من المقرر ان يبت الكونسورتيوم الدولي الذي انشىء قبل حوالي سنتين لاستغلال حقول النفط الاذربيجانية في بحر قزوين، موضوع نقل النفط الخام الى الخارج قبل نهاية العام الحالي. وفي حين تقول ادارة الكونسورتيوم الذي تقوده "بريتش بتروليوم" 13.17 في المئة، و"اموكو" الاميركية ان حسم الموضوع سيستند الى اعتبارات اقتصادية وتجارية بالدرجة الاولى، فإن غالبية المسؤولين في الكونسورتيوم لا يستبعدون ان يكون للاعتبارات السياسية تأثير أساسي، ان لم يكن حاسماً، على ضوء تقاطع المصالح الاقليمية والدولية، وتنازع طرفين أساسيين هما روسياوتركيا اللتان تتواجهان، سواء داخل الكونسورتيوم نفسه من خلال الحصص أو خارجه عن طريقة اقامة شبكة من التحالفات الاقتصادية والسياسية، وحتى الدينية. ويستمد موقف موسكو الداعي الى الاعتماد على موانئ التصدير على بحر قزوين قوته من اعتبارين: الاول اقتصادي ويتمثل بخط الانابيب القائم حالياً لنقل النفط الاذربيجاني الى ميناء نوفور سيسك، ما يعني انتفاء الحاجة الى خطوط انابيب جديدة لا تقل كلفتها عن مليار دولار، اذ لا يحتاج هذا الخط الاّ الى صيانة. ويربط الكثير من المراقبين بين الحملة العسكرية التي شنتها موسكو في جمهورية الشيشان والحاجة الى ضمان امن الخطوط الانابيب لقطع الطريق على أية ذريعة يمكن ان تستغل الوضع في هذه الجمهورية لاختيار بدائل اخرى. اما الاعتبار الثاني الذي تعتمد عليه موسكو فيتمثل في النفوذ الذي ما زالت تملكه في الجمهوريات الاسلامية التي نشأت بعد تفكك الاتحاد السوفياتي السابق، ما دفع الرئيس الاذربيجاني الحالي حيدر علييف الى الضغط على الكونسورتيوم النفطي الذي أنشئ لاستغلال حقول بحر قزوين لاعطاء "لوك اويل" الروسية 10 في المئة، بعدما كان سلفه ابو الفضل التشي بيه استبعد اي وجود روسي. كما يتمثل الاعتبار السياسي في المشاكل القانونية التي يمكن لموسكو ان تثيرها، وتتعلق باعتبار بحر قزوين بحيرة داخلية، ما يعني اعطاء الدول المطلة عليه حق المشاركة في قرار استثمار الثروات الموجودة فيه، ومن بين هذه الدول روسيا وكازاخستان وتركمنستان، وحتى ايران. ومع ذلك فإن انقرة التي تسعى الى الافادة من العائدات التي سيوفرها مرور النفط الاذربيجاني عبر اراضيها لا تفتقر الى عناصر القوة في موقفها، واول هذه العناصر تقديم تركيا نفسها على أنها المسار الاكثر ضماناً لامن الانابيب الساعية الى الوصول الى البحر المتوسط، سواء عبر ارمينيا او عبر جورجيا، وهو ما يفسر الى حد ما الهدنة السياسية التي تحرص عليها انقرة مع يريفان، وان كان المسار الذي يفضله المسؤولون الاتراك هو المسار الذي يعبر جورجيا. الى ذلك، يعتمد الموقف التركي على دعم اميركي غير مباشر لاستبعاد اختيار مسارين مطروحين، الاول عبر الشيشان وصولاً الى البحر الاسود، وهو ما اعلنته وزارة الخارجية الاميركية صراحة، عندما قال احد مسؤوليها نيكولاي بيرنس ان حكومته تفضل المسار عبر ما وراء القوقاز وليس عبر بلد آخر مجاور، في اشارة غير مباشرة الى روسيا والخيار الذي تقدمه عن طريق موانىء البحر الاسود. اما المسار الثاني الذي يضغط الاميركيون لاستبعاده، فهو المسار الذي تعرضه ايران وصولاً الى موانئ التصدير على الخليج العربي. ويشمل العرض الذي تقدمه طهران على استخدام النفط الاذربيجاني محلياً في المناطق القريبة من بحر قزوين، في مقابل ضخ كميات مماثلة من نفطها الى الخارج، وهو ما يوفر من وجهة نظر اقتصادية توفيراً كبيراً لكلفة انشاء خطوط الانابيب كما يوفر ضماناً لامن هذه الخطوط. ولم تتورع انقرة عن استخدام اوراق اخرى في يدها لدعم موقفها ضد موسكو، فقد اصدرت قبل اشهر قراراً يحد من مرور ناقلات النفط عبر مضيقي البوسفور والدردنيل بحجة ان مرور هذه الناقلات سيزيد من مصادر التلوث البيئي للمياه، والاضرار بالحياة البحرية، وهو ما تعترف به جميع التقارير التي اعدت حول مستويات التلوث في مياه هذه المضائق، الاّ أن النتيجة الفعلية هي ان وضع القيود على عبور ناقلات النفط يستهدف في الاساس عرقلة العرض الروسي ضخ النفط الاذربيجاني الى ميناء نوفور سميسك على البحر الاسود، ومنه عبر المضائق التركية الى البحر المتوسط. وفي حين ترد موسكو على الاتهامات الموجهة ضدها في الشيشان باتهامات الى انقرة في شأن ما تسميه الانتهاكات التي يقوم بها الجيش التركي ضد المناطق الكردية والكلام على تعاطف روسي مع الثوار الاكراد، يلجأ الروس الى بديل آخر عن المضائق، وهو ما تمثل في المشروع الذي خرج الى النور في حزيران يونيو الماضي تحت اسم "انابيب النفط عبر البلقان"، ويضم تحت مظلته كلاً من روسيا واليونان وبلغاريا، وهي دول ثلاث لا يجمعها سوى ود غير كثير مع تركيا. ويقوم المشروع الذي تساهم فيه الدول الثلاث على مد خط انابيب انطلاقاً من خزانات النفط في نوفورو سيمسك على البحر الاسود الى بورغاس البلغارية بواسطة الناقلات، ومنها الى ميناء الكسندرو بوليس اليوناني على البحر المتوسط. وفي حين يصل طول الخط الى 320 كلم، فإن كلفته تقدر بحوالي 700 مليون دولار، فيما يحتاج تنفيذه الى 3 سنوات، وترتبط دراسات الجدوى التي انجزت اخيراً بقدرة الخط الحديد ليس فقط على نقل النفط الاذربيجاني في بحر قزوين الى المتوسط عبر مسارات آمنة ومضمونة، وانما ايضاً بقدرته على نقل النفط الذي سينتجه بلدان آخران مطلان على بحر قزوين هما: كازاخستان وتركمنستان، خصوصاً النفط الذي سينتجه حقل تنغيز العملاق. حتى الآن فإن الطابع الظاهر للصراعات في دول الكومنولث الجديد هو انها صراعات قومية واتنية، وحتى مذهبية خرجت الى النور بعد سقوط لاتحاد السوفياتي السابق، الاّ أن الواقع هو ان جزءاً كبيراً من هذه الصراعات قد لا يكون بعيداً عن محاولات السيطرة والنفوذ في المنطقة، سواء من قبل الدول المعنية مباشرة بها، ام من قبل الدول الكبرى التي تسعى الى تكريس حصة كبيرة لها من الثروات المؤكدة، وقد لا تكون "حرب الانابيب" بين تركياوروسياوايران الاّ جزءاً من الحرب الكبيرة للسيطرة على المنطقة وثرواتها، وهو ما ستجعله الاشهر المقبلة اكثر وضوحاً.