كان ينبغي تفكك الاتحاد السوفياتي واعلان جمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز استقلالها عن موسكو، لكي تتحول مسألة النفط والغاز الطبيعي في كل من اذربيجان وكازاخستان وتركمانستان، الى قضية مهمة في السياسة الخارجية للدول المعنية مباشرة او ذات المصالح، وعلى رأسها روسيا والولايات المتحدة وبريطانيا وايرانوتركيا والشركات النفطية الكبرى. ويشكل النفط عاملاً اساسياً في علاقات روسيا مع الجمهوريات الاخرى التي كانت ضمن الاتحاد السوفياتي. واستخدمت موسكو هذا العامل سلاحاً، أكثر من مرة، للضغط على الجمهوريات المعارضة لتوجهها. من ذلك الحظر النفطي الذي فرضه الرئيس السابق ميخائيل غورباتشوف على دول البلطيق. وكانت خطوط نقل نفط اذربيجان وتركمانستان وكازاخستان، تحت الاشراف المباشر لموسكو. وبعد نيل هذه الجمهوريات استقلالها، ما زالت موسكو تبذل جهوداً حثيثة لبقاء نفوذها على شبكة المواصلات النفطية والغاز الطبيعي. وتتوسل لذلك أساليب شتى منها تحريك الاقليات الروسية، الكبيرة في الواقع، القاطنة في الجمهوريات النفطية، لا سيما في كازاخستان، واثارة الفتن الداخلية في بعضها الآخر، مثل المسألة الابخازية في جورجيا ومشكلة قره باخ بين اذربيجانوأرمينيا وصولاً الى التدخل العسكري المباشر في مناطق استراتيجية مثل الشيشان. وتبدو اذربيجان البلد الاكثر عرضة للضغوط والتطورات الدراماتيكية لأنه الاكثر خروجاً على "الطاعة الروسية" وهو البلد الوحيد، من بين الجمهوريات السوفياتية السابقة، الذي يرفض حتى الآن، مرابطة اي جندي روسي على أراضيه. من هنا كانت محاولات موسكو شرسة وعلنية في محاولة اطاحة القيادة الاذرية السابقة الممثلة بالرئيس أبو الفضل ألتشي بك الذي يعتبر رمزاً ضد الشيوعية والتبعية لموسكو، بغض النظر عن طبيعة السلطة فيها. وكان النفط هو الدافع الاساسي لتحرك روسيا لاطاحة ألتشي بك في حزيران يونيو 1993 واستبداله بالرئيس الحالي حيدر علييف. إذ أن ألتشي بك وقّع مع كونسورسيوم من الشركات الغربية اتفاقاً نفطياً مهماً في 9 آذار مارس 1993 لاستخراج نفط اذربيجان واستثماره لمدة اربعين سنة ومدّ خط الانابيب من باكو عبر ايرانوتركيا لتصديره الى الخارج. ووجدت موسكو نفسها، بين ليلة وضحاها، خارج اتفاق ينعكس سلباً على نفوذها الاقليمي. وكان ان اعلن حيدر علييف، بضغط روسي، عدم التزامه الاتفاق الذي وقّع عليه ألتشي بك. ومع ذلك لم يذهب علييف بعيداً في الانحناء للضغوط الروسية، ونجح في 20 أيلول سبتمبر من العام الماضي في توقيع ما سمي ب "اتفاق القرن" النفطي مع كونسورسيوم يضم تسع شركات غربية، معظمها اميركي، وشركة النفط الروسية لوك اويل وشركة النفط التركية TPAO اضافة الى شركة النفط الوطنية الآذرية سوكار. وينص الاتفاق على انتاج واستثمار النفط في بعض مناطق اذربيجان ولا سيما المحاذية لبحر قزوين، لمدة 30 سنة، على أن ينتج خلال هذه المدة 511 مليون طن يبقى 253 مليون طن منها في اذربيجان. وسيتطلب هذا المشروع استثمارات بقيمة 4،7 مليار دولار. أربعة خيارات ومن جديد عادت مسألة المناطق التي سيمر عبرها انبوب النفط الذي سينقل هذا الانتاج، لتكون محور مساومات ساخنة يتوقف على نتائجها جانب كبير من التوازنات الاقليمية في منطقة القوقاز. كما عاد التنافس الثنائي المزمن بين تركياوروسيا للظهور من جديد. وتحاول روسيا التي نجحت في افشال الاتفاق الاول، الاّ تفلت منها الفرصة مرة ثانية لتضع يدها عبر خط الانابيب، على حنفية نفط اذربيجان. وتواجه الشركات التي يتألف منها الكونسورسيوم النفطي، مجموعة خيارات لمدّ خط انابيب النفط والغاز الطبيعي. وقد عقدت لهذه الغاية اجتماعين، الاول في 21 أيار مايو الماضي في اسطنبول والثاني في 8 حزيران يونيو الماضي في باكو. ويحتمل ان يُعلن الخيار النهائي الذي سيعتمده الكونسورسيوم خلال الاشهر القليلة المقبلة ليباشر العمل به تمهيداً لتسويق ما يسمى ب "الانتاج المبكر" في العام 1996 والذي يقدّر في مراحله الاولى بين 4 و5 ملايين طن سنوياً. أما الخيارات الاربعة المطروحة امام الكونسورسيوم حول خط الانابيب فتتميز بأن واحداً منها فقط يمر عبر الاراضي الروسية فيما الثلاثة الاخرى تمر عبر اراضي تركيا وهي: 1 - خط باكو - نوفوراسيسك: وينطلق من العاصمة الاذربيجانية مروراً بالشيشان وينتهي عند مرفأ نوفوراسيسك الروسي على البحر الاسود. وتؤيد موسكو بقوة هذا الخيار لانه يمر في اراضيها ويشكل عامل ارتباط قوي مع الجمهوريات المستقلة حديثاً، وبالتالي استمرار المكاسب القديمة للاتحاد السوفياتي. ومن ميزة هذا الخط انه موجود بالفعل ولكنه غير مستخدم ويحتاج في مرحلة أولى الى ترميم بقيمة 45 مليون دولار. الى ذلك يتصل هذا الخط بخط انابيب نفط وغاز آخر ينقل انتاج حقول تنغيز في شمال شرقي بحر قزوين. وعلى هذا فإن هذا الخيار يتمتع بحظوظ قوية خصوصاً لجهة المرحلة الاولى من نقل "الانتاج المبكر"، لكن الثغرات التي قد تقلل من فرص اعتماده كثيرة، فهذا الخط يحتاج، ليصبح صالحاً بصورة كاملة للاستخدام، الى مبلغ كبير يقارب 450 مليون دولار، ما يجعل كلفته باهظة. ثم ان ميناء نوفوراسيسك، وهي نقطة الخلاف الاساسية بين روسياوتركيا، لا يتمتع بمواصفات عالمية قادرة على استقبال ناقلات نفط عملاقة ولا يستطيع تلبية احتياجات نقل النفط الروسي نفسه، فكيف له ان ينقل النفط القوقازي. ويواجه خيار نوفوراسيسك مشكلة أخرى هي معارضة تركيا لمرور ناقلات نفط عملاقة عبر مضيقي البوسفور والدردنيل لما تشكله من خطر اكيد على تلوث البيئة واحتمالات حدوث كوارث ناجمة عن ازدياد الاصطدام بين وسائل النقل البحرية. علماً انه يعيش على ضفتي البوسفور فقط حوالي 5،2 مليون نسمة، اضافة الى اخطار التلوث والضجيج على المعالم الاثرية التي تعج بها ضفتا اسطنبول. كذلك لن يكون بحرا مرمرة وايجه اقل تعرضاً لاخطار التلوث من البوسفور. ويرى المسؤولون الاتراك انه اذا كانت روسيا تتذرع بنصوص معاهدة "مونترو" التي وقعت عام 1936، والتي تسمح بحرية المرور عبر المضائق، فإن أحداً آنذاك لم يكن يخطر بباله ان يشهد البوسفور مرور ناقلات نفط عملاقة تصل حمولتها الى 200 و300 الف طن، ويدعون الى تأمين حماية دولية للمضائق. 2 - خط باكو - ايران - جيحان: وينتهي عند ميناء جيحان التركي على البحر الابيض المتوسط وهو الاقل كلفة والاقصر من بين كل الخطوط الاخرى المقترحة ولا يحتاج سوى الى عشرين مليون دولار. وتؤيده شركة "بريتش بتروليوم" وكذلك تركيا. لكن معارضة واشنطن له تجعل حظوظه قليلة الى درجة الانعدام. 3 - خط باكو - أرمينيا - جيحان: وهو مماثل نسبياً لطول الخط السابق. لكنه أكثر كلفة. إلاّ أن الظروف السياسية الراهنة والحرب بين باكو ويريفان تجعل احتمال اختياره ضئيلة. ومع ان واشنطن تضغط لاعتماد هذا الخيار الاّ أنه من المستبعد ان توافق اذربيجان عليه قبل انسحاب القوات الارمنية من الاراضي الاذرية وقبل ايجاد حل لمشكلة قره باخ. وأيضاً لا تنظر انقرة بحرارة الى هذا الخيار. 4 - خط باكو - جورجيا - جيحان: ويصل عبر تبليس عاصمة جورجيا، الى مرفأ باطوم الجورجي على البحر الاسود ومن هناك الى ميناء جيحان عبر الاراضي التركية. وهو غير موجود بالمطلق. وكلفته عالية إذ تصل الى 300 مليون دولار. ومن باطوم ينقل "الانتاج المبكر" عبر صهاريج الى جيحان، في انتظار انشاء خط يصل بين باطوم وجيحان. وتقول معلومات تركية أن واشنطن اعلنت دعمها لهذا الخط. المصالح التركية ان اعتماد اي من الخطوط الثلاثة الاخيرة، التي تنتهي عند ميناء جيحان التركي يعتبر مكسباً كبيراً للمصالح التركية. فهو سيؤمن، اقتصادياً، مدخولاً كبيراً من جراء مرور الخط، وسيلبي احتياجات تركيا النفطية التي تقدر عام 2000 بثلاثين مليون طن من النفط وعشرين مليون طن من الغاز الطبيعي، معفية من اجور النقل. كما سيخلق فرص عمل كبيرة اثناء انشاء الخط ثم تشغيله مع مصفاته النهائية، وسيحول جيحان الى مركز عالمي للبورصة النفطية. اما على الصعيد السياسي فستكون لتركيا كلمة في عالم النفط ويقوى موقعها كدولة اقليمية ويغير بصورة جذرية في سياسة النفط والنفوذ في المنطقة. واذا ما نجحت تركيا في اعادة تشغيل خط انابيب نفط كركوك - يومور طاليق فإنها ستزداد شأنا على شأن. خصوصاً ان "عقدة" تركيا الاولى، انها الدولة الكبيرة الوحيدة في الشرق الاوسط التي لا تتوافر فيها مصادر نفطية مهمة. ولكن يجب الاقرار بأنه من غير الممكن التجاهل التام للمصالح الاقتصادية والسياسية لروسيا في المنطقة. اذ ان ذلك سيدفع موسكو الى سياسات اكثر عدوانية، وأحداث الشيشان رسالة قوية وواضحة في هذا السياق. وتبدو "اللعبة الكبرى" محصورة بين واشنطنوموسكو. فمن خلال احداث ابخازيا وقره باخ والشيشان وطاجكستان والتوترات الدائمة داخل اذربيجان، تبرهن روسيا على قدرتها زعزعة الاستقرار في المنطقة وعرقلة المشاريع التي لا تلحظ جانباً من مصالحها الحيوية في دول "الجوار القريب". والجميع يذكر انه فور توقيع الاتفاق النفطي الاخير في باكو، وعلى رغم وجود شركة لوك اويل الروسية ضمن الكونسورسيوم، سارع الناطق باسم الخارجية الروسية، الى الاعلان عن عدم "اعتراف" موسكو بالاتفاق. وفُسرت هذه المعارضة، كوسيلة ضغط روسية في اتجاه اعتماد خط باكو - نوفوراسيسك لنقل انتاج اذربيجان النفطي. وبالتالي وضع 10 - 15 مليون طن نفط يضخ سنوياً تحت الاشراف الروسي. بل ذهبت روسيا الى أبعد من ذلك عندما المحت الى أنها مستعدة للضغط على أرمينيا لسحب قواتها من اذربيجان في حال تقرر مدّ خط الانابيب الى ميناء نوفوراسيسك. ومع ذلك فإن صورة خط النفط ليست الى هذا الحد، اما سوداء أو بيضاء. فبعض المسؤولين في دائرة القوقاز في الخارجية التركية يشير الى احتمال وجود خطين للنفط الاذري، واحد الى نوفوراسيسك وآخر عبر الاراضي التركية. وفي انتظار حسم مصير الخط الذي سينقل نفط اذربيجان الى العالم، فإن الاشهر القليلة المقبلة ستشهد استمراراً للمناورات والمساومات في عملية قلّ نظيرها لجهة اختلاط الاقتصاد بالسياسة الى هذا الحد في احدى أكثر المناطق سخونة وحساسية في العالم.