الأيام الفاصلة عن مطلع ايلول سبتمبر المقبل ستشهد تنشيطاً للمفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية على توسيع الحكم الذاتي، ذلك ان الجانبين يرغبان في ان يشهد الأسبوع الأول من الشهر المقبل توقيع اتفاق المرحلة الانتقالية للحكم الذاتي في واشنطن، بعدما وقعا الأسبوع الماضي "بياناً مشتركاً" حدد اطار التفاهم بينهما. ولم يخل توقيع هذا البيان، بالأحرف الأولى، من اللغط والالتباس، كما حصل لدى توقيع اتفاقي اوسلو والقاهرة. فبرغم الرغبة الفلسطينية المعلنة في ان يكون الاتفاق الجديد الذي حمل اسم اتفاق طابا، المنتجع المصري حيث أمضى الرئيس ياسر عرفات ووزير الخارجية الاسرائيلي شمعون بيريز خمسة أيام من اجل التوصل اليه، فبرغم هذه الرغبة في ان تكون المبادئ الواردة فيه واضحة ولا تقبل أي التباس أو تأويل، لم يكد حبر التوقيع الذي قام به رئيس الفريق الفلسطيني المفاوض وزير الاقتصاد السيد أحمد قريع ابو علاء ورئيس الفريق الاسرائيلي المدير العام للخارجية أوري سافير يجف حتى تناقض التفسير الذي أعطاه للاتفاق كل من الجانبين. ويعتقد مصدر ديبلوماسي عربي يتابع هذه المفاوضات ان الصعوبة القصوى أمام توصل اسرائيل والسلطة الفلسطينية الى اتفاق واضح في المرحلة الراهنة تكمن في ان حكومة اسحق رابين الذاهبة الى انتخابات اشتراعية في خريف السنة المقبلة تركز على انها لن تقدم أي تنازل ذي صفة حيوية بالنسبة الى اسرائيل في الأراضي المحتلة، في حين ان عرفات الذي كان يأمل في التوصل الى الاتفاق المرحلي قبل عام ونصف العام تزداد عليه الضغوط، الناتجة أساساً عن تآكل الحكم الذاتي في قطاع غزة وأريحا وعن ضرورة الاستجابة السريعة لطلبات توقيع الاتفاق قبل اندلاع المعركة الانتخابية في كل من الولاياتالمتحدة واسرائيل، وهذا ما جعله يندفع الى قبول الصيغة التي خرج فيها "البيان المشترك". ولاحظ المصدر نفسه ان هذه الصيغة تتعارض تعارضاً واضحاً مع التصريحات العلنية التي أدلى بها المسؤولون في السلطة الفلسطينية، قبل ساعات من التوقيع. وأضاف المصدر انه، ربما لهذا السبب عمدت السلطة الفلسطينية في الأيام التي تلت التوقيع الى التخفيف من أهمية البيان أو شددت على ان المفاوضات التي استمرت، خلال الأسبوع الماضي بين فريقي المفاوضين في منتجع ايلات الاسرائيلي مهمتها الوصول الى البنود التفصيلية في اتفاق المرحلة الانتقالية. العموميات والتفاصيل وبحسب الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي، فان هذا الاتفاق الذي يتوقع ان ينتهي اعداده في أواخر الشهر وتوقيعه في الأسبوع الأول من الشهر المقبل، سيكون من حوالى مئتي صفحة في حين ان "البيان المشترك" لم يتجاوز عدد صفحاته الاثنين. ولذلك، كما قالت أوساط فلسطينية، صيغت بنود الاتفاق بطريقة لا تخلو من العمومية. ولفتت هذه الأوساط ان "البيان" حدد نقاط التفاهم ونقاط الخلاف، مشيرة الى ان نقاط التفاهم تحتاج الى توسيع وتحديد في حين ان نقاط الخلاف تحتاج الى مفاوضات كاملة. وأكدت ان عمل المفاوضين في الأسبوعين المقبلين سينصب على المهمتين معاً، عبر اللجان المتعددة المشاركة في محادثات ايلات. وأعادت الأوساط نفسها الى الأذهان ان في النقاط السبع الواردة في البيان اعادة انتشار الجيش الاسرائيلي في المنطقتين ب وج، وضع مدينة الخليل، المعتقلون الفلسطينيون في السجون الاسرائيلية، عائدات الضرائب، القضايا الاقتصادية والموارد المائية والتنسيق السياسي والميثاق الوطني الفلسطيني، اشارات كثيرة الى العودة الى التفاوض في شأن تفاصيل محددة، ان لم يكن في شأن النقطة برمتها مثل الخليل والقضايا الاقتصادية والموارد المائية. ولذلك وصف عرفات اتفاق طابا بأنه مرحلة مهمة، فيما قال عنه بيريز انه لا يمكن التقدم من دونه في اتجاه المرحلة الانتقالية. لكن أهمية هذا الجانب لا تلغي، في نظر المراقبين، ما جرى الاتفاق عليه بالنسبة الى قضية الأمن والسيادة في الضفة، والذي ورد في بند اعادة انتشار الجيش الاسرائيلي. فمعلوم ان هذه الوثيقة قسمت الضفة الى منطقة ب تضم المناطق السكنية الفلسطينية، ومنطقة ج تشمل المستوطنات اليهودية والأراضي الأميرية. وتتولى الشرطة الفلسطينية مسؤولية "النظام العام للفلسطينيين" في مراكز محددة في المنطقة ب، وتقوم لاحقاً بدوريات على الطرق التي يسلكها الفلسطينيون فقط في هذه المنطقة، فيما تتولى اسرائيل "المسؤولية الأعلى تجاه الأمن بهدف حماية الاسرائيليين المستوطنين ومواجهة تهديد الارهاب" في المنطقة ب، فيما تنقل "السلطات والمسؤوليات المدنية الى "الولاية" الفلسطينية بعد اعادة الانتشار في المنطقة ج. وهذا يعني، كما أكد بيريز في معرض دفاعه عن الاتفاق "ان الجزء الأكبر من الضفة سيظل تحت السيطرة" الاسرائيلية، في حين تقدر السلطات الاسرائيلية مساحة المنطقة ج بثلث الضفة والتي ستكون للفلسطينيين فيها "مسؤوليات مدنية" فقط. الى ذلك استطاع بيريز ان ينتزع من عرفات، في مفاوضات طابا، وعلى نحو يتعارض مع الموقف الفلسطيني المعلن، ان تكون الفترة الفاصلة بين كل مرحلة من مراحل اعادة الانتشار الثلاث ستة أشهر بدل ثلاثة، أي ما يحول دون اعادة الانتشار قبل تموز يوليو 1997، وبما يتجاوز أيار مايو 1996 الموعد المحدد في اتفاق المبادئ لبدء مفاوضات الوضع النهائي للأراضي المحتلة. في انتظار ذلك، يتمسك الاسرائيليون، من اجل ضمان أمن المستوطنات اليهودية بعد اعادة الانتشار، بضرورة بناء طرقات دائرية حول المدن الفلسطينية الكبيرة ليتمكن المستوطنون من سلوكها بعيداً عن سلطة الشرطة الفلسطينية، وليتمكن الجيش الاسرائيلي من التدخل لدى تعرض المستوطنين لپ"عمل ارهابي". واذا أضيف الى ذلك تمسك الاسرائيليين بالسيطرة سيطرة كاملة على "الحدود الخارجية لاسرائيل"، أي بشكل أساسي نقاط حدود الضفة مع الأردنوغزة مع مصر، تكون الدولة العبرية سيطرت عملياً على كل الجوانب الأمنية داخل منطقة الحكم الذاتي، عبر اللجان المشتركة في المنطقة ب وعبر قواتها المباشرة في المنطقة ج وعلى امتداد الحدود مع الأردن ومصر. عقدة الخليل واذا اغفلت الاشارة - في البيان المشترك - الى ست مدن أساسية في الضفة رام الله، بيت لحم، نابلس، جنين، طولكرم، قلقيلية وان كانت اعادة الانتشار ستشملها على نحو أو آخر في احدى المراحل، فإن الخلاف بقي ملتهباً حول مدينة الخليل حيث تعيش 47 عائلة من المستوطنين في وسطها في حماية نحو 1500 جندي اسرائيلي. ويقترح الفلسطينيون ترحيل هذه العائلات الى مستوطنة "كريات أربع" المجاورة، أو ايكال أمنها للشرطة الفلسطينية. لكن اسرائيل ترفض أي تعديل في الوضع الراهن. ويعتقد ان اسرائيل لن تقبل أي صيغة للعمل ما لم تضمن بقاء المستوطنين في المدينة وتولي جيشها مباشرة حمايتهم. وهي بذلك تقدم قضية الخليل على أنها أبعد بكثير من كونها مجرد مسألة أمنية، وتطرحها كقضية تتعلق بحق "الاستيطان الديني لليهود" بعد قرار وزير الدفاع موشي دايان لدى احتلال الضفة في 1967 بالسماح لليهود للصلاة في الحرم الابراهيمي والاستيطان في الخليل. ولن توافق حكومة رابين الآن على المساس بهذا القرار، خصوصاً في ظل الدعوات الاسرائيلية الحالية، وأهمها دعوة وزير الأديان في حكومته شمعون شتريت الى تعميم تجربة صلاة اليهود في الحرم الابراهيمي الى المسجد الأقصى. وربط المراقبون بين قرار المحكمة العليا الاسرائيلية السماح لليهود زيارة حرم المسجد الأقصى والصلاة فيه لمناسبة ذكرى تدمير هيكل سليمان للمرة الأولى، وبين وضع المستوطنين في الخليل. ففي ذروة المفاوضات الماراثونية بين عرفات وبيريز في طابا أغلقت السلطات الاسرائيلية الحرم القدسي بذريعة أعمال عنف قد تنشب بين العرب واليهود الراغبين في زيارة الحرم. وفيما دعا وزير الأديان الاسرائيلي نفسه الى تطبيق الاجراءات المعتمدة للصلاة في الخليل على الصلاة في القدس أي تخصيص أوقات صلاة للمسلمين واخرى لليهود، أغلقت السلطات الاسرائيلية الحرم الابراهيمي خمسة أيام من اجل "مراجعة الاجراءات الأمنية". كل ذلك يعني ان ثمة اتجاهاً اسرائيلياً الى استثناء الخليل من اجراءات اعادة الانتشار. وأكثر من ذلك ربما، قد يكون الاتجاه الى معاملة المسجد الأقصى، مع ما يعنيه ذلك دينياً وسياسياً، معاملة الحرم الابراهيمي، خصوصاً في ظل استمرار التأكيد الاسرائيلي ان القدس الموحدة ستظل تحت السيادة الاسرائيلية، علماً ان المدينة المقدسة ستكون بين القضايا الخاضعة للمفاوضات على الوضع النهائي للأراضي المحتلة، بحسب اعلان المبادئ. التيار الاسلامي أما قضايا الاقتصاد والموارد المائية والتنسيق السياسي، فأحيلت الى لجنة مشتركة فلسطينية - اسرائيلية - أميركية لايجاد حلول لها، فيما لا يزال الخلاف مستمراً على المرحلة الثالثة من اطلاق المعتقلين الفلسطينيين في السجون الاسرائيلية نحو 6500، بعدما تقرر اطلاق دفعة أولى منهم لدى التوقيع على اتفاق المرحلة الانتقالية ودفعة ثانية قبل انتخابات الحكم الذاتي. واذا كان الجانبان لم يتوصلا بعد الى الاتفاق على العدد الذي سيفرج عنه في كل من هذه المراحل، فان اسرائيل تتمسك بعدم اطلاق الذين "قتلوا يهودا"، أي المتهمين بعمليات ضد الاسرائيليين والذين ينتمون في معظمهم الى التيار الاسلامي. ويزيد هذا الموقف الاسرائيلي من احراج السلطة الفلسطينية في تعاملها مع هذا التيار الرافض للعملية السلمية والذي أكد رفضه لاتفاق طابا، متعهداً مواصلة الجهاد ضد اسرائيل. ويعتقد ان الاجراءات التي اتخذتها السلطة الفلسطينية ضد قيادات حركتي المقاومة الاسلامية "حماس" و"الجهاد الاسلامي" في غزة واعضائهما حدت كثيراً من قدرة التيار الاسلامي على منع التوصل الى اتفاق توسيع الحكم الذاتي. لكن طبيعة الاتفاق والشعور بأن السلطة الفلسطينية قدمت تنازلات لاسرائيل، خصوصاً في الجانب الأمني، سيزيد من قوة المعارضين له وفي مقدمهم التيار الاسلامي. عرفات سعى، عبر اجتماع اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير في تونس الأسبوع الماضي، الى كسب تغطية المرجعية الفلسطينية، كما نال رابين التغطية من 17 من أصل أعضاء حكومته العشرين. لكن، بحسب المعارضة الفلسطينية، لم تعد اللجنة التنفيذية بعد خروج المعترضين على اتفاق أوسلو منها، المرجعية الأساسية في هذه المسألة التي تتناول مستقبل الشعب الفلسطيني ومصيره من جهة، والتي تؤثر مباشرة في المسار التفاوضي السوري - الاسرائيلي المتعثر أصلاً.