في ردها على الضغط العسكري والسياسي الذي مارسه الحلف الأطلسي بقوة في البوسنة، قامت الميليشيات الصربية طيلة أكثر من عشرة أيام بسلسلة من الاستفزازات في مناطق مختلفة من البلاد من بينها تحريك آليات عسكرية في منطقة الحظر المفروضة حول ساراييفو، وسحب بعض المدافع من أماكن تجميعها في مراكز تشرف عليها الاممالمتحدة، ومواصلة عرقلة مهام الاغاثة التي تنفذها قوات حفظ السلام ونشر القناصين بشكل مكثف وإطلاق النار من أسلحة فردية على أهالي المدينة المحاصرة. وفي المناطق المحاصرة الاخرى عمد الصرب الى التصعيد على جبهات القتال وبعدما أعلن حلف الاطلسي ان هدفه المقبل هو فتح مطار توزلا، المدينة المسلمة المحاصرة في شمال شرق البوسنة، رد الصرب بقصف مطار المدينة واعتدوا على قوة تابعة للوحدة السويدية العاملة في إطار القوات الدولية فجرحوا خمسة من أفرادها، ومنعوا وحدات الاممالمتحدة من الافادة من الهدوء القائم في ساراييفو وبالتالي فتح جسر بين المدينة المسلمة والجيب الصربي المتصل بها. باختصار شديد لم يذعن الصرب أبداً بشكل كامل للانذار الأطلسي، ولم يرضوا بالأمر الواقع الذي حاول الحلف فرضه على كامل مناطق النزاع. لذا عمدوا الى اختبار مدى استعداد الأطلسي لتنفيذ تهديده العسكري من أجل تطبيق القرارات الدولية. في رده على الاستفزازات الصربية المتكررة اختار الحلف الاطلسي ان يضرب في مكان آخر وان تكون ضربته موجعة ومعبرة. لذا عمد الى إسقاط 4 طائرات عسكرية صربية في منطقة توزلا، كانت تمارس القصف ضد مصنع "بوسني" ولم يتم التشاور في هذه العملية مع قوات الاممالمتحدة ولا مع الأمين العام بطرس غالي. وذلك في محاولة للقول للميليشيات الصربية ان اختبار ارادة الاطلسي واختبار رد فعله على الاعتداءات المتكررة سيستدعي رداً فورياً وبصورة آلية بعيداً عن التشاور والمفاوضات والمشاورات التي قد تميع الموقف وتصب في مصلحة الطرف المعتدي. الحزم الاطلسي واختيار الجو وليس الأرض للرد على الاعتداءات الصربية، يحمل معنى آخر، فمن المعروف ان الاممالمتحدة كانت ومنذ بداية النزاع البوسني قد اتخذت قراراً في تشرين الأول اكتوبر 1992 يقضي بمنع تحليق كل أنواع الطيران فوق البوسنة باستثناء طيران الاممالمتحدة وقد حمل هذا القرار الرقم 781، وفي حينه عارضت دول عديدة ان يترافق هذا القرار مع فقرة تشير الى كيفية الرد على احتمال خرق القرار. وكان لا بد من انتظار شهر آذار مارس من العام الماضي لصدور قرار آخر حمل الرقم 816 وهو يقضي باستخدام وسائل رادعة في حالة خرق القرار وبطريقة متناسبة مع هذا الخرق. منذ ذلك الحين لم يحترم الصرب القرارين ومارسوا الخرق المتكرر، وتتحدث أجهزة الاممالمتحدة والاطلسي عن حوالي ألف حالة خرق جوي كانت تتم بواسطة طائرات الهليكوبتر وطائرات النقل العسكرية، وهي المرة الأولى التي تستخدم فيها طائرات مقاتلة، مما استدعى تدخلاً فورياً من جانب قيادة الاطلسي واسقاط 4 طائرات صربية رفضت الاذعان لأوامر الطائرات الاطلسية 27/2/94. واذا كان اختبار الصرب لعزيمة الاطلسي قد أدى الى نتيجة عكسية، فإن المصادر الغربية تؤكد ان هؤلاء لم يكن لديهم خيار آخر. فهم يريدون رفع معنويات قواتهم التي صارت مسمّرة على الأرض حول ساراييفو ويريدون اثبات قدرتهم على تحدي القوات الاطلسية في مناطق اخرى لذا عمدوا الى الاعتداء على وحدة الاممالمتحدة السويدية في توزلا وحاولوا استخدام الطيران الحربي للمرة الأولى في عمليات برّية. لكن خسارة الميليشيات الصربية معركة جوية مع الاطلسي لا يعني خسارة الحرب لأن هذه الميليشيات عازمة على تحدي الاطلسي مجدداً في الأيام القليلة المقبلة. ذلك ان قوات الاممالمتحدة وقوات الاطلسي تنوي فتح مطار "توزلا" وهي مدينة تضم حوالي مليون لاجئ تحاصرهم القوات الصربية منذ اكثر من 14 شهراً ويفتقرون الى المواد الغذائية والتموين وتعرف القوات الصربية مدى تخوف الاطلسي والغرب من الغرق في الرمال المتحركة البوسنية. وقد أشارت مصادر الاطلسي انها ستحدد موعداً في منتصف شهر آذار مارس الجاري لفتح المطار باعتبار المدينة خاضعة لقرار خاص من الأممالمتحدة ينص على وضعها في اطار الحماية الدولية. وقالت هذه المصادر ان الاطلسي لن يوجّه انذاراً جديداً للصرب يتعلق بتوزلا وإنما سيكتفي بتحديد موعد لفتح المطار وإذا ما اعترضت القوات الصربية عمليات الاغاثة عبر المطار فانها ستتعرض لرد فوري وترى المصادر الاطلسية ان هذه العملية يمكن ان تتكرر وبالطريقة نفسها في المناطق البوسنية الاخرى المحاصرة. هل ينفذ الاطلسي هذا السيناريو حرفياً ويواصل بالتالي تطبيق قرارات الأممالمتحدة بنفس الارادة والعزيمة؟ وطرأ تغيير على هذا السيناريو بعد اتفاق صرب البوسنة مع روسيا على اعادة فتح المطار شرط وجود عدد من المراقبين الروس. مخاطر خطوط التماس المصادر الغربية تتحدث هنا عن فرضيات قد تصل احياناً الى حد التناقض ومن بين هذه الفرضيات فرضية تتصل بالخيار العسكري نفسه. فالراهن ان الاطلسي قادر على توجيه ضربات موجعة للصرب كما أثبت من خلال اسقاط الطائرات الحربية الأربع، لكن مواصلة الاعمال العسكرية الغربية قد تكون غير فعالة اذا ما قرر الصرب خوض مواجهة على الارض مع قوات الاممالمتحدة التي سيكون عليها في مثل هذه الحالة ان تنحسر الى الخطوط البوسنية وسيرتسم في هذه الحالة نوع من التقسيم على الارض: من جهة قوات بوسنية مدعومة من الأممالمتحدة والاطلسي ومن جهة اخرى قوات صربية بوسنية مدعومة من بلغراد وربما من روسيا، ولعل الغرب لا يرغب في الوصول الى معادلة من هذا النوع لأنها بالضبط معادلة حربية ولا تتضمن اي امل بحل سياسي على المدى القصير. لكنه في الوقت نفسه لن يتخلّى عن مشروع انقاذ المدن البوسنية الاخرى بوسائل براغماتية. الفرضية الثانية تقوم على اظهار الانياب الغربية وتوجيه ضربات موجعة للصرب على ان يتم ذلك في اطار دقيق وواضح المعالم ولا يخرج عن القرارات الدولية، والعمل بالتالي على اشراك روسيا في المساعي القاضية بالضغط على الصرب دون اعطاء الروس دوراً سياسياً مهماً في ترتيبات الحل المنشود في البوسنة، شرط ان تكون هذه الضربات مبنية على تصور سياسي محدد للأزمة. من هنا يمكن فهم سبب اصرار واشنطن على عقد مفاوضات بين المسلمين والكروات في العاصمة الاميركية بهدف انشاء فيديرالية بين الطرفين لحل مشكلة المنافذ البحرية للمسلمين من جهة، ولدفع الصرب البوسنيين نحو بلغراد اكثر فأكثر وتحقيق نوع من الفصل السياسي على الارض يتمخض عن حدود يمكن الدفاع عنها. المخاوف من الحل ولعل صرب البوسنة ومعهم صرب بلغراد يخشون من هذا الحل لأنه يفترض في المستقبل اقامة نظام كونفيديرالي مع كرواتيا لأن الفيديرالية بين المسلمين والكروات البوسنيين غير قابلة للحياة بدون علاقات وثيقة مع دولة مجاورة. وهذا النوع من الفيديرالية اذا ما قام يمكنه ان يثير مخاوف الصربيين الذين يحتفظون بعلاقات عداء تاريخية مع الكروات وعلاقاتهم لا تقل عداء وحقداً على المسلمين لذا ليس من المستبعد أن يواصلوا مناوراتهم لعرقلة حل من هذا النوع. بالمقابل ما زالت واشنطن ترغب في عزل روسيا عن ترتيبات الحل النهائي للأزمة البوسنية، ولم تظهر واشنطن حماسة كبيرة لفكرة المؤتمر الدولي الذي دعت اليه موسكو من أجل الوصول الى هذا الهدف. بين واشنطنوموسكو والراجح ان واشنطن التي اختارت الكشف عن قضية الجاسوس الأميركي الذي كان يعمل لمصلحة الروس في هذا الوقت بالذات رغم علمها المسبق بتفاصيل هذه العملية، تريد أن تضع عودة روسيا الى المسرح السياسي الدولي في هامش ضيق ومحدود ولا يتعارض مع الأرجحية الأميركية على الصعيد العالمي. ولعله ليس من المستغرب أن يصدر قرار عن الاجتماع الأخير للدول السبع الصناعية في العالم بعدم منح روسيا مساعدات جديدة ما لم تعمد الى تطبيق اصلاحات ليبيرالية على نطاق واسع. ومعروف ان روسيا تحتاج الى مثل هذه المساعدات للتغلب على المصاعب الداخلية التي تعاني منها وهي مصاعب لن تسمح للرئيس بوريس يلتسين بهامش كبير من المناورة السياسية على الصعيد الدولي، بما في ذلك الأزمة البوسنية. عندما انتشر نبأ اسقاط الطائرات الحربية الصربية الأربع، حاولت موسكو ان تقلل من شأن هذه الخطوة واستدعت زعيم الصرب البوسني رادوفان كاراجيتش الذي أدلى بتصريحات استعاد فيها حرفياً عبارة التصريح الروسي الأمر الذي يبدو أبعد ما يكون عن التحذيرات الروسية القوية التي انتشرت عشية الانذار الأطلسي من ان روسيا لن تسمح باستخدام القوة العسكرية في منطقة تحتفظ فيها بمصالح استراتيجية. هكذا يدور نوع من تنازع القوى حول الأزمة البوسنية طرفه الأميركي يسعى الى ترتيب هذه الأزمة منفرداً وفي الاطار الأطلسي وطرفه الروسي يرغب في نوع من الترتيبات التي كانت قائمة خلال الحرب الباردة، والتي تشبه ترتيبات يالطا، وللبلقان ذكريات تاريخية مع هذا النوع من الترتيبات. أزمة دولية مع هذه التحركات تكون الأزمة البوسنية قد خرجت من اطارها المحلي ولم تعد قضية داخلية. ومع تحولها الى قضية دولية بشكل أساسي وطاغٍ باتت تشكل خطراً جدياً ليس على البوسنيين فحسب وانما على البلقان بأكمله ولعل طريقة حل هذه الأزمة ستنعكس بالضرورة على حل المشاكل المشابهة العالقة في البلقان. وفي ظل هذا المتغير الحاسم، ينظر البوسنيون الى مستقبلهم بالمزيد من القلق فهم قد تنفسوا الصعداء عندما تحرك الغرب لنجدتهم لكنهم باتوا طرفاً هامشياً في المعادلة الدولية القائمة حول ساراييفو، ذلك ان الطرف الأقوى الذي صار ينوب عن المسلمين هو الولاياتالمتحدة التي يمكنها أن تلقي بثقلها الكبير الى جانبهم من أجل حمايتهم شرط أن تكون كلمتها هي الحاسمة في تقرير مصيرهم ولعل هذا ما يحدث بالضبط الآن في واشنطن حول طاولة المفاوضات بين المسلمين والكروات البوسنيين حيث تضغط واشنطن بقوة على الطرفين للاتفاق على فيديرالية بوسنية يمكن الانطلاق منها في المستقبل لحل المشاكل العالقة مع الصرب فهل ينجح هذا الحل؟ ان حل المشاكل في البلقان يشبه حل الكلمات المتقاطعة الصعبة التي تتطلب معرفة واسعة وتفكيك العقد الواحدة بعد الأخرى، وبهدوء لأن هذه المنطقة تحتوي على الكثير من الألغام والمتفجرات التي غالباً ما أدى انفجارها في السابق الى اشعال حرائق على مستوى الكون. وهذه الحالة كانت قائمة بالأمس وهي قائمة اليوم وربما ستظل قائمة في المستقبل. لذا يمكن القول ان اختبار القوة الصربي - الأطلسي سيستمر مع حرص الطرفين على المحافظة على شعرة معاوية بينهما.