شاعرة شعبية، ربما لمحت اسمها مرة أو مرتين تطلّ فوق صفحات الشعر الشعبي، هاتفتني تطلب مشاركتي في تحقيق صحافي أرسلت سؤاله بالفاكس - وأسجله كما ورد بأخطائه الإملائية والنحوية: "ملئ الشعراء الشعبيين الصفحات الشعبية حضوراً، وشغلوا الناس إبداعاً وتجديداً. ولم يستطع شعراء الفصحى أن يشكلوا حضوراً يوازي أو يضاهي مستوى نظرائهم الشعبيين. في رأيكم ما هي الأسباب وراء هذا الانتشار الشعبي وانحصار الفصيح على الساحة المحلية؟". باغتتني النرجسية الطافحة في السؤال، ثم هادنت انفعالي. لِمَ لا؟ لها الحق في ممارسة شيء من النرجسية! مثل كل الآخرين والأخريات على الساحة بغض النظر عن مفردات قصائدهم، شعبية كانت أم فصحى، موزونة "مموسقة"، أم نثرية بلا إيقاع... وسواء كان جمهورهم هذا حقيقياً أم متوهماً. شخصياً، أتذوق بعض المتميّز من الشعر الشعبي، أو النبطي كما يسمّى، وأطرب للإيقاع الموسيقي الواضح فيه. وليس الإيقاع فقط ما يشدني. أحب شعر الهمزاني واتكاءه على البيئة البدوية، وتثيرني غيوم الصور الشاعرية الراقية في شعر الأمير خالد الفيصل، وشلالات التعبيرات المتجددة في قصائد الأمير بدر بن عبدالمحسن. كما اتلذذ بنكهة اللهجات العربية المختلفة خاصة حين أجد من يتطوع ليشرح لي ما لا أستطيع فهمه من مفرداتها المميزة. وقد وجدت كثيراً من القصائد والمقاطع الجميلة في شعر بلهجة مصرية، أو لبنانية... ربما لأنني استطيع في هذه اللهجات - مقارنة بالمغربية، أو السودانية مثلاً - أن أقشر الصعوبة المبدئية في المفردات المختلفة، لأصل إلى المضمون الانساني المشترك، أو الصور الشعرية المتفردة. ولكن هل يصل الأمر أن تحقق القصيدة الشعبية من الانتشار ما لا تحققه قصيدة الفصحى؟ وهل تبرز القصيدة النبطية إذ تختنق النثرية في نفور الجمهور هارباً من الساحة ومتناسياً القصائد الفصحى الموزونة؟ فكرت جدياً في مدى امكانية أن تكون مهاتِفتي على حق. ثم عدت أحلل القضية بمنطق جاد: عن أي جمهور تتحدث؟ هناك نصف مليار عربي يدرسون اللغة الفصحى رسمياً، فهل تقارن كثافة الجمهور الناطق بلهجة شعبية منحصرة في منطقة جغرافية محدودة، بجمهور يتفاهم باللغة الفصحى بين المحيط والخليج، وفي سائر أنحاء العالم؟ لا أظن ذلك. وانما الأمر رهين بمدى ما يرتبط ببعض القصائد المعينة، أو بعض الشعراء من مواقف وظروف خاصة. ان شاعراً منتشراً بالعامية المصرية مثل عبدالرحمن الأبنودي أو أحمد فؤاد نجم، أو العامية اللبنانية مثل سعيد عقل قد يكون حقاً حقق الكثير من الشهرة في محيطه الأقرب. ولكن ما مدى شهرته خارج هذا المحيط؟ وهل تعود تلك الشهرة، في حال وجودها، إلى انتشار شعره، أم الضجة التي أثارها المضمون السياسي في قصائد الأولين، أو خيار اللغة في قصائد الثالث. ويظل لشاعر مثل الشابي أو نزار قبّاني قصب السبق في الانتشار. ولكن مهاتِفتي أثارت في نفسي شجوناً أجزم أنها لم تعِ مداها. بين هؤلاء الذين ينادون بتحطيم أواصر اللغة الفاعلة، هروباً إلى لغة الابعدين بركاكة التعبير المترجم... أو إلى الأقربين فقط في اللغة العامية التي تحاصرنا بنعرة التقوقع في الانتماءات الشديدة الانحصار، واولئك الذين يتبرأون منها هروباً إلى ما أبدعه الآخرون مدعين فيه روعة التجديد... أرى أن لغتنا تقف على مفترق الطريق يتهدّدها فقدان الهوية الأعمق والضياع الحقيقي.