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل جاء هذا الوضع العسكري الجديد مترافقاً مع وضع سياسي يختلف جذرياً عمّا سبقه، وذلك عندما دخلت الولاياتالمتحدة بثقلها ميدان البحث عن تسوية سياسية للأزمة من خلال جهود مبعوثها الخاص هولبروك، متجاوزة بذلك جميع الأطر السابقة الأخرى التي تقوم بمساع في هذا المجال، ويشمل ذلك الأممالمتحدة والجماعة الاوروبية ومجموعة الاتصال الدولية التي تميّزت بأنها المساعي الوحيدة التي انطوت على مشاركة فعلية من جانب روسيا. وبالطبع، يستطيع الاميركيون ان يفاخروا بأن دخولهم طرفاً في تلك المساعي هو الذي أدّى الى تحريكها من الطريق المسدود الذي وصلته، اذ لا يمكن تجاهل الأثر العسكري والمعنوي الذي تركته حتى الآن الهجمات الاطلسية على الجانب الصربي. كما انه لا يمكن تجاهل الأهمية السياسية للإنجاز الذي تمكّن هولبروك من تحقيقه عندما نجح في جمع الأطراف الرئيسية الثلاثة بلغراد وزغرب وساراييفو حول مائدة المفاوضات في جنيف، واقناعها بقبول مقترحاته لانهاء الحرب، في خطة تقوم أساساً على مبدأ تكريس البوسنة - الهرسك جمهورية مستقلة ضمن حدودها الحالية المعترف بها دولياً، على ان تتضمن هذه الجمهورية كيانين مستقلين عملياً ودستورياً، احدهما على شكل اتحاد مسلم - كرواتي يقوم على 51 في المئة من اراضي الجمهورية، والثاني صربي على ما تبقّى منها 49 في المئة، على ان يلي ذلك اعتراف جميع هذه الجمهوريات بعضها ببعض، وترسيم حدودها، وتحديد اسس تعايشها، بما في ذلك عودة اللاجئين والمهجرين. المعضلة الصربية لكنّ المشكلة التي ستواجه اي مساع هي نفسها التي واجهت المحاولات السابقة التي استهدفت تسوية الأزمة اليوغوسلافية، وهي: الموقف الصربي، او ما تفضل مصادر الاممالمتحدة تسميته "المعضلة الصربية". ولعلّ اصدق وصف للموقف الحالي يتمثل في ما قاله ل "الوسط" احد مسؤولي حلف الاطلسي: "ببساطة شديدة، لقد رفض صرب البوسنة حتى الآن الدخول في اللعبة... رفضوا انقاذ ماء وجههم الذي كان سيوفّر عليهم المزيد من الخسائر والدمار... ورفضوا انقاذ ماء وجه ميلوتشيفيتش الذي كان يرغب فعلياً في التعامل مع الاميركيين والأوروبيين على أمل رفع العقوبات عن صربيا مع ضمان تحقيق ما امكن من مكاسب للقضية الصربية عموماً... ورفضوا انقاذ ماء وجه حلف الاطلسي وواشنطن مع ما كان سيوفّره ذلك من اضطرار الى اتخاذ مزيد من القرارات الصعبة غير المضمونة النتائج". والواقع ان جميع الاطراف تبدو حالياً وكأنها في ارتباك شديد قد يدفعها الى اتخاذ قرارات، واعتماد خيارات لا تريدها ولا ترغب فيها أصلاً. ولخص احد مسؤولي الاممالمتحدة في زغرب في حديث ل "الوسط" تلك الأطراف حالياً كالآتي: - موقف اميركي اساساً، لكنه يحظى بغطاء اطلسي، يرى انه لا بدّ من الاستمرار في العمليات الهجومية، وربما تصعيدها على أمل التوصل قريباً الى وضع قد يفضي الى التسوية السياسية المنشودة. ويتطلب ذلك في الدرجة الأولى استمرار التعاون مع ميلوتشيفيتش، وحمله على بذل مزيد من الضغوط على رادوفان كارادجيتش زعيم صرب البوسنة وقائدهم العسكري الجنرال ملاديتش لإبداء قدر اكبر من المرونة، وقبول الخطة الاميركية للتسوية. - موقف اوروبي، بريطاني - فرنسي تحديداً، يقوم على أساس الوقوف جانباً، وانتظار ما يمكن ان تسفر عنه سياسة الاسلوب المزدوج الديبلوماسي - العسكري الاميركية الحالية، والمشاركة رمزياً في تنفيذها حفاظاً على وحدة الموقف الأطلسي وصدقيته. - موقف الاممالمتحدة ممثلاً بأمينها العام وبعض أعضاء مجلس الأمن. وهو يدعو ضمناً في الوقت الحاضر الى وقف الغارات الجوية والعودة الى تسليم المنظمة الدولية دفة ادارة الأزمة ديبلوماسياً مع الحرص على عدم المطالبة رسمياً وبشكل علني بوقف الهجمات الاطلسية. - موقف روسي ينطوي على مزيج من الشعور بالغضب نتيجة ما تعتبره موسكو محاولة اميركية وأطلسية متعمّدة لاستبعادها عن دائرة التأثير على مجريات الأزمة، وبالاحراج المتزايد من الضغوط التي تتعرّض لها حكومة الرئيس بوريس يلتسين حالياً من جانب القوى السياسية القومية المتشددة الداعية الى سياسة روسية اكثر نشاطاً في دعم الصرب الحلفاء التاريخيين عرقياً ودينياً لموسكو في منطقة البلقان التي يعتبرها الروس امتداداً تقليدياً لنفوذهم. من الانقاذ الى التقسيم كلّ هذه الحسابات كانت تفترض حدوث الانفراج المنتظر نتيجة الصدمة العسكرية الناتجة عن الغارات الجوية، والانجاز السياسي الذي يتمثل في نجاح الخطة الاميركية، التي لم تكن تطمح الى اكثر من تكريس تقسيم البوسنة عملياً، وتحويل استقلالها المفترض الى اطار شكلي لا فاعلية حقيقية له، وتحويل هذه الجمهورية في واقع الأمر الى مجرّد منطقتي نفوذ للقوتين الفعليتين في يوغوسلافيا السابقة صربيا وكرواتيا على حد تعبير مسؤول في الاممالمتحدة اصرّ على عدم الكشف عن هويته. وأبلغ المسؤول "الوسط" بأن المنظمة الدولية "لا تفكر مطلقاً في تحويل دور القوات التابعة لها في البوسنة من المهمة الأصلية التي كانت تأمل في انقاذ الجمهورية والتخفيف من معاناة سكانها، الى ما يبدو بشكل متزايد انه عمل عسكري يهدف الى تطبيق خطة تنطوي على تقسيمها وتكريس ذلك تحت غطاء شرعي دولي". ومثل هذا الكلام القاسي الذي تردّده حالياً مصادر الاممالمتحدة، وبشكل أخفّ حدّة بعض الأوساط الديبلوماسية في كلّ من لندن وباريس، لا يختلف كثيراً عن التقويم الذي تورده ضمنياً مصادر الحكومة البوسنية في تعليقها على الخطة الاميركية - الاطلسية، مع تشديدها في الوقت نفسه على انه لم يعد بمستطاع ساراييفو معارضة هذه الخطة لأنها تترافق مع مصدر الأمل الوحيد في الحفاظ على ما يمكن الحفاظ عليه من البوسنة، اي استمرار الغارات الجوية الحليفة على المواقع الصربية، مع ما يعنيه ذلك من تخفيف للضغوط الهائلة التي كانت مفروضة على العاصمة البوسنية المنكوبة، وغيرها من مناطق السيطرة الحكومية. ويقول مسؤول بوسني رفيع المستوى في هذا المجال "بلغنا المرحلة التي بتنا مضطرين ان نقول فيها ان اي شيء افضل من لا شيء. وهذا بالضبط ما تعنيه لنا الخطوات السياسية والعسكرية الحالية". لكن الواضح ايضاً انه في مقابل هذه التحفظات، فان الموقف الصربي ليس كفيلاً وحده بافساح المجال امام اي تراجع ممكن من جانب الولاياتالمتحدة وحلف الاطلسي، بل ان ذلك الموقف لم يترك امام التحالف اي خيار سوى الاستمرار في العمليات الهجومية وتصعيدها. وهذا ما حدث فعلاً خلال الأيام الماضية عندما قرّرت واشنطن اللجوء الى صواريخ كروز الجوّالة البعيدة المدى من طراز توماهوك لقصف الأهداف الصربية القريبة من بانيالوكا، وهي المرة الأولى التي تستخدم فيها هذه الصواريخ منذ حرب الخليج. وفيما بررت القيادة العسكرية الأميركية - الأطلسية استخدام الصواريخ الاستراتيجية بأنه كان نتيجة الرغبة في مهاجمة بطاريات دفاع جوي صربية دون تعريض الطيارين لخطرها حال مهاجمتها بالطائرات، فإن المحللين العسكريين ومسؤولي الأممالمتحدة في زغرب وساراييفو، اعتبروا ان هدف ذلك كان "معنوياً ونفسياً أكثر منه عسكرياً"، وان مجرد سقوطها في عمق الأراضي الصربية "رسالة سيكون صعباً على كارادجيتش وملاديتش تجاهلها". خيار التصعيد وبينما أضحى تصعيد العمليات الهجومية الخيار الوحيد أمام واشنطن وحلف الأطلسي في انتظار النتائج المرجوة، أُعلن عن خطوة اخرى مماثلة. فاضافة الى الطائرات الأميركية والأطلسية التي تشن الغارات منذ أسابيع من على متن حاملات الطائرات في البحر الأدرياتيكي والقواعد الأطلسية الجوية في ايطاليا، أعلن الأميركيون ان مقاتلات قاذفة من طراز "ف - 117 ستيلث" التي يصعب على أنظمة الرادار اكتشافها وتملك دقة عالية في اصابة أهدافها خصوصاً في الليل وأثناء الأحوال الجوية السيئة، ستنضم الى الحملة الجوية ضد الصرب، وهو ما اعتبر اجراء مشابهاً في أبعاده وأهدافه لاستخدام صواريخ توماهوك الجوالة. لكن المسألة لا تتعلق بنوعية الأسلحة المستخدمة في القصف الأطلسي، بقدر ما تنصّب على نوعية الأهداف التي تتعرض للهجوم. وتكمن هنا نقطة خلاف رئيسية بين القيادتين الأميركية - الأطلسية من جهة، والدولية من جهة ثانية. اذ ان الأممالمتحدة تتفق ضمناً مع روسيا على اعتبار ان عمليات القصف الأميركية والأطلسية "تجاوزت الحدود المرسومة لعمل القوات الدولية في البوسنة". وتقول هذه المصادر ان المنظمة الدولية لا تزال تتمسك رسمياً بالأهداف الأصلية المحدّدة للهجمات، أي سحب الأسلحة الصربية الثقيلة من محيط العاصمة ساراييفو، وفتح طرق الامداد اليها، واعادة فتح مطارها. وبالتالي، فإن أي عمليات هجومية تنفذها القوات الدولية يجب ان تقتصر من حيث الأهداف والمواقع على المنطقة المحيطة مباشرة بالعاصمة البوسنية، وان تتركز فقط على أهداف ذات طابع عسكرية بحت، وعلى مستوى ميداني وتكتيكي مباشر، في ما تسميه مصادر المنظمة الدولية "أهداف الفئة الأولى"، وتشمل الدبابات والمدرعات ومواقع المدفعية ومخازن الذخيرة الميدانية. وتركزت العمليات الهجومية فعلياً حتى الآن على تلك الأهداف. وتقول المصادر الأطلسية انها نجحت في تدمير 10 في المئة من الترسانة الصربية منها. وفي الوقت نفسه، غضت الأممالمتحدة الطرف نسبياً عن مهاجمة أهداف مصنفة من "الفئة الثانية"، وتشمل ثكنات، ومراكز تجمع آليات، ومخازن ذخيرة، وبطاريات دفاع جوي، وشبكات اتصال، وجسور بعيدة نسبيا عن مسرح العمليات. باعتبار ان هذه الأهداف ذات علاقة مباشرة بالمجهود الحربي الصربي. الا ان المشكلة تكمن في ان الأممالمتحدة والقيادة الأطلسية تدركان ان ما تم تحقيقه حتى الآن لم يكن مؤلماً بما فيه الكفاية لدفع الصرب الى تبديل موقفهم، الأمر الذي يدفع القيادة العسكرية الأميركية - الأطلسية الى التفكير جدياً بتوسيع نطاق القصف، وتركيزه على أهداف "الفئة الثانية" المشار اليها، وأهداف الفئة الثالثة ذات الطابع الاستراتيجي وتشمل المنشآت الصناعية ومحطات الطاقة ومخازن الوقود وشبكات المواصلات ومقرات القيادة السياسية والعسكرية. العائق أمام خطوة من هذا القبيل لن يقتصر على موافقة المنظمة الدولية، بل سيهدد بدفع موسكو الى موقف أشد تصلباً حيال التحرك الأميركي - الأطلسي. خصوصاً ان الاستياء الروسي المتفاقم بات يستخدم عبارات يعتقد انها اندثرت بانهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك حلف وارسو، منها "العودة الى الحرب الباردة"، واستنكار محاولات "التوسع الأميركي والأطلسي"، بل التهديد بپ"دعم الصرب عسكرياً وخرق العقوبات الدولية المفروضة عليهم" في حال استمرار العمليات العسكرية الدولية. وربما كان الموقف الروسي تعبيراً عن السخط ومحاولة لاعادة موسكو الى موقع التأثير سياسياً في مجريات الأزمة وتسويتها، وهو ما تعرب المصادر الأميركية والأطلسية عن الاستعداد لقبوله، لكن احتمال افلات الأمور، خصوصاً تحت وطأة الضغوط الداخلية التي يواجهها الرئيس يلتسين، يبقى وارداً، وهو أمر لا تستطيع واشنطن وغيرها من العواصم الغربية تجاهله. وقد تمثل في مسارعة الادارة الأميركية الى ارسال نائب وزير خارجيتها ستروب تولبوت الى موسكو لطمأنة المسؤولين الروس وتخفيف حدة معارضتهم لما يجري. ومع ذلك فإن محللين يرون ان الأمر قد لا يكون بهذه البساطة. فالشعور بالاحراج يعمّ جميع الأطراف تقريباً. والتخطيط للخطوات العسكرية والسياسية اللاحقة لن يكون هذه المرة سهلاً، والواضح الآن ان القيادتين الأميركية والأطلسية عازمتان على بدء مرحلة جديدة من التحرك العسكري ضد الصرب حتى من دون موافقة الأممالمتحدة، مع المجازفة بتصعيد ردّ الفعل الروسي المحتمل. ويرى هؤلاء المراقبون ان ثمة قناعة متزايدة بأن الأمل الوحيد للخروج من المأزق يتمثل في حمل الجنرال ملاديتش على تقديم تنازلات ضمن حفظ ماء وجه جميع المحرجين حتى اذا لم يؤد ذلك في الضرورة الى انقاذ وحدة البوسنة واستقلالها.