بين الأول والعاشر من أيلول سبتمبر، وعلى عادتها مرة في كل عام وفي مثل هذا الوقت، تقريباً، تحولت مدينة دوفيل الساحرة، الواقعة في الغرب الفرنسي على ساحل المانش الى ما اطلق عليه كلينت ايستوود بكل بساطة اسم "ليتل اميركا" أو "أميركا الصغيرة". ولم يكن ايستوود مخطئاً في اطلاقه على دوفيل هذا الاسم. ففي هذه الفترة تتحول مدينة البورجوازية الفرنسية الكبيرة، ومركز القمار المعروف، الى عاصمة حقيقية للسينما الأميركية، فتتألق هذه السينما وحدها من دون شريك، من دون تسويات بين الدول، من دون تدخلات من احد، تتألق بشكل لا تتألق فيه حتى ولا في أي مدينة من المدن الأميركية نفسها. هنا في دوفيل يصبح الأميركيون سادة ما بعدهم سادة، اما الباقون، فكلهم "كومبارس" راضون بمصيرهم يلعبون اللعبة بكل اتقان، في ذلك الموعد السنوي الذي تطل من خلاله السينما الاميركية على العالم. هنا يشعر اناس مثل كلينت ايستوود وكيفن كوستنر ودانزيل واشنطن وميريل ستريب وجنيفر جيسون لي وديبرا وينغر وروبرت دي نيرو وجاك نيكلسون انهم في بيتهم وبين أهلهم، ويشعرون ان فرنسا نفسها بعيدة جداً. وموعد دوفيل لهذا العام جمع كل اصحاب هذه الاسماء وعشرات غيرهم، ولا تبدو الصورة كما تبدو عليه في "كان". فلئن كانت القاعدة جرت في مهرجان "كان" على ان يبقى النجوم الاميركيون خاصة بعيدين عن العيون مختبئين في زوايا الفنادق والمسابح الفخمة. فانهم، هنا في دوفيل، ومثلما حال المعاني التي يتحدث عنها جاحظنا الكبير "مرميون في الطرقات"، اينما توجهت تلتقيهم اناساً عاديين مبهورين بجمال المدينة وبلطف المستقبلين، مرتاحين لغياب الزحام الذي اعتاد ان يزعجهم ويفقدهم اعصابهم في "كان". وذلك لأن مهرجان دوفيل يكاد يكون مهرجاناً من دون جمهور، جمهوره فقط بعض أهل المنطقة وبعض الاثرياء وبعض غلاة الهواة، خصوصاً وان كل افلام دوفيل تعرض عادة في صالات المدن الفرنسية الأخرى مما لا يستدعي اية حاجة لتكبد مشقات السفر والاقامة في أغلى مدينة في فرنسا. ومن هنا لا تكون الافلام، بل النجوم سادة دوفيل. واذا كانت احدى الصحف الفرنسية أشارت الى تنافس ما بين مهرجان دوفيل، ومهرجان البندقية في ايطاليا، الذي يعقد في الوقت نفسه، فان في هذه الاشارة واحدة من تلك المبالغات الفرنسية المضحكة. ف "دوفيل" شيء، و"البندقية" شيء آخر تماماً. "البندقية" واحد من افضل مهرجانات السينما في العالم. أما "دوفيل" فواجهة براقة لا اكثر. وخلف هذه الواجهة تلمع افلام بلغ تعدادها هذا العام نحو ثلاث دزينات، تمثل في مجموعها افضل ما انتجته السينما التجارية الاميركية، اضافة الى بعض النتاجات الهامشية المتميزة التي كانت - على اي حال - عرضت خلال التظاهرات الموازية في "كان" في الربيع الفائت. ثلاث دزينات من الافلام... أجل. ولكن النجومية استقرت على نصف دزينة لا اكثر. فالصحافة والجمهور والمعنيون، وجدوا ضالتهم ومصدر اهتمامهم في تلك الافلام القليلة العدد التي تبؤأ ادوارها نجوم النجوم، من "عالم الماء" لكيفن كوستنر، الى "ابولو 13" مع توم هانكس، ومن اخراج رون هوارد، مروراً ب "يوميات كرة السلة" من تمثيل النجم الصاعد ليوناردو دي كابريس و"يو. إس. إس. ألاباما" لطوني سكوت من تمثيل دانزيل واشنطن وجين هيكمان، ثم خاصة وأولاً "في الطريق الى ماديسون" فيلم كلينت ايستوود الجديد، الذي حاز على اكبر قدر من الاهتمام واعتبر نجم المهرجان من دون منازع. كما اعتبر كلينت ايستوود نفسه امبراطور المهرجان غير المتوج. والحقيقة انه كان من الصعب على أي كان ان يتصور ان تلك الحكاية الرومانسية التي تجمع في قصة حب تدور خلال اربعة أيام، مصدراً يعمل لحساب "المجلة الجغرافية القومية" وربة بيت مزارعة في العمق الاميركي سيمكنها ان تفوز باهتمام يفوق الاهتمام بأفلام "جبارة" مثل "عالم المياه" و"يو. إس. إس. ألاباما". ولكن حين يكون مخرج الفيلم وبطله كلينت ايستوود، وحين يجتمع هذا الأخير للمرة الأولى مع نجمة بارعة من طراز ميريل ستريب، ويتخلى لمرة عن مسدسه ومعاركه العنيفة ليخوض قصة حب ميلودرامي تذرف الدموع، مقتبسة من رواية أثارت تأوهات ملايين الاميركيات وكادت تعيد أميركا كلها الى عصر الدموع والغرام المستحيل، يصبح الحدث جديراً بأن يتوقف الكثيرون عنده. ويتحول الفيلم الى ظاهرة، ويأتي كلينت ايستوود بقامته الطويلة وشعره الأشيب وابتسامته الهادئة، ويتعامل مع الناس وكأنه اكتشف المريخ، وليس التشبيه بعيداً هنا عن الحقيقة، اذ في خضم سينما اميركية تعتمد من ناحية على الانتاجات الضخمة لافلام مغامرات صنعت للمراهقين، ومن ناحية ثانية على افلام عنف واقعية تكشف مأزق المجتمع الاميركي، يأتي هذا الفيلم وكأنه زائر من الفضاء الخارجي، غريباً عن الزمن لطيفاً هادئاً، لا ينتبه احد في نهاية الأمر الى ان فكرته مسروقة عن "يوم خاص جداً" لايتوري سكولا، يأتي ليحدث جديداً في عالم السينما الاميركية، وليقدم مثلاً يحتذى عن سينما ممكنة. وتزداد اهمية هذا الأمر من خلال واقع ان ايستوود نفسه هو المخرج وهو البطل، وانه عرف كيف يحقق هنا اخراجاً هادئاً يستغل الحد الأدنى من البعد الاخراجي، ويأخذ افضل ما عند ميريل ستريب ليضعه على الشاشة في مجابهة مع أفضل ما عنده هو شخصيا. فاذا بالاثنين يتألقان في لعبة اداء استثنائية تنسي المتفرج عادية الموضوع وسطحية القصة ولامصداقية الحدث نفسه. الهامشيون خارج الهامش "في الطريق الى ماديسون" كان، وفي جميع الحسابات، مفاجأة مهرجان دوفيل الحقيقية، كما كان كلينت ايستوود نجم المهرجان. النجم الثاني كان، بالطبع، روبير دي نيرو، الذي أتى لمجرد مساندة صديقه المنتج النيويوركي ارفن فنكلر، الذي عمل معه في اكثر من فيلم من اخراج مارتن سكورسيسي. وفنكلر كان موضع تقدير وتكريم خاصين في "دوفيل" ما أحدث بعض التوازن بين رغبة المهرجان في ان يكون مهرجان السينما الاميركية الضخمة ونافذتها على اوروبا، وبين ضرورة الاهتمام بتلك السينما المستقلة التي تمت خلال السبعينات والثمانينات، وانتجت افضل ما قدمه سكورسيسي وكوبولا ودي بالماوستون ومايكل تشيمينو وخاصة... وودي آلن. والحال ان تكريم فنكلر كان تكريماً لكل هؤلاء. غير ان هذا النوع من السينما المستقلة تبدى، من خلال دوفيل، خارج "الموضة" بعض الشيء، اذ اتت افلام هامشية عرضت ضمن اطار المهرجان لتقول ان سينما الثمانينات المستقلة تكاد تصبح هي السينما السائدة، اما الاستقلال الحقيقي، والعمل الهامشي الحقيقي، فهو ذلك الذي يحققه شبان مثل "دنيز تتصل هاتفياً" لهارولد سالوين أو "كافي سوسايتي" مقهى المجتمع لريموند دي فيليتا، وهذان الفيلمان أمنا وحدهما، وبنجاح لافت حضور السينما الاميركية الأخرى، الأول من خلال حكاية علاقة هائلة وعجيبة تقوم بين مجموعة من الاشخاص ولكن دائماً عبر التلفون، والثاني من خلال حكاية ذلك الوريث الثري لامبراطورية صحافية، يتهم بالعمل كقواد. وهذا الفيلم الثاني مأخوذ، بالطبع، عن حكاية حقيقية حدثت في سنوات الخمسين في اميركا وهزت عالم الاستعراض والصحافة. الى هذا النمط نفسه من الافلام الاجتماعية - الهامشية تنتمي اعمال اخرى لفتت النظر في "دوفيل" مثل "جيفري" لكريستوفر آشلي، عن علاقة بين ممثل وصديقه المصاب بالسيدا، وخاصة مثل "العيش في اوبلفيون" لتوم دي تشيليو، وهو يحكي - على نمط "الليل الاميركي" لفرانسوا تروفو - عن حكاية تصوير فيلم سينمائي في مانهاتن. والطريف ان هذا الفيلم الذي شاء ان يروي بؤس حياة السينمائيين وتعبهم والمشاكل التي تعترضهم خلال التصوير، اعتبر واحداً من افضل افلام المهرجان. "من افضل افلام المهرجان" عبارة كان يمكنها ان ترد، كذلك، خلال الحديث عن فيلمين ميزتهما ان لهما علاقة بأفضل كاتبين تعرفهما اميركا في الوقت الحاضر: ستيفن كينغ، مؤلف روايات الرعب والعنف السوريالي، وبول اوستر، صاحب روايات مثل "مون بالاس" و"الثلاثية النيويوركية. من كينغ عرض المهرجان فيلم "دولوريس كليربورن" الذي حققه تايلور هاكنور عن واحدة من انجح روايات الكاتب. رواية تتحدث عن دولوريس المتهمة بقتل سيدتها بعد اربعين سنة من الخدمة عندها، لكن دولوريس لا تدفع التهمة عن نفسها لأنها غير مبالية بأي شيء على الاطلاق. على عكس ابنتها التي تلاحق القضية. في هذا الفيلم المتميز - والذي لم يحط حتى كتابة هذه السطور بما يستحقه من اهتمام - تؤدي كاثي بيتس دور دولوريس باتقان رائع، هي التي كانت تميزت في دور المزارعة هاوية الروايات البوليسية التي تعذب المؤلف بعد ان تنقذه من حادث، وتحاول اجباره على تغيير مصير بطلة رواياته، في واحد من أفضل الافلام المأخوذة عن ستيفن كينغ حتى الآن "ميزيري". بول اوستر يطل من خلال فيلم كتب له السيناريو وشارك في تحقيقه مع الصيني الأصل واين وانغ بعنوان "دخان". في هذا الفيلم الغريب، يصور لنا أوستر لقاء اشخاص غريبي الأطوار يبحث كل منهم عن ذاته من دون ان يجدها بحيث تتشابك العلاقات وتتضخم الاحقاد بين كاتب فقد مصادر وحيه، وبائع سيجار عنيف، وشاب يبحث عن أبيه... الخ. اذا كان اوستر وشريكه في الاخراج وانغ قطعا فيلهما من دون ان يوصلا أياً من شخصياته الى أي مصير، فان الفيلم الجديد الذي يحققه الاثنان معاً ويعتبر تتمة لهذا الفيلم الذي تجري احداثه في بروكلين، سيمكنه ان يوصل المصائر الى هدف معين وعنوان هذا الفيلم الآخر هو "حزن في الوجه" وسيعرض خلال هذا الخريف. وكل المواضيع الأخرى جاهزة مثلما حدث في "كان" في الربيع الفائت، تمتلئ عروض دوفيل لهذا العام بالافلام التي تتخذ من السينما نفسها، أو مما يدور من حول السينما موضوعاً لها، بدءاً بفيلم "الاعوام المائة الأولى" لتشاك ودركمان، وهو فيلم تسجيلي يؤرخ للسينما الاميركية من خلال لقاءات سجلت مع سينمائيين من طراز جيمس ستيوارت وجورج لوكاس وكاثرين هيبورن. عن السينما ايضاً هناك، بالطبع، فيلم "الحياة في اوبلفيون" الذي ذكرناه والذي يمكن اعتباره امتداداً لتلك السلسلة من الافلام الاميركية التي لم تكف منذ عشرات السنين عن اتخاذ السينما نفسها موضوعاً لها. وعن السينما هناك، كذلك "جيفري" و"المَخْرج الفرنسي" لدافنا كاستنر عن غرام بين كاتب سيناريو وكاتبة سيناريو. وهناك "السباحة مع اسماك القرش" وسيد اسماك القرش هنا، منتج سينمائي فاسد لا ضمير له، يذكر بالمنتج الذي قدمه لنا الاخوان كوين قبل فترة في فيلمهما الرائع "بارتون فنك"... الخ. ماذا يبقى ايضاً في دوفيل؟ تبقى الافلام الضخمة ذات المواضيع التي لا تفتأ هوليوود تكررها وتحقق من خلالها ارباحاً هائلة، الصراع داخل السجن وللهرب منه في "جريمة في الكاتراز"، و"المسخ" ولكن من خلال حكاية سينمائية عن صراع بين ممثلة تبدو وكأنها آتية من العالم الخارجي والممثلين الذين يريدون ابادتها بأي شكل من الاشكال وحكاية عالم النفس الذي تقض مضجعه مأساة موت صبي كلف بملاحقة وضعه "السقوط الصامت" من اخراج بروس بيرنسفورد وتمثيل ريتشارد درايفوس، ثم خاصة دخول "الانترنيت" الى عالم السينما من باب واسع عبر فيلم "الشبكة" الذي انتجه وحققه المنتج ارفن فنكلر موضع التكريم في دوفيل عن حكاية مطاردة بين امرأة وعصابة تستخدم احدث امكانات الكومبيوتر. ولكن لئن كان هؤلاء اثبتوا طوال مشاهد الفيلم قدرتهم وجبروت الادارة التي يستخدمونها، فان المرأة - كما تقتضي الاحوال - تبدو في نهاية الأمر اشطر منهم فتنتصر عليهم من دون ان يعني ذلك بالطبع - وكما تقتضي الاحوال ايضاً - ان الانترنيت هو الذي انهزم! "... وحدها السينما الحقيقية" في "دوفيل" اجتمعت، اذن، كل انماط السينما الاميركية: الافلام الاجتماعية، الهامشية، افلام الفضاء "أبولو 13" وأفلام اعماق المياه "عالم الماء" و"يو. إس. إس. ألاباما" أفلام تمجيد السينما لنفسها، وأفلام تمجيد الأدب. أفلام الحديث عن الماضي وأفلام الحديث عن الحاضر. وسحر الرومانطيقية الخفي، مع سحر المجتمع المتأزم الواقع تحت سيطرة السيدا والتحليل النفسي والغيرة وضيق ذات اليد. ومع هذا، مرة أخرى، لم تكن الافلام هي النجوم الحقيقية للمهرجان. في دوفيل النجوم هم النجوم. وحديث ولو سريع مع كلينت ايستوود او نيكلسون او ديبرا وينغر يساوي عشرات المقالات النقدية. دوفيل هي مجتمع السينما المخملي. اي هي السينما كما تريد السينما الاميركية لنفسها ان تكون: عالم السحر والخيال، عالم الحلم، عالم الرفاهية. باختصار عالم الحياة الموازية التي لم يعد لها أي وجود الا على شاشة التلفزة المتواطئة، وعلى الصفحات البراقة للصحف والمجلات التي تبعث بمندوبيها ليشكلوا واحداً من أعجب الجماهير. ترى هل قلنا كل ما يجب ان يقال عن مهرجان دوفيل؟ بالنسبة الينا ربما. اما كلينت ايستوود فانه ينظر الى الأمور نظرة مختلفة اذ أنه حين سئل عن رأيه في مهرجان دوفيل قال بكل بساطة، وقد نسي كل التكريم الذي كان له في "كان" قبل سنتين حين ترأس لجنة التحكيم: "بعد كل شيء، الا ترون معي ان مهرجان دوفيل هو المهرجان السينمائي الوحيد الحقيقي في العالم. وبكل بساطة لأنه مختص بالسينما الحقيقية الوحيدة الموجودة؟".