قرية القصار التراثية.. مَعْلَم تاريخي وحضاري في جزر فرسان    اعتقال أكثر من 100 محتج خلال احتجاجات مناهضة للحكومة بجورجيا    غداً..أول اجتماع خماسي لبحث خروقات هدنة لبنان    «الداخلية»: ضبط 19024 مخالفاً لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    هل بدأ زيلينسكي مرحلة تقديم التنازلات؟    الكشافة السعودية تستعرض تجربتها في مكافحة التصحر بمؤتمر COP16    الفنون الشعبية والتراثية تُثري فعاليات حائل    "التعاون الإسلامي" تشارك في اجتماع التحالف الدولي لتنفيذ حل الدولتين في بروكسيل    تنفيذ حُكم القتل في مواطنين خانا وطنهما وانضما لكيان إرهابي    الفرصة مهيأة لهطول الأمطار على 5 مناطق بالمملكة    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال 26 إلى لبنان    "وفد سعودي" لتعزيز التعاون الاقتصادي في طاجيكستان    "بلاغات الأدوية" تتجاوز 32 ألفًا في شهر واحد    «فيفا» يعلن حصول ملف استضافة السعودية لكأس العالم 2034 على أعلى تقييم في التاريخ    أستراليا تحظر «السوشال ميديا» على الأطفال    سكري القصيم «عقدة» رائد التحدي    استهداف 34 ألف لاعب تتراوح أعمارهم بين 6 إلى 9 سنوات    نائب رئيس مجلس الإفتاء السويدي: المملكة ناصرة للدين الإسلامي    بحضور وزير الرياضة.. انطلاق منافسات سباق "سال جدة جي تي 2024"    «الإيدز» يبعد 100 مقيم ووافد من الكويت    معرض "أنا عربية" يفتتح أبوابه لاستقبال الجمهور في منطقة "فيا رياض"    باكستان تقدم لزوار معرض "بَنان" أشهر المنتجات الحرفية المصنعة على أيدي نساء القرى    انطلاق فعاليات معرض وزارة الداخلية التوعوي لتعزيز السلامة المرورية    مطارات الدمام تدشن مطارنا أخضر مع مسافريها بإستخدام الذكاء الاصطناعي    ديوانية الأطباء في اللقاء ال89 عن شبكية العين    أمير منطقة تبوك يستقبل رئيس واعضاء مجلس ادارة جمعية التوحد بالمنطقة    مدني الزلفي ينفذ التمرين الفرضي ل كارثة سيول بحي العزيزية    مدني أبها يخمد حريقًا في غرفة خارجية نتيجة وميض لحظي    الأهلي يتغلب على الوحدة بهدف محرز في دوري روشن للمحترفين    ندى الغامدي تتوج بجائزة الأمير سعود بن نهار آل سعود    البنك المركزي الروسي: لا حاجة لإجراءات طارئة لدعم قيمة الروبل    الجبلين يتعادل مع الحزم إيجابياً في دوري يلو    "أخضر السيدات" يخسر وديته أمام نظيره الفلسطيني    حرمان قاصر وجه إهانات عنصرية إلى فينيسيوس من دخول الملاعب لمدة عام    6 مراحل تاريخية مهمة أسست ل«قطار الرياض».. تعرف عليها    خطيب المسجد النبوي: السجود ملجأ إلى الله وعلاج للقلوب وتفريج للهموم    السعودية تتسلّم مواطنًا مطلوبًا دوليًا في قضايا فساد مالي وإداري من روسيا الاتحادية    الشؤون الإسلامية تطلق الدورة التأهلية لمنسوبي المساجد    خطيب المسجد الحرام: أعظمِ أعمالِ البِرِّ أن يترُكَ العبدُ خلفَه ذُرّيَّة صالحة مباركة    وكيل إمارة جازان للشؤون الأمنية يفتتح البرنامج الدعوي "المخدرات عدو التنمية"    الملحم يعيد المعارك الأدبية بمهاجمة «حياة القصيبي في الإدارة»    التشكيلي الخزمري: وصلت لما أصبو إليه وأتعمد الرمزية لتعميق الفكرة    تقدمهم عدد من الأمراء ونوابهم.. المصلون يؤدون صلاة الاستسقاء بالمناطق كافة    انطباع نقدي لقصيدة «بعد حيِّي» للشاعرة منى البدراني    فصل التوائم.. البداية والمسيرة    "راديو مدل بيست" توسع نطاق بثها وتصل إلى أبها    بالله نحسدك على ايش؟!    حملة توعوية بجدة عن التهاب المفاصل الفقارية المحوري    أمير تبوك يستقبل المواطن مطير الضيوفي الذي تنازل عن قاتل ابنه    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الدورة ال 162 للمجلس الوزاري التحضيري للمجلس الأعلى الخليجي    إنسانية عبدالعزيز بن سلمان    أمير حائل يعقد لقاءً مع قافلة شباب الغد    أكدت رفضها القاطع للإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين.. السعودية تدعو لحظر جميع أسلحة الدمار الشامل    محمد بن عبدالرحمن يشرّف حفل سفارة عُمان    رئيس مجلس الشيوخ في باكستان يصل المدينة المنورة    أمير تبوك يقف على المراحل النهائية لمشروع مبنى مجلس المنطقة    هيئة تطوير محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية ترصد ممارسات صيد جائر بالمحمية    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تأخرت مكافأته لأنه سار عكس تيار هوليوود . كلينت ايستوود ظلمته السينما ثلاثين عاماً !
نشر في الحياة يوم 17 - 05 - 1993

فجأة، بين ليلة وضحاها، صار كلينت ايستوود رجل الساعة في السينما الاميركية، أولا عبر تسمية فيلمه الاخير "غير المسامح" لتسع جوائز اوسكار، وبعد ذلك عبر نيله بالفعل لاربع من تلك الجوائز ومن بينها جائزتا احسن فيلم واحسن اخراج. وهكذا اعتلى ايستوود خشبة المسرح ليلة الثلاثين من آذار مارس المنصرم وعلى وجهه ابتسامة تخفي شعوره الحقيقي في تلك اللحظة: شعور ذاك الذي بهامشيته ومساره البطيء وحرفيته الغريبة، تمكن من ان يفرض نفسه على عالم معقد وكئيب ولئيم، كعالم السينما الهوليوودية، هنا جولة في حياة ايستوود ومفاتيح لفهم عمله كممثل ومخرج.
في واحد من أجمل مشاهد فيلم "صياد أبيض.. قلب أسود" الذي يروي بقالب روائي حكاية تصوير جون هيوستون لفيلمه الشهير "الملكة الافريقية.. في غابات افريقيا"، تلتفت احدى الشخصيات في لحظة وهن الى المخرج سائلة إياه عن السبب الذي يدعوه الى الاصرار على تحقيق افلام تعبر عنه وعن آرائه، ولماذا لا يحقق ما ينال رضى الجمهور. فيلتفت المخرج الى محدثه غاضباً ويقول له بلهجة قاطعة: "أنا لن أدع ابداً ثمانية ملايين شخص من آكلي البوب كورن يملون عليّ ما الذي يجب ان أفعله في أفلامي".
هذا الرأي الذي يتبناه كلينت ايستوود كلياً في ذلك الفيلم الذي يعتبر واحداً من اجمل افلامه، مع انه لم يحقق نجاحاً تجارياً كبيراً، هذا الرأي، بدا غريباً يومها لاولئك الذين كانوا منذ زمن بعيد يعتقدون انهم يعرفون كلينت ايستوود ويعرفون عمله عن كثب. الذين كانوا ينظرون الى شعبيته ومكانته في تاريخ السينما المعاصرة، انطلاقاً من نظرات الجمهور الراضية عنه. غير ان هؤلاء لم يفهموا الا متأخرين، ان العلاقة الايجابية التي انبنت دائماً بين كلينت ايستوود وجمهوره، انما قامت على نوع من سوء التفاهم، لان قراءة معمقة لمسيرة ايستوود السينمائية، كممثل ومخرج في آن معاً، ستقول لنا ان الرجل انما سار دائماً على عكس التيار. بمعنى انه بدلا من ان يترك لآكلي "البوب كورن" حرية ان يملوا عليه ما يفعله، تعمد ان يملي عليهم هو الكيفية التي ينظرون بها الى السينما، حتى وان لم يشعروا بذلك في معظم الاحيان.
ليس كلينت ايستوود، اورسون ويلز ولا هو جون هيوستون بالطبع، والرجل لم يزعم ابداً انه يضاهيهما على اي حال. ولكن في زمن تتغير فيه "الموض" الرائجة في السينما شهراً بعد شهر، وتتبدل فيه بسرعة مصائر الممثلين والمخرجين، وينجح اكثر واحد من اثنين: اما من يعطي افلامه طابعاً ثقافياً بحتاً فيتلقفه النقاد ونخبة الجمهور صانعين منه مؤلفاً من طراز رفيع، واما من يخوض في السينما الشعبية حتى ثمالتها فيحقق الافلام التي تربح مئات الملايين من الدولارات، حتى وان دمر النقاد سمعته تدميراً، في زمن كهذا يبدو كلينت ايستوود نسيج وحده، هامشياً الى ابعد حدود الهامشية، متفرداً، ساخراً في هدوئه، بطيئاً في رد فعله، واثقاً ان أي رأي متسرع يبديه البعض ازاء قراءة اولى لفيلم يمثله او يخرجه، سوف لن يكون الرأي الاخير. وبهذا المعنى فقط قد يصح ان يقارن بويلز او هيوستون، ذاك الذي يحلو للبعض مقارنته بجون واين.
حكاية غير عادية
مما لا شك فيه ان كل هذا كان يدور خلف ابتسامة كلينت ايستوود الطيبة الغامضة التي ارتسمت على شفتيه، حين اعتلى المسرح قبل ايام لتلقي اوسكارين من الاوسكارات الاربعة التي فاز بها فيلمه الاخير "غير المسامح"، اي اوسكار افضل مخرج واوسكار افضل فيلم. ففي لحظة المجد تلك التي بدا على ايستوود انه يقابلها بكثير من التواضع والحياء، كان واضحاً ان هذا الذي صار خلال ثلاثة عقود من الزمن، اكثر سادة هوليوود شعبية، يستمرئ الى حد كبير هذا الثأر الذي حققه على عاصمة السينما. وانه يستعيد في لحظات قليلة مساراً متعرجاً غريباً في هامشيته، مدهشاً في تقلباته وفي ضروب سوء التفاهم التي اثارها. والحقيقة ان حكاية كلينت ايستوود مع السينما ومع الحياة لم تكن حكاية عادية بأي حال من الاحوال، بل كانت - ولا تزال - حكاية حافلة بالتناقضات والتساؤلات ولعل اكثرها بداهة ان نتذكر كيف ان هذا الذي برز كممثل لاداور البطل - المضاد، ففرض على هوليوود اساليب تعبير ندر ان عرفت مثيلا لها من قبل. لم يعط جائزة افضل ممثل في توزيع الاوسكارات الاخيرة، بل جائزة افضل مخرج، هو الذي بالكاد بدأ النقاد ينظرون بجدية الى فنه الاخراجي في السنوات الاخيرة.
ومع ذلك لئن كان عمر الممثل في كلينت ايستوود ثلاثين عاماً، فإن عمر المخرج فيه يزيد على العشرين. غير ان هذا ليس سوى واحد من تناقضاته، وحسبنا ان نذكر تناقضاً آخر لكي تتوضح الصورة: فايستوود عرف دائماً بيمينيته، منذ ناصر نيكسون حتى تحمس لريغان وهي يمينية تلوح في مواقفه بل وفي بعض ملامح الشخصيات التي يمثلها، ومع ذلك هل تعرفون لمن صوت الرجل في الانتخابات الاخيرة؟ لروس بيرو، الهامشي التكساسي! لماذا؟ لأن الجمهوريين في جناحهم اليميني الاكثر تطرفاً الذي يمثله جورج بوش، قد اساءوا كثيراً لاميركا ومارسوا نوعاً احمق من تدمير الذات. ترى هل نحن هنا بعيدون جداً عن المسارات التي تتبعها شخصيات افلام كلينت ايستوود؟ ملاحظة تفرض نفسها هنا: إن الدور الاول الذي اشتهر به كلينت ايستوود كان دور "الرجل الذي لا اسم له" "الآتي من اللامكان" و"الذاهب الى اللامكان" "الذي لا يحمل تاريخاً ولا يتوجه نحو اي مستقبل". ولعل نظرة الى شخصيات كلينت ايستوود جميعها، وصولاً الى تصويته لروس بيرو، والى فهمه الخاص لاميركا، تجعلنا أقدر على ربط الخيوط ببعضها البعض.
من أجل 15 ألف دولار
كلينت ايستوود اليوم في الثالثة والستين من عمره. وهو زمن متأخر طبعاً بالنسبة الى المجد الذي هبط عليه مع الاوسكارات الاخيرة التي نالها. لكن من ينظر الى هذا الممثل - المخرج، سيدهشه مقدار الشباب الدائم الذي يلوح في عينيه، وخاصة في ابتسامته الغريبة. وسيدهشه اكثر ذلك الهدوء الذي به يتقبل كل شيء. غير ان هذا كله يخفي الكثير من الالم والرغبات الدفينة والذكريات السيئة والمؤلمة. ترى هل يمكن لشيء ان يعبر عن مسيرة كلينت ايستوود بمقدار ما تعبر تلك اللحظة، في العام 1964، حين سأله وكيل للفنانيين كان يتعامل معه عما اذا كان يهمه ان يسافر الى اسبانيا للعمل في فيلم "رعاة بقر" تحت ادارة مخرج ايطالي لم يسمع به من قبل يدعى سيرجيو ليوني؟
حسناً، يومها ومقابل 15 الف دولار كان بحاجة ماسة اليها، رضي كلينت ايستوود، وكان نال حظاً ضئيلاً من الشهرة عبر تمثيله في مسلسل تلفزيوني ناجح عن رعاة البقر، عنوانه "راوهايد" وفشل في اقناع المنتجين بأن يسندوا له اخراج بعض الحلقات، رضي ان يخوض المغامرة للتعرف على عوامل جديدة.
وكان اسم الفيلم "من أجل حفنة من الدولارات". يومها، حين كان ايستوود يركب الطائرة من كاليفورنيا الى اسبانيا، هل دار في خلده ان ذلك الفيلم الذي نظر اليه اول الامر باستخفاف، لن يبدل من مسار حياته ومهنته هو نفسه فقط، بل سيحدث تبديلاً عميقاً في جانب من جوانب السينما؟
لقد كان من المستحيل على ايستوود ان يجرؤ على ان يحلم بهذا. كانت المسألة بالنسبة اليه مجرد عمل آخر يقوم به، هو الذي كان بلغ الرابعة والثلاثين من عمره يومها ولم يخط بعد اية خطوات حقيقية نحو المجد. فالحال ان طفولة ايستوود واصوله المتواضعة لم تكن لتعطيه كل ما كان بحاجة اليه من فرص. فهو ولد من اسرة شديدة البؤس في ايار مايو من العام 1930، ايام الكساد الرهيب، في وقت كان والده يبحث دون جدوى عن اي عمل يقيم اود اسرته الصغيرة. وللبحث عن العمل كان الاب دائم التنقل بين مناطق كاليفورنيا، مما جعل الطفل كلينت ايستوود لا يستقر على درس او مهنة. فعلم نفسه بنفسه، ثم خاض باكراً غمار الحياة فمارس العديد من المهن المتواضعة، دون ان تخطر السينما على باله، ولقد كان من شأن قامته المديدة 180 سم وهو بعد في الرابعة عشرة من عمره ان أهلته للرياضة، بل وحين جند في الجيش الاميركي استخدم كمدرب في احدى الثكنات خلال الحرب الكورية. وبعد الجيش ساقته قدماه الى هوليوود بحثاً عن اي عمل، ولكن دون ان يخطر في باله ان القدر سوف يجعل منه بعد عقود من السنين سيداً من سادة السينما الكبار.
شفاه القسوة والسخرية
في هوليوود تمكن كلينت ايستوود من الحصول على عقد للعمل في استديو يونيفرسال مقابل 75 دولاراً في الاسبوع، وكان يعطى في بعض الاحيان ادوار كومبارس، او ادواراً ثانوية دون كلام، حيث يستفاد من قامته وصلابة ملامحه. وبما انه برع في ركب الحصان وفي استخدام المسدس، كان من الطبيعي ان يعطى ادواراً تتزايد اهميتها شيئاً فشيئاً، حتى كان ذلك المسلسل التلفزيوني الشهير الذي مثل في نحو مائتي حلقة فيه، جعلت قامته وزرقة عينيه تلفتان الانظار اكثر من ادائه. ثم انه لم يكن ذا شخصية خاصة في الاداء على اي حال "كنت اكتفي بتقليد حركات مارلون براندو التي كانت على الموضة آنذاك" يقول ايستوود اليوم مبتسماً.
كانت سنوات طويلة مرت عليه دون ان يحقق اياً من احلامه: في التمثيل او في الاخراج، حين جاءه عرض الذهاب الى اسبانيا.
"خلال العمل مع سيرجيو ليوني، يتذكر ايستوود، كان المناخ غريباً. كنت لا اعرف من الكلمات الايطالية سوى اريغديرتشي، وكان كل ما يعرفه هو من الانكليزية كلمتي هالو وغود باي. لكن التيار مر بيننا بشكل جيد، خاصة وان الدور الذي رسمه لي كان دوراً صامتاً تقريباً".
ان كل الذين شاهدوا "من أجل حفنة من الدولارات" يتذكرون بالطبع ان كلينت ايستوود، بطل الفيلم، بالكاد تفوه فيه ببعض العبارات. كان وجهه ونظراته الفولاذية المحدقة دائماً الى شمس ساطعة، وحركات يديه البطيئة ومعطفه الطويل وذقنه نصف الحليقة، وشفتاه المتراوحتان بين القسوة والسخرية والالم، كان هذا كله من يتولى التعبير بدلا من الكلمات. لكن هذا لم يكن كل شيء: فالحال ان سيرجيو ليوني عبر ابداعه لتلك الشخصية، فرض على سينما "رعاة البقر" الاميركية نوعاً جديداً من بطل مضاد سوف تعود لاستخدامه كثيراً بعد ذلك، اضافة الى انه اعطى ايستووود ما كان ينقصه على الدوام: اعطاه الملامح التي سوف لن تفارقه بعد ذلك ابداً. والفيلم الذي كان كثيرون ينظرون اليه باستخفاف اول الامر من ناحية لانه اعتبر تدخلاً ايطاليا في شؤون "رعاة البقر" الاميركيين، ومن ناحية ثانية لان نوع رعاة البقر نفسه لم يكن على الموضة حينذاك سوف يحقق نجاحاً عظيماً، يدفع مخرجه الى اتباعه بفيلمين فشكل الثلاثة معاً ثلاثية هي اليوم، من بعد افلام جون فورد، وربما ويليام ويلمان، الافلام الاشهر في تاريخ سينما "الغرب" الاميركي، فهل نحن بحاجة الى تذكير قرائنا بعنواني الفيلمين التاليين: "من اجل دولارات اخرى" و"الصالح والطالح والقبيح"؟
هذه الافلام الثلاثة حققت نجاحاً كبيراً في اواسط الستينات، وعندما عاد كلينت ايستوود بعدها نهائياً الى كاليفورنيا، كان مجد كبير سبقه، بل وكانت اسطورته بدأت تنسج، اسطورة مبنية انطلاقاً من صورته في تلك الافلام، اسطورة الوحيد اللئيم الذي لا يرحم، والذي يقتل الاشرار دون هوادة دون ان ينتظر من القانون دعماً ومساندة مشروعين. صحيح ان كلينت ايستوود يقول اليوم انه يدين لسيرجيو ليوني بهذه الصورة وهذا ما جعله يهديه فيلمه الاخير "غير المسامح"، غير ان عرفان الجميل هذا لا يبدو لنا في منتهى الدقة، اذ ان اطلالة معمقة على الشخصيات التالية التي لعبها كلينت ايستوود، ستقول ان له يداً هو الآخر اساسية في بناء تلك الصورة، وليس فقط في افلام "رعاة البقر" العديدة التي سيمثل فيها او يخرجها، بل كذلك في شتى افلامه الاخرى. ترى هل الشخصية التي لعبها ايستوود في "هاري القذر" تفلت عن ذلك الاطار؟ بل وهل تفلت عنه حتى شخصية ماني في فيلمه الاخير؟ دائماً وحيدة، ودائماً مع الخير ضد الشر ولو كان في ذلك تخط للقانون، ودائماً خاسرة في النهاية شخصيات كلينت ايستوود، حتى ولو كان ثمة انتصار اخير.
راعي البقر في نيويورك
عندما ودع كلينت ايستوود سيرجيو ليوني وعاد الى اميركا، كان اول فيلم يحققه فيها هو "خدعة كوغان" 1968 من اخراج دون سيغل، ولسوف يلعب سيغل في حياة كلينت ايستوود وعمله دوراً مشابهاً للدور الذي لعبه ليوني في الستينات. فلئن كان هذا الاخير ساعده على رسم ملامح الشخصية التي سوف يتقمصها اينما حل وارتحل، في الريف كما في المدينة، وفي افلام الهزل كما في افلام القتل والعنف، فإن دون سيغل سوف يستكمل تلك الشخصية باضفائه للبعد المديني عليها، وباسباغه مزيداً من العنف على بطلنا. ومن هنا لن يكون من المصادفة ان ينظر كلينت ايستوود الى سيغل نظرته الى ليوني، كمعلم لعب دوراً أساسياً في حياته. هذا على الرغم من ان العنف المجاني الذي طبع دائماً افلام سيغل البوليسية، وبعض الابهام في التوجه الفكري لهذه الافلام، قد اسبغ على شخصية كلينت ايستوود في سلسلة افلام المفتش هاري، طابعاً فاشياً بينا. على اي حال ربما يصح ان نقول بأن "خدعة كوغان" على رغم النجاح التجاري الذي حققه كان مجرد تمهيد لتعاونه الطويل مع دون سيغل، وكان الفيلم الذي نقل شريف سيرجيو ليوني الصامت واللئيم من مجاهل "الغرب" الى نيويورك ليطارد قاتلاً محترفاً في أزقة مدينة الزعران الشهيرة. وكما في افلام رعاة البقر، كذلك في هذا النوع البوليسي الجديد عليه كان اهم ما ميز نظرات كلينت ايستوود هو ذلك الاستغراب الذي يبديه في لحظة ما، في مشهد ما، ازاء وجوده في مكان ما. وهو ما كان فعله في فيلم "رعاة بقر" كان اول ما مثله عند عودته الى اميركا ويفضل اليوم ان ينساه لانه كان مجرد محاكاة لافلامه الايطالية، هذا الفيلم هو "أشنقهم عالياً" الذي حققه تيد بوست وكان نجاحه التجاري، مع ذلك، كبيراً.
قلنا ان "خدعة كوغان" كان مجرد تحضير لبروز شخصية هاري القذر، هاري الفاشي الذي يطارد في فيلم "هاري القذر" 1971 قاتلاً جعله المخرج دون سيغل معتوهاً مع تلميحه الى انه ربما كان واحداً من انصار السلام في فيتنام. ولما كان الزمن زمن الصراع بين التيارات الليبرالية والتقدمية الاميركية، وادارة نيكسون من حول حرب فيتنام، ولما كان من المعروف عن كلينت ايستوود تأييده لنيكسون، وعن سيغل يمينيته المتطرفة، كان من الطبيعي ان تنشأ من حول ممثلنا وفيلمه الجديد هالة غير ملائمة على الاطلاق، وان تلتصق به صورة الفاشي. والحال ان كل ما في شخصية المفتش هاري يوحي بفاشيته: قسوته، عداؤه للهامشيين، دفاعه الصارم عن الاخلاق حتى ضد القانون. غير ان نظرة جديدة الى هذا الفيلم اليوم قد يكون من شأنها ان تعدل الصورة بعض الشيء. لئن كان هاري فاشياً او عنيفاً، فإن لديه من الفردانية والارادة ما يجعله يرفض المجرم والقانون الذي يولده معاًَ، وهو ما تعبر عنه لقطة الفيلم الاخيرة حين يرمي شارته امام جثة القاتل القتيل وقد رفض الجريمة، والقانون الذي يولد الجريمة في آن معاً!
قانون الفرد الاخلاقي
قبل ان ينقل كلينت ايستوود بطله من اعماق الغرب الى نيويورك ليجعل منه محققاً للعدالة على طريقته الخاصة، كان الى جانب عمله في افلام عديدة، تارة من اخراج دون سيغل نفسه في "المغدور" عام 1971 وطوراً من اخراج آخرين "ابطال كيلي"، 1970 من اخراج جورج هاتون، كان حقق واحداً من اعز احلامه على نفسه: الاخراج. كان ذلك حين اختار قصة صغيرة محدودة الشخصيات تنتمي الى عالم هتشكوك ليجعل منها فيلمه الاول "العب ميستي من اجلي" 1971 وتدور القصة حول مقدم برامج اذاعية تغرم به فتاة مجنونة من خلال اتصالها به هاتفياً لتطلب منه اذاعة قطعة معينة، وينتهي بها الامر الى اخذ زوجته كرهينة لتقتلها ان لم يستجب لها وهو فيلم سوف تقتبسه السينما المصرية في ما بعد عبر فيلم لعب فيه نور الشريف دور مقدم برامج تلفزيونية فيما لعبت اسعاد يونس دور المجنونة. كان فيلما صغيراً هادئاً رغم عنفه، لكن اهميته تكمن في كونه اكد الملامح الاساسية للفاشي الصغير المختبئ داخل كل واحد منا، كما اكد على ميل ايستوود للشخصيات التي تحقق قانونها الخاص بنفسها. طبعاً لم ينجح هذا الفيلم كثيراً، لكنه وفر لايستوود فرصة استكمال معداته الاخراجية، حيث ان العقدين التاليين سوف يشهدان تحوله الكبير الى الاخراج، حتى ولو كان واصل التمثيل في افلام الآخرين.
ترى هل كان بإمكان احد ان يقول ان مخرج: "العب ميستي من اجلي" سوف يتربع بعد 22 سنة على عرش الاخراج في هوليوود بفيلم ساحر، عميق، وحزين؟ ذلك الفيلم الاول لم يكن كثير الوعود بالطبع، ولكن كان من الواضح ان ايستوود قد شق طريقه ببطء كعادته ولكن بحزم ايضاً. وكانت طريقه هي دائماً تلك التي تسير عكس التيار. فالحال ان ذاك الذي لم يتورع عن لعب ادوار ثانوية - رغم شهرته - في افلام مثل "حيث تجرؤ النسور" و"ابطال كيلي" و"ادهن عربتك"، كان يعرف انه انما يقبل العمل في كل هذه الافلام، لان كل فيلم تجربة وعالم في حد ذاته: كان يريد ان يختبر الافلام الحربية والافلام الهزلية، فكان له ما اراد. ومن المؤكد ان كلينت ايستوود الذي نعرفه الآن، صنعته وصقلته كل تلك التجارب بعناية… بل وبعناية فائقة. وعلمته خاصة امرين اساسيين:
أولهما، ألا يهتم كثيراً بما يريده الجمهور، فالجمهور في رأيه خامة يمكن لنا ان نكيفها على هوانا.
وثانيهما، الا يستسلم بسرعة امام احكام النقاد. فالنقاد بشر، وهم بحاجة الى زمن حتى تستقر آراؤهم.
من نيكسون الى العدمية
بالنسبة الى الامر الاول، من الواضح ان سير ايستوود دائماً على عكس تيار ما هو مطلوب من قبل الجمهور قد اتى ثماره، وان كان بعض اكبر افلامه عجز دائماً عن تحقيق ما يشجع من ارباح. اما بالنسبة الى الامر الثاني فإن النقاد الذين بدأوا تعاملهم مع كلينت ايستوود بنعته بشتى النعوت: فاشي، معادي للمرأة، مناصر للحرب، عنيف، ضد الشبيبة. سرعان ما راحوا يهدأون قليلاً فقليلاً. والحقيقة ان تطورات مسار ايستوود نفسه قد ساهمت في وصولهم الى هذا الهدوء. بل والى اعتبار ايستوود مخرجاً عن حق وحقيق، يشهد على هذا اهتمام النقد الفرنسي به، والكتاب الذي اصدرته عنه اخيراً مجلة "كراسات السينما". اما في اميركا فإن العرض الاسترجاعي اقامه متحف الفن الحديث في نيويورك لافلامه.
من اجل الوصول الى هذا، كان لا يزال على ايستوود ان يقطع مسافة كبيرة. اذ انه بين فيلمه الاول الذي اخرجه في العام 1971، وفيلمه الاخير "غير المسامح"، بل وصولاً الى فيلميه المقبلين الاول "خط النار" من اخراج وولفغانغ بيترسن، والثاني سوف يبدأ بإخراجه بنفسه هذا الصيف، عرف ايستوود كل انواع النشاط: اخرج ومثل في اكثر من عشرين فيلماً، عدل الكثير من صورته السياسية، انتخب لمدة سنتين 86 - 87 عمدة لمدينة الكرمل التي يقطن فيها في كاليفورنيا، واشترى العديد من المؤسسات وكيف لا وهو الذي تحقق افلامه ارباحاً طائلة؟، اضافة الى اهتمامه بابنته لارسن وابنه كايل، وامعانه في تأمل تجارب حياته ومساره السينمائي.
على الطريقة نفسها التي كان بها مساره السياسي، من يمينية متطرفة تناصر نيكسون، الى نوع من الفوضوية العصامية في مناصرته لروس بيرو، كذلك عرفت مسيرة ايستوود السينمائية خطاً تصاعدياً مماثلاً: ان الاسئلة العبثية التي كان راعي البقر الوحيد الذي لا اسم له يطرحها على نفسه، وحيرة المفتش هاري امام قانون يضبط الامور الى درجة يمنعه فيها من تحقيق العدالة كما يشتهي، اوصلت ايستوود الى اسئلة وجودية حول الشيخوخة والقلق والنجاح في الحياة. وما شخصيات افلامه من "منحرف الهضاب المرتفعة" 1973، الى "غير المسامح" 1992 مروراً بپ"جوزي والز الخارج على القانون" 1976 و"القفاز" 1977، و"فاير فوكس" 1982 ثم "رجل الصراخ المهتز" 1983 و"تأثير مفاجئ" ثم "بيرد" و"صياد ابيض قلب اسود" 1986 ما هذه الافلام كلها، والتي حققها ايستوود بنفسه سوى تأمل حول الخسارة والشيخوخة، وتعبير عن قلق وجودي يعيشه من يشعر بالفشل في قلب النجاح، وبذروة اليأس ماثلة في لحظة الانتصار. بمعنى ان الفن لدى كلينت ايستوود مرتبط بما يمكن ان نسميه التعبير عن تدمير الذات. وحول هذا الموضوع يقول ايستوود: "اصارحكم بأنني لست ادري ما هو الامر الذي يسحرني في هذا الموضوع ويجذبني اليه. انها اشياء غالباً ما نلاقيها في حياتنا العادية من دون ان نفقه حقيقتها وما تعنيه. ثم حين نريد ان نعبر عنها فنياً نجدها تطلع من تلقائها. خذوا شخصية تشارلي باركر مثلاً في فيلم "بيرد" انه شخص خاسر. وخاسر لانه افسد حياته. فالحال ان الخسارة تكون اكبر واكثر مرارة حين يتسبب فيها المرء لنفسه بنفسه عبر حركة تدمير للذات مريعة".
بهذا المعنى افليس ماني في "غير المسامح" وجهاً اخر لتشارلي باركر. وهل ثمة في السينما المعاصرة شخصية آفلة ومثيرة للشفقة مثل ماني، حيث يفشل امام اطفاله في اصابة الهدف بمسدسه خلال التمرين، ثم يسقط عن حصانه متمرغاً في الطين. بل وهاري نفسه هل كان رابحاً او خاسراً في نهاية الامر؟
سواء أاخذ كلينت ايستوود شخصياته من المخيلة، ام من الحياة كما فعل على الاقل في "بيرد" عن موسيقي الجاز تشارلز باركر، وفي "صياد ابيض… قلب اسود" عن المخرج جون هيوستون" فإنه على الدوام، وهو امر لم يتنبه له النقد الجاد الا اخيراً - انما كان يعبر عن مفهوم الخسارة. وفي هذا المعنى وحده يمكننا ان نفهم مشهد المجزرة الاخير في "غير المسامح". فحين يقتل راعي البقر العجوز المقترب من حافة نهايته، الشريف الشرير جين هكمان رغم توسلات هذا الاخير، يمكننا ان نفهم بكل بساطة ان الجلاد القاتل لم يكن اقل خسارة من ضحيته. فنحن جميعاً في نهاية الامر ابناء شرط انساني يحركنا جميعنا خاسرون امام قوة لا ندري لها ماهية او تاريخاً.
من الرجل الذي لا اسم له في ثلاثية سيرجيو ليوني، الى راعي البقر الثمل الذي ينذر بأفول عصر الابطال في "غير المسامح" لم يمثل كلينت ايستوود ولم يخرج في العشرين سنة الاخيرة سوى شخصية وموضوع واحد: شخصية الخاسر. فأنت ان قتلت كل خصومك دون ان يمكنك ذلك من ان يكون لك تاريخ او يعزز من انسانيتك في الثلاثية كما في بقية افلام رعاة البقر، او رميت شارتك الرسمية لانك عجزت عن فهم القانون والبعد الانساني فيه واصررت على ان تعاقب المجرم بنفسك في سلسلة افلام هاري، او قادك نجاحك الى دمارك في "بيرد"، او عجزت الا عن رسم طريق البداية لابنك بعدما فشلت في كل ما فعلت في "رجل الصراخ المهتز"… انت في جميع الاحوال خاسر. ودور السينما هو ان تلعب لعبة المرآة العاكسة لشرطنا الانساني هذا.
تلكم هي النتيجة التي يصل اليها ايستوود في نهاية الامر، النتيجة التي تجعل سينماه واحدة من اكثر السينمات تشاؤماً وسواداً في تاريخ السينما الاميركية.
ولئن كان النقاد ادركوا هذا متأخرين، فبدأوا بإعطاء كلينت ايستوود مكانته اللائقة، فإن الاقبال الجماهيري - وخاصة من قبل الشبان - كان صورة لادراك الجمهور العفوي لهذه الحقائق التي اختبأت خلف سطح سينما بدت قاسية احياناً، داعية للعنف في احيان اخرى، ومعاكسة للتيار على الدوام. وبعد كل شيء هل ثمة للفن من دور غير معاكسة التيار؟
الجواب هو ان كلينت ايستوود حين وقف على المسرح قبل ايام لتسلم اوسكارات فيلمه الاخير "غير المسامح" كان يرسم على شفتيه تلك الابتسامة التي تقول: ألم اقل لكم انني لكي اكون سينمائياً ناجحاً لست بحاجة لان احقق افلاماً تنال رضى ثمانية ملايين من آكلي البوب كورن!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.