تمارس الدول الغربية ضغوطاً سياسية في اتجاهات متعددة على أطراف النزاع في ساراييفو وحلفائهم الخارجيين، في ما يبدو أنه منعطف جديد في الحرب البوسنية نشأ بعد توجيه انذار "أطلسي" الى الميليشيات الصربية بوجوب فك الحصار عن العاصمة البوسنية بدءاً من العاشر من شباط فبراير الجاري. لم يصدّق أهالي ساراييفو المحاصرين أعينهم عندما اكتشفوا أن الهدوء التام يخيم بالفعل على عاصمتهم، غداة الانذار الذي وجهته قيادة حلف شمال الأطلسي في العاشر من شباط فبراير الجاري الى الميليشيات الصربية التي تحاصر المدينة. كان الهدوء الأمني الأول من نوعه منذ اندلاع الحرب البوسنية قبل أكثر من عامين لذلك كان من الطبيعي أن يفاجئ البوسنيين. كان لا بد من الانتظار أياماً أخرى للتثبت من الحقيقة الجديدة، ذلك أن البوسنيين كثيراً ما خُدعوا من قبل بالتصريحات الدولية وبعرض العضلات الأطلسية من دون أن يؤدي ذلك إلا الى المزيد من الموت والدمار في مدينتهم التي عاشت حتى ذلك التاريخ تحت تهديد المدافع والقناصة الصربيين. لكن الانتظار الذي حمل معه هدوءاً أمنياً فتح أعين البوسنيين على حقيقة أخرى، فالانذار الأطلسي ليس بداية النهاية للاعتداءات الصربية عليهم، وهو ليس بالتالي فرصة تتيح للبلاد استعادة وحدة أراضيها واستقرارها الذي كان قبل الحرب لكنه جزء من مشروع حل سياسي للأزمة يُخشى أن يعطي الميليشيات الصربية "بواسطة المفاوضات" ما عجزت عن "اقتلاعه بالقوة العسكرية" على حد تعبير الرئيس البوسني علي عزت بيكوفيتش. وللمخاوف البوسنية من فرض حل سياسي دولي على حساب المسلمين، ما يبررها في التصريحات السياسية للمسؤولين الغربيين والضغوط التي مورست وتمارس على المسلمين للقبول بمخطط السلام الأوروبي الذي يقضي بتقسيم البوسنة - الهرسك ثلاثة مناطق صربية وكرواتية ومسلمة، وبالتالي الاعتراف الواقعي بنتيجة ميزان القوى الذي ترسّخ على الأرض خلال الحرب الأهلية المستمرة منذ نحو سنتين. تراجع فرنسي وأميركي هل تتناسب مخاوف البوسنيين مع واقع الحال على الأرض؟ وهل تفرض الدول الغربية حلاً في البوسنة - الهرسك على حساب المسلمين؟ ليس الأمر بمثل هذه البساطة على رغم حدوث تغييرات في المواقف الغربية عشية توجيه الانذار الأطلسي الى الميليشيات الصربية بوجوب ابعاد مدافعها مسافة 20 كلم عن ساراييفو. ومن بين التغييرات التي لاحظها المراقبون الدوليون، تلك المتصلة بموقفي فرنساوالولاياتالمتحدة اللتين تراجعت كل منهما خطوة الى الوراء من أجل الاتفاق على توجيه الانذار. كانت باريس تعارض القيام بعمل عسكري ضد الصرب من دون الاتفاق سلفاً على حل سياسي يُفرض على أطراف النزاع. وكانت تدافع عن صيغة التقسيم الواردة في مخطط السلام الأوروبي كما هي الآن. لكنها قبلت بالاشتراك في توجيه الانذار وارسلت حاملة الطائرات "فوش" الى البحر الأدرياتيكي دليلاً على عزمها على اللجوء الى العمل العسكري إذا اقتضى الأمر، وذلك بعدما سجل تراجع مماثل في الموقف الأميركي. ذلك ان واشنطن كانت حتى الأمس القريب ترفض ممارسة ضغوط على البوسنيين وتقول ان ليس ممكناً الضغط على الضحايا، ولكن يجب الضغط على المعتدين الصرب والكرواتيين، وبالتالي منع هؤلاء من جني ثمار عدوانهم. وكان هذا الموقف يشجع البوسنيين على رفض مخطط السلام الأوروبي. لكن الادارة الأميركية اقتنعت أخيراً بأن الانذار الأطلسي قد يشجع البوسنيين على مواصلة الحرب وبالتالي على تعطيل أي عمل ديبلوماسي ممكن في هذا الاتجاه. لذا نصحتهم بأن أي حل للأزمة لا يمكن أن يتم إلا على طاولة المفاوضات. واعتبرت هذه النصيحة بمثابة تأييد لمخطط السلام الأوروبي، المخطط الوحيد الموجود الآن على الطاولة بين أطراف الصراع في جنيف. والمساومة الأميركية - الفرنسية لا تلخص كل الموقف الأميركي من الأزمة. ذلك ان واشنطن وجهت رسائل ضمنية الى الروس والقيادة الصربية في بلغراد، مفادها ان حلف شمال الأطلسي عازم على استخدام القوة لفك الحصار عن ساراييفو وان على بلغراد أن تأخذ ذلك في الاعتبار، وان تمارس بالتالي ضغطاً على صرب البوسنة. فإذا استجاب هؤلاء وأحرز تقدم على طريق الحل يمكن تخفيف الحصار الدولي عن جمهورية صربيا تمهيداً لالغائه بعد التوصل الى حل نهائي. تقسيم العمل من جهة ثانية استطاع الرئيس بيل كلينتون ان يقنع نظيره الروسي بوريس يلتسن خلال محادثة هاتفية بضرورة الانضمام الى المساعي القائمة لمعالجة الأزمة وبالتالي ممارسة ضغط على الصرب لحملهم على عدم تحدي الارادة الدولية، وإقناعهم بأن روسيا لن تقف الى جانبهم إذا كان ذلك يعني دخولهم في عزلة دولية. وتبين أن الروس وافقوا على ذلك عندما صرّح ممثلون عنهم في الأممالمتحدة وفي بلغراد وموسكو بأنهم اتفقوا مع الأميركيين على نوع من تقسيم العمل الديبلوماسي يقضي بالضغط الروسي على الصرب والأميركي على البوسنيين لتسهيل ايجاد حل تفاوضي للنزاع. ويسود اعتقاد في العواصم الغربية ان الصرب الذين يعتمدون على روسيا حليفاً دولياً وحيداً، لن يتمكنوا من مقاومة الضغوط الروسية لأنهم ليسوا من النوع الذي يتخذ مواقف انتحارية، على رغم تصريحاتهم الرافضة الانذار وأحاديثهم التي وصفت مبادرة الأطلسي بأنها "مبادرة عدوانية". والراجح أن مثل هذه الأحاديث والتصريحات موجه أصلاً للاستخدام الداخلي وليست السياسة التي ستعتمد بمواجهة الضغوط الروسية والدولية. وتدرك بلغراد تصميم الأطلسي على تنفيذ الانذار ليس فقط من خلال التصريحات الغربية المتكررة وانما أيضاً من خلال اجراءات اتخذتها الولاياتالمتحدة والمانيا وبريطانيا وهولندا وتقضي بسحب عائلات الديبلوماسيين من العاصمة اليوغوسلافية تحسباً لردود فعل قد تطاول هذه العائلات في حال شنّ غارات جوية على مواقع الميليشيات الصربية في محيط ساراييفو. أما صرب البوسنة فيدركون بدورهم اتجاه التغييرات التي طرأت على المواقف الغربية وهم يرون بالعين المجردة طائرات حلف شمال الأطلسي التي تقوم بجولات استطلاعية ليلاً نهاراً فوق مواقعهم لتحديد مرابض الأسلحة الثقيلة تمهيداً لضربها إذا ظلت في أماكنها بعد انتهاء مدة الانذار ليل الأحد في 20 شباط الجاري. ولعل ذلك ما يفسّر سكوت المدافع حول ساراييفو والهدوء الأمني الذي يخيّم على المدينة. وانعكس التصميم الغربي على استخدام القوة في البوسنة على الكرواتيين، فبادرت حكومة زغرب بالضغط على الميليشيات الكرواتية من أجل إقالة زعيم الكروات البوسنيين مات بوبان الذي يعتبره المسلمون سبباً في اندلاع الحرب بين الطرفين، والمسؤول الأول عن انقطاع التحالف الاسلامي - الكرواتي بدءاً من أيار مايو الماضي. ويذكر أن كرواتيا فقدت ربع أراضيها في الصراع مع الصرب عام 1991 ومني الكروات البوسنيون بهزائم كبيرة أمام القوات الاسلامية في وسط البوسنة. ما دفع حكومة زغرب الى الرهان على الصربيين وعقد اتفاق مصالحة معهم مطلع العام الجاري بعدما أيقنت ان الغرب لن يهبّ لنجدة المسلمين الأمر الذي يعني أن التصميم الغربي قد يدفع الكرواتيين الى تقديم تنازلات الى المسلمين بدأت تباشيرها بالظهور خلال الاسبوع الماضي عندما اتفقت سلطات البلدين على مبدأ اشراف قوات الأممالمتحدة على الممرات العسكرية الواقعة على الحدود الدولية للبوسنة - الهرسك والمقابلة للحدود الكرواتية. ويستفاد من المعلومات المتداولة في العاصمة الفرنسية أن الكروات لا يشكلون عقبة جدية أمام احتمال قيام اتفاق بوسني - صربي خصوصاً أنهم تعودوا تأييد الاجماع الدولي في مراحل الأزمة البوسنية منذ اندلاعها قبل سنتين. اضافة الى ان زغرب تتطلع بفارغ الصبر الى الانضمام الى المجموعة الأوروبية، وهي ليست الحال بالنسبة الى يوغوسلافيا الصربية التي تنظر نحو الاتحاد الروسي. يبقى القول أن الحكومة الكرواتية طمأنت وزير الخارجية الفرنسي آلان جوبيه خلال زيارته الأخيرة لزغرب 11/2/94 الى أنها مستعدة لتسهيل رحيل "القبعات الزرق" عبر أراضيها إذا استدعت الضرورة قلهم على جناح السرعة. أهون الشرين في مواجهة هذه التطورات في الأزمة البوسنية، يدرك المسلمون أنهم ليسوا قادرين على مواجهة ضغوط دولية متضافرة وأنهم سيطالبون عاجلاً أم آجلاً بقبول حل تفاوضي للأزمة "يربحون من خلاله أكثر مما يربحون بواسطة الحرب" على حد تعبير مسؤولين فرنسيين. فما الحل الذي يمكن أن يكون "أهون الشرين" بالنسبة الى البوسنيين؟ أكد وزير الخارجية الفرنسي آلان جوبيه في رده على هذا السؤال خلال انعقاد الاجتماع السنوي للقمة الأطلسية في بروكسيل أواسط شهر كانون الثاني يناير الماضي أنه تلقى جواباً واضحاً من الرئيس البوسني بيكوفيتش يقول فيه إن المسلمين يرضون بمخطط السلام الأوروبي 3 مقاطعات في البوسنة - الهرسك في اطار دولة واحدة شرط توفير ممرات للمقاطعة الاسلامية الى البحر والى الأنهار الحدودية وان تكون هذه الممرات مضمونة أمنياً فلا يمكن اسقاطها إذا تغيرت معادلة الصراع في المنطقة. اضافة الى ممرات تصل بين المدن الاسلامية المعزولة في مناطق الغلبة الصربية والكرواتية فضلاً عن تعديلات على خريطة توزيع المناطق الثلاث المقترحة مع احترام الحدود الدولية للبوسنة - الهرسك... وعلى رغم أن هذه المطالب تشكل تنازلاً كبيراً عن الشعارات البوسنية التقليدية الداعية الى عودة الأوضاع الى ما كانت قبل الحرب، فإن تحقيقها ليس من السهولة بمكان، لأن الممرات التي يطالب بها بيكوفيتش تمر من جهة البحر بالأراضي التابعة لكروات البوسنة، ومن جهة ثانية بأراضي جمهورية كرواتيا التي عبّرت بحزم عن رفضها اعطاء منفذ بحري للبوسنيين. أما الممرات الى الأنهار فهي تمتد في الأراضي التي يسيطر عليها صرب البوسنة الذين أكدوا بدورهم استحالة تنازلهم عن أي شبر من الأراضي التابعة لهم لمصلحة المسلمين. علماً بأن الطريق المعنية هنا لا يتجاوز طولها 8 كلم. وإذا التقى الرفض الكرواتي بالرفض الصربي فإن ذلك سيجعل من مخطط السلام الأوروبي مشروعاً انتحارياً للبوسنيين الذين سيخضعون الى الأبد لحصار كرواتي - صربي وسيعيشون في وسط معادٍ ومغلق يقفل أمامهم كل فرص النمو والتطور ويجعل منهم رهائن برسم الموت بعد فترة من الزمن. تشاؤم بالحل المفروض هذه العقبة دفعت الوسطاء الدوليين في مفاوضات جنيف الى تغليب البحث عن حل فيديرالي أو كونفيديرالي يضمن وحدة أراضي البوسنة - الهرسك ويجعل من ساراييفو عاصمة مشتركة ومدوّلة، الأمر الذي لا يحظى حتى الآن بأية موافقة من طرف الميليشيات الصربية المشدودة دائماً بدعم من بلغراد الى مشروع صربيا الكبرى على حساب وحدة الأراضي البوسنية. ولعل انسداد الأفق أمام احتمالات الحل السياسي العادل لجميع الأطراف، لا يُسهّل مهمة الوسطاء الدوليين ولا يساعد على تذليل الصعوبات التي تعترض مفاوضات جنيف. وإذا كانت الأطراف الغربية التي تقف وراء الانذار الأطلسي لجأت الى التهديد بالقوة لايجاد الحل، فإن تقدير المراقبين المهتمين بتفاصيل الصراع البوسني - الصربي - الكرواتي يميل الى التشاؤم، لأن الحل المفروض من فوق غير قابل للحياة من جهة، ولأن الحل التفاوضي في جنيف ليس سهلاً بسبب العقبات المشار اليها سلفاً. في ضوء ذلك يبدو المشهد السياسي البوسني مماثلاً للمشهد السياسي اللبناني خلال الحرب الأهلية في مراحلها السوداوية. ولعل هذا ما يفسر التفاؤل الحذر الذي أبداه سكان ساراييفو غداة الانذار الأطلسي، فهل يمضي هذا الانذار كما مضى غيره؟ وهل يعلن الغرب عجزه عن حل الأزمة البوسنية؟ هنا أيضاً يصعب الجزم. فالدول الغربية التي قررت الدخول برصيدها الدولي في الحرب البوسنية من خلال "الانذار" الشهير لا يمكنها تبرير سكوتها بعد انقضاء مدة الانذار في العشرين من الشهر الجاري، خصوصاً إذا أظهرت الميليشيات الصربية عدم التزامها بنود الانذار. كما يصعب على الدول الغربية أن تظل مكتوفة اذا استأنفت المدفعية الصربية دكّ شوارع ساراييفو بالقذائف العشوائية. فمثل هذا الأمر يشكل موافقة غير مباشرة على اجتياح العاصمة البوسنية، ويضع صدقية الغرب كلها على المحك. مهما يكن من أمر فإن الحرب البوسنية ستشهد مطلع هذا الأسبوع منعطفاً جديداً سواء مضى الانذار الأطلسي بهدوء أم تحركت الطائرات الغربية لقصف المواقع الصربية. فالانذار هو الخطوة الأولى في مرحلة جديدة من مراحل الصراع البوسني سواء اتجه هذا الصراع الى المزيد من الحرب أم الى السلام خطوة خطوة.