يبدو أن تحولاً جذرياً بالغ الأهمية طرأ أخيراً على السياسة الاسرائيلية الخاصة بالمسار اللبناني من عملية السلام، وبنظرتها الى مستقبل الوضع السياسي والأمني في لبنان عموماً. اذ نقلت أوساط ديبلوماسية أميركية وعربية على علاقة وثيقة بمسار المفاوضات السورية - الاسرائيلية ما وصفته ب "معلومات أكيدة"، نسبتها الى مصادر حكومية اسرائيلية، مفادها ان الدولة العبرية لم تعد تربط بين استمرار احتلال قواتها الشريط الحدودي في جنوبلبنان من جهة وبقاء القوات السورية في هذا البلد من جهة أخرى، وأنها لم تعد تشترط بالتالي انسحاب القوات السورية أو اعادة انتشارها، حسبما تنص عليه بنود اتفاق الطائف، مقدمة لسحب جيشها من الجنوب في اطار معاهدة سلام بين البلدين. وأضافت الأوساط الديبلوماسية نقلاً عن المصادر الاسرائيلية نفسها ان رئيس الحكومة اسحق رابين ووزير خارجيته شمعون بيريز، أبلغا وزير الخارجية الأميركي وارن كريستوفر خلال جولته الأخيرة على المنطقة "ان اسرائيل لن تجعل من مسألة بقاء القوات السورية في لبنان عائقاً أمام التوصل الى تسوية شاملة معها". وأضافت ان بيريز قال لنظيره الأميركي: "عندما يتم الاتفاق مع سورية على الجوانب الأساسية المتعلقة بالأمن والسلام والعلاقات المستقبلية، لن يعود وجود قواتها أو نفوذها في لبنان أمراً يعنينا. فهذا الأمر - أولاً وأخيراً - شأن لبناني. وإذا كانت سورية الطرف المؤهل والقادر على ضمان الأمن والسلام الاسرائيليين على الحدود مع لبنان، فليكن ذلك جزءاً من السلام الشامل الذي نرغب في التوصل اليه مع دمشق ومع بيروت من خلالها". وفي المعلومات التي حصلت عليها "الوسط" في هذا السياق ان هذا التحول في الموقف الاسرائيلي من لبنان، ومستقبل الوجود السوري فيه، يعتبر "نتيجة مباشرة لنجاح واشنطن في اقناع الحكومة الاسرائيلية بهذه النظرة الجديدة، وبما يمكن أن تساهم فيه على صعيد تسهيل عملية التفاوض الأمني مع دمشق". كما انه يعكس الى حد بعيد "مدى الاهتمام الاسرائيلي بالتوصل الى تسوية مع سورية، حتى وان كان ذلك على حساب مصالح حيوية، كانت تشكل حتى الماضي القريب أسساً تقليدية لطريقة التعامل الاسرائيلية مع الوضع اللبناني". الدوافع الاسرائيلية وفي المعلومات أيضاً ان هذا التحول أثار جدلاً حاداً في صفوف المؤسستين السياسية والعسكرية في اسرائيل، بين من تصفهم الدوائر الديبلوماسية الأميركية والعربية بدعاة "الخيار اللبناني" الذين ينادون بضرورة "احتفاظ اسرائيل بنفوذ خاص بها في لبنان، تمليه مصالحها الحيوية هناك أمنياً وسياسياً واقتصادياً" من جهة، وبين أولئك الذين ينظرون الى الوضع اللبناني من "منظور استراتيجي متجرد لا يعني لهم أكثر من كون الحدود اللبنانية مجرد امتداد لحدود اسرائيل مع سورية" من جهة ثانية. ويصنّف في عداد الفئة الأولى أشخاص كثيرون منهم أوري لوبراني رئيس الوفد الاسرائيلي المفاوض مع لبنان وهو يحمل في الوقت نفسه صفة منسق الأنشطة الاسرائيلية في لبنان، والمسؤول الأول عن الملف الشيعي والايراني في المؤسسة الاسرائيلية الحاكمة، ومعه عدد من المسؤولين عن الملفات اللبنانية والعربية والاسلامية في وزارتي الخارجية والدفاع، وفي هيئة أركان الجيش. بينما تضم الفئة الثانية أشخاصاً منهم موردخاي غور نائب وزير الدفاع الذي سبق أن كان رئيساً للأركان في السبعينات، اضافة الى كل من رابين وبيريز ورئيسي الأركان الحالي الجنرال آمنون شاحاك، وسلفه الجنرال إيهود باراك الذي ترشحه أوساط عدة في الوقت الحاضر لخلافة رابين في زعامة حزب العمل ورئاسة الحكومة، في حال احتفاظ الحزب بها مستقبلاً. والثابت ان وصول أركان الحكم في اسرائيل الى هذا الاقتناع الجديد حيال لبنان، ومستقبل الوجود السوري فيه، أملته اعتبارات عدة أوردتها مصادر ل "الوسط" على الشكل الآتي: - خيبة الأمل الشديدة التي تشعر بها اسرائيل من تجاربها السياسية والعسكرية السابقة في لبنان، والتي بات هناك اجماع رسمي على اعتبارها "فاشلة ونابعة من أخطاء فادحة، وأدّت الى كوارث". وتندرج في هذا الاطار خصوصاً المحاولات التي هدفت اسرائيل من خلالها، في السبعينات والثمانينات، الى اقامة شبكة من التحالفات مع قوى حزبية لبنانية، وباءت جميعها بالفشل - من وجهة النظر الاسرائيلية - خصوصاً على صعيد تحقيق الغاية الأساسية منها، وهي الوقوف في وجه النفوذ السوري في لبنان، والحد منه. - اقتناع واسع في أوساط المؤسستين السياسية والعسكرية الاسرائيلية بانه "لم تعد هناك فائدة تجنيها من الدخول طرفاً في تعقيدات السياسة الداخلية اللبنانية، وتشعباتها الحزبية والطائفية والاقليمية"، واقتصار المصلحة في لبنان بالتالي على "البعد الأمني من دون غيره". - الاقرار الاسرائيلي منذ مدة غير قصيرة بأن "سورية هي القوة الأساسية المؤثرة سياسياً وعسكرياً في لبنان". وان كان مثل هذا الاقرار ظل ضمنياً الى حد كبير حتى الماضي القريب، فإن من شأن التحول الجديد أن يكرسه، ويدفع به الى العلن، باعتباره أصبح الآن "سياسة رسمية متبعة من جانب اسرائيل حيال الوضع اللبناني والدور السوري فيه". - فقدان الأمل من جانب اسرائيل، ومعها الولاياتالمتحدة، في إمكان ادخال أي تعديل على مواقف الحكومة اللبنانية، وطريقة تعاملها مع عملية السلام، ومسار المفاوضات الثنائية. وقالت المصادر ل "الوسط" في هذا المجال ان واشنطن لعبت دوراً مؤثراً في دفع الحكومة الاسرائيلية الى "التخلي عن أي محاولة للفصل بين المسارين السوري واللبناني"، على اعتبار ان ذلك سيكون "عقيماً"، وسيؤدي الى نتائج عكسية، من حيث إثارة حفيظة دمشق، وادخال تعقيدات غير مرغوب فيها "في التسوية المرجوة مع سورية". واستبعد الديبلوماسيون العرب والأميركيون الذين تابعوا تطور الموقف الاسرائيلي من مسار التسوية مع سورية ولبنان أن يتمكن دعاة "الخيار اللبناني" - داخل المؤسسة الاسرائيلية - من ادخال تغيير فعلي على التوجه الحالي لكل من رابين وبيريز، انطلاقاً من أن ذلك التوجه أصبح بمثابة "قرار استراتيجي يعطي الأولوية القصوى للتوصل الى تسوية شاملة مع سورية، من دون السماح للاعتبارات الجزئية المتعلقة بلبنان والقضايا الأخرى بأن تشكل عوائق في وجه ذلك الهدف". وأضافوا ان الآمال التي كان بعض الأطراف اللبنانية والعربية والدولية - ولا سيما منها الأوروبية - لا يزال يعلقها على احتمال أن تكون التسوية السورية - الاسرائيلية مدخلاً لانهاء الوجود العسكري السوري في لبنان "لم تعد في محلها، بل ان عكس ذلك بات صحيحاً، اذ لن يكون مستبعداً ان تؤدي تلك التسوية، في صورة غير مباشرة، الى تكريس ذلك الوجود، وتحويله ترتيباً دائماً ومعترفاً به اسرائيلياً وأميركياً، على أساس انه جزء من السلام السوري - الاسرائيلي، ومن الترتيبات الأمنية الملحقة به". نهج جديد واعتبرت المصادر ان الأحداث العسكرية التي شهدها الجنوباللبناني، والمناطق الاسرائيلية الشمالية المحاذية للحدود، خلال الفترة الأخيرة، وما تبعها من تصريحات لرابين عن وضع "جيش لبنانالجنوبي" الموالي لاسرائيل تأتي جميعها لتصب في هذا السياق. إذ ان اسرائيل أصبحت الآن على استعداد للتخلي عن هذا "الجيش"، في مقابل "ضمانات شخصية" تعطى لقائده اللواء المتقاعد أنطوان لحد وأركانه بعدم ملاحقتهم قضائياً من قبل السلطات اللبنانية، وربما تسهيل لجوئهم الى اسرائيل، أو هجرتهم الى دول أخرى خارج لبنان والمنطقة. أما بالنسبة الى "حزب الله"، وغيره من أطراف المقاومة اللبنانية التي تقاتل ضد الاحتلال الاسرائيلي فإن مسؤولية "ضبطها ووقف عملياتها العسكرية ضد اسرائيل ستصبح عندئذ على عاتق دمشق، بموجب الترتيبات الأمنية المتبادلة". وهناك حالياً ما يكفي من المؤشرات للدلالة على أن الأوضاع تسير فعلاً في هذا الاتجاه. إذ كان واضحاً ان اسرائيل فضلت التزام قدر لا يستهان به من ضبط النفس، في الرد على العمليات التي تعرضت لها قواتها على يد "حزب الله" داخل الشريط الحدودي المحتل، والتي أسفرت عن خسائر في صفوف جنودها، كانت الأقسى منذ فترة طويلة. وانطبق ذلك أيضاً على الطريقة التي تعاملت بها مع قصف المناطق الحدودية في الجليل بصواريخ "الكاتيوشا". فعلى خلاف المناسبات المماثلة السابقة من التي كانت تؤدي عادة الى رد فعل عسكري اسرائيلي واسع النطاق، اقتصر التحرك الاسرائيلي هذه المرة على ما وصفه مراقبون ب "رد تقليدي"، لم يتجاوز القيام بقصف مدفعي مضاد محدود، وشن غارات جوية كانت أشبه بالرمزية منها بالجدية. وفي موازاة ذلك، كررت الدوائر الاسرائيلية الرسمية في شكل ملفت القول، تعليقاً على ذلك التصعيد العسكري، انها لن تسمح له بالتأثير سلباً على مسار المفاوضات مع سورية، وانها تعتبر دمشق الطرف القادر على ضبط الأوضاع في المنطقة، وصولاً الى اعلان رابين شخصياً وضع "جيش لبنانالجنوبي" تحت السيطرة العسكرية الاسرائيلية المباشرة، وتوجيه الانتقاد اليه والى ممارساته المناوئة للمصالح الاسرائيلية، وذلك في رسالة سياسية واضحة في شأن وضع هذا الجيش والاقتراحات المتعلقة بمصيره. وقالت المصادر ل "الوسط" ان النهج الذي ستعتمده حكومة رابين في التعامل مع المسار اللبناني، خلال المرحلة المقبلة من المفاوضات، والذي يحظى بموافقة الولاياتالمتحدة ومباركتها، سيقوم من الآن فصاعداً على الأسس الآتية: - تكرار الاعلان ان "ليست لاسرائيل مطامع في أراضي لبنان أو مياهه"، وأنها على استعداد للانسحاب من الشريط الحدودي المحتل "حال توافر الضمانات السياسية والأمنية" اللازمة لحدودها الشمالية. - اعتبار الحكومة اللبنانية الحالية "غير مستعدة للدخول في أي مفاوضات جدية مع اسرائيل"، سواء على المستوى الأمني والعسكري المباشر، أو في ما يختص بالقضايا السياسية الأوسع: كمستقبل العلاقات والتطبيع بن البلدين، والاقتصار بالتالي على "التحدث مع تلك الحكومة في العموميات والمبادئ، من دون الخوض في أي نقاش عقيم معها في تفاصيل الترتيبات الأمنية، أو السياسية الأساسية". - الانطلاق من مبدأ ان المسار اللبناني - الاسرائيلي "هو في الدرجة الأولى مسار أمني" يختلف عن غيره من مسارات التفاوض، والتعامل معه على هذا الأساس، ومن مبدأ كونه مجرد "ملحق أمني بالمسار السوري - الاسرائيلي الأشمل بأبعاده السياسية والاستراتيجية". - الاعتراف رسمياً بأن سورية هي الطرف المؤهل لتوفير الضمانات الأمنية والسياسية المطلوبة لتحقيق الاستقرار على الحدود اللبنانية - الاسرائيلية، والعمل بالتالي على "تكريس مسؤولية دمشق عن الأمن والاستقرار داخل لبنان وعلى حدوده مع اسرائيل، واعتبار ذلك امتداداً طبيعياً ومنطقياً للترتيبات الأمنية التي سيتم التوصل اليها على الجبهة السورية - الاسرائيلية". -اعتبار حزب الله والمقاومة في الجنوب "مسألة لبنانية - سورية لا علاقة لاسرائيل بها الا بمقدار ما تمس أمنها وحدودها الشمالية مع لبنان". واستطراداً، اعتبار "حزب الله" "امتداداً سياسياً وأمنياً للوجود السوري في لبنان، وللتحالف الاستراتيجي القائم بين دمشق وايران في المنطقة"، ما يجعل وقف عملياته ضد اسرائيل مسؤولية سورية نابعة من مقتضيات السلام الذي سيتم التوصل اليه. - النظر الى مسألة الوجود السوري العسكري والسياسي في لبنان باعتبارها "شأناً لبنانياً - سورياً"، والقبول بفكرة بقاء القوات السورية على الأراضي اللبنانية خلال مرحلة ما بعد التسوية بما يساهم في "ضبط الوضع في لبنان، ويضمن التقيد بتنفيذ الاطار الأمني" للترتيبات التي سيتم التوصل اليها على حدوده مع اسرائيل. - القبول بأن سورية هي "القوة المؤثرة وصاحبة النفوذ الرئيسي في لبنان"، حتى إذا أدى ذلك الى تكريس الارتباط السياسي والعسكري والاقتصادي المباشر بين بيروتودمشق، واعطائه صفة الديمومة المعترف بها شرعياً واقليمياً ودولياً. سورية الضامنة وأوردت مصادر ديبلوماسية أميركية وعربية، في معرض تأكيدها هذا النهج الاسرائيلي، وقائع نقاش دار في جلسات المحادثات التي شارك فيها وزير الخارجية الأميركي كريستوفر خلال جولته الأخيرة، ومنسّق المفاوضات الأميركي دنيس روس مع المسؤولين الاسرائيليين، وكان في مقدمهم رابين وبيريز اذ تساءل الجانب الأميركي هل سيكون ممكناً تحميل سورية مسؤولية الأمن في لبنان إذا لم تكن قواتها موجودة فيه. وأنه سيكون في مقدور السوريين الرد على ذلك، ببساطة، انهم ليسوا موجودين في لبنان، وليسوا مسؤولين بالتالي عن الأحداث التي قد تجري فيه، أو انطلاقاً من أراضيه وحدوده. وكان رد الجانب الاسرائيلي بسيطاً، اذ اقتصر على تأكيد "الأولوية الاسرائيلية لضرورة حفظ الأمن على الحدود الشمالية بغض النظر عن هوية من يتولى هذه المهمة". وأضافت المصادر ان وزير الخارجية الاسرائيلي ذهب الى أبعد من ذلك حين قال: "ليست مهمة اسرائيل اقناع الحكومة اللبنانية بالتفاوض عن لبنان. وإذا كان اللبنانيون يفضلون ان تقوم سورية بهذه المهمة نيابة عنهم لتأكيد وحدة المسارين السوري واللبناني في المفاوضات، فلا مانع لدى اسرائيل على الاطلاق من أن تكون سورية الطرف الضامن للتسوية مع لبنان، وأن يتولى الجيش السوري هذه المهمة. أما مستقبل العلاقة اللبنانية - السورية فهذا شأن لبناني لا علاقة لاسرائيل به". ويبدو في حكم المؤكد الآن ان ملف الحدود اللبنانية - الاسرائيلية سيكون أحد الملفات التي سيتم التباحث فيها بالتفصيل في المفاوضات الأمنية التي بدأت في واشنطن قبل أيام، بين رئيس الأركان السوري العماد حكمت الشهابي، ونظيره الاسرائيلي الجنرال آمنون شاحاك، وكذلك المفاوضات اللاحقة التي ستجرى على مستوى الخبراء العسكريين بين الجانبين خلال الأسابيع المقبلة. ولن يكون مستبعداً ان يتضمن الاتفاق على أي ترتيبات أمنية متبادلة تنجح هذه المفاوضات في التوصل اليها بنوداً محددة تتعلق بالجنوباللبناني، ومستقبل كل من "حزب الله" و"جيش لبنانالجنوبي"، تمهيداً لوضع تلك المنطقة في اطار التسوية الأشمل بين سورية واسرائيل، وتكريس الدور المتميز الذي ستحتفظ به دمشق في لبنان في مرحلة ما بعد التسوية.