من بين جوانب المصالحة الاسرائيلية - الفلسطينية هناك جانب مثير للاهتمام يظهر واضحاً في الاتفاق الخاص بتنفيذ المرحلة المقبلة من اعادة الانتشار الاسرائيلية في الضفة الغربية، وهو ان الاحتلال الاسرائيلي العدواني للضفة أصبح على وشك الانتهاء. اذ ان الديبلوماسية بدأت ترسي نمطاً استثنائياً من التعاون بين الاسرائيليين والفلسطينيين. واذا نظرنا الى هذا التطور من خلال تاريخ المواجهة والعنف بين الجانبين فانه لا بد من ان يمثل تقدماً حقىقياً. فمنذ قرابة ثلاثين عاماً والحكم الاسرائيلي لأكثر من مليوني فلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة حكم عدواني. اذ ان الفلسطينيين يعتبرون آلاف الجنود الاسرائيليين الذين يحرسون حواجز الطرق ويجوبون شوارع مدنهم وقراهم أعداءً يحتلون بلادهم ويحكمونهم قسراً. كما انهم يعتبرون عشرات الآلاف من المستوطنين اليهود الذين يعيشون على الأراضي التي سرقوها منهم متطفلين حالوا دون التوسع الطبيعي لمدنهم وقراهم، كما ان وجودهم أصلاً لم يكن ممكناً لولا قوة الجيش الاسرائيلي والحماية التي أمنها لهم. وكذلك ان المجتمع الدولي حدّد وجود اسرائيل في الأراضي المحتلة بأنه موقت، وانتقد بشدة هذا الوجود تبعاً للمعايير الموضوعية للسلوك الدولي في الأممالمتحدة وفي غيرها من الدوائر. لكن الاتفاق الذي سيوقعه الرئيس ياسر عرفات سيحول جيش الاحتلال الاسرائيلي الى ما يصفه أحد المعلقين الاسرائيليين بپ"جيش ضيف" لا يعمل في الأراضي لأنه احتلها عسكرياً فحسب، بل بتفويض من السلطة الفلسطينية. ولا شك في ان هذا يمثل انجازاً هائلاً لحزب العمل الاسرائيلي الذي كثيراً ما سعى الى ايجاد شركاء فلسطينيين لنظام في الضفة الغربية يزيح عن كاهل اسرائيل أعباء ادارة حياة الفلسطينيين ويضمن لها في الوقت نفسه سيطرتها العسكرية وممارساتها الاستيطانية الاستعمارية. احتلال بموافقة فلسطينية لكن الجيش الاسرائيلي خلافاً لپ"الضيف" الحقيقي، لا ينوي الانسحاب من الضفة الغربية. ولهذا فان الاتفاق سيكون بمثابة بداية تحويل الحكم الاسرائيلي "المعادي" للفلسطينيين الى احتلال يعمل بموافقة فلسطينية. وسيثبت هذا الاتفاق أيضاً ان عرفات لم يستطع بعد قرابة عام كامل من المفاوضات ان يقنع اسحق رابين باجراء أي تعديل على عرضه الأصلي المؤلف من شقين: اعادة انتشار جزئية غير كاملة تعطي للسلطة الفلسطينية كما يقول المفاوض الاسرائيلي يوئيل سينغر مجرد السيطرة على نسبة ثلاثة في المئة من مساحة الضفة الغربية، مع وعود غير أكيدة بتوسيع تلك النسبة مقرونة بممارسة سيطرة أكبر على شؤون الحياة اليومية للفلسطينيين في الأراضي المحتلة. وهذا في الواقع ليس سوى شكل مختلف للصيغة التي كان عرضها مناحيم بيغن في كامب ديفيد، وهي صيغة يصفها بعضهم ساخراً بأنها "حكم ذاتي للناس ولكن ليس للأرض". وفي النصف الثاني من حزيران يونيو حدّد كل من عرفات ورابين أفضلياته للاتفاق الخاص بالضفة الغربية. اذ أصر عرفات في خطبة الجمعة التي ألقاها بعد الصلاة في مسجد الكتيبة في غزة على ان قطاع غزةوالضفة الغربية يشكلان كياناً سياسياً واحداً، كما تذمر وقال ان خطط اسرائيل لاقامة "كانتونات" من السلطة الفلسطينية غير مقبولة. أما رابين فأعلن انه يفضل التوصل الى اتفاق على اعادة انتشار قوات الجيش من أربع مدن فقط وهي جنين ونابلس وقلقيلية وطولكرم، وإرجاء البحث في أي اعادة انتشار من رام الله وبيت لحم الى ما بعد الانتخابات الفلسطينية التي ستجري قبل نهاية العام. واستثنى مدينة الخليل حيث يوجد أربعمئة مستوطن في مواجهة سافرة مع سكان المدينة. وهكذا فان الاتفاق الذي يأخذ شكله النهائي الآن لا يعكس أي تفضيل مع انه يتفق مع رؤية رابين أكثر منه مع رؤية عرفات. اذ ان الزعيم الفلسطيني أخفق في الحصول على اعادة انتشار القوات الاسرائيلية من المراكز السكانية الفلسطينية كما نص على ذلك اتفاق أوسلو. ولن يكون هناك أي "استمرار جغرافي" بين "الجزر" الخاضعة للسيطرة الفلسطينية التي ستنشأ نتيجة الاتفاق الجديد. كذلك لم يستطع اجبار اسرائيل على الموافقة على موقفه "الاحتياطي"، أي تحديد جدول زمني ثابت لاعادة الانتشار من المدن الأخرى غير الأربع التي عرض رابين الانسحاب منها بحلول نهاية العام. ولم توافق اسرائيل على اطلاق جميع المعتقلين الفلسطينيين من سجونها وعددهم حوالى خمسة آلاف وخمسمئة. فبدلاً من ذلك أذعن عرفات لإطار يقضي بتوسيع سلطته لكنه يخضع لشروط صارمة ترتبط بأداء السلطة الفلسطينية خصوصاً قدرتها على منع أي هجمات على اسرائيل أو المستوطنات الاسرائيلية. وهكذا فان الشيء الوحيد الأكيد هو انه سيتولى الاشراف الفعلي على المدن الأربع ضمن حدودها البلدية. وكما قال المفاوض الاسرائيلي يوري سافير: "ان الأمر المهم بالنسبة الينا هو ان تكون عملية نقل الأمن على مراحل عملية بطيئة جداً. لكن الفلسطينيين كانوا يريدون الاسراع في العملية". ولم ينجح رابين كلياً في تأجيل النظر في اعادة الانتشار من المدن الأخرى غير الأربع التي عرضها. اذ يبدو انه وافق على اعادة انتشار متعددة المراحل على مدى سنتين، لكن هناك شروطاً صارمة جداً تقضي بمنع السلطة الفلسطينية أي مظاهر تطرف ضد اسرائيل وإلغاء بنود معينة من الميثاق الوطني الفلسطيني خلال شهرين من اجراء الانتخابات الفلسطينية قبل تطبيق تلك الخطة المتعددة المراحل. بنود الاتفاق ووافق رابين وعرفات على الآتي: انسحاب الادارتين الاسرائيليتين، العسكرية والمدنية، الى حدود بلديات كل من جنين وطولكرم وقلقيلية ونابلس واعادة تأسيس 62 قاعدة عسكرية اسرائيلية جديدة في المناطق المحيطة بها. انسحاب اسرائيل الى الطرق الرئيسية المؤدية الى مركزي مدينتي رام الله وبيت لحم مع نهاية العام، على ان يلي ذلك انسحاب كامل وان يكون كما يقول رابين "متدرجاً تبعاً لمشكلة بناء الطرق الالتفافية"، وهو مشروع يكلف ملايين الدولارات بدأت اسرائيل بتنفيذه أخيراً. تقسم الضفة الغربية، خارج المدن والمستوطنات الاسرائيلية، الى قطاعين: واحد لا توجد فيه أي منشآت دائمة للجيش وهو يشتمل على معظم المحافظات والأقضية التي يقطنها الفلسطينيون. وستتتولى الشرطة الفلسطينية مسؤولية القانون والنظام في هذه المناطق مثلما تتولاها في مدن الضفة الغربية الكبرى. لكن الجيش سيحتفظ بپ"المسؤولية الاسرائيلية المهيمنة" وسيتدخل مثلما يرى ضرورياً. وفي هذا السياق قال رابين: "المشكلة ليست الوجود الدائم للجيش وإنما هي حرية حركته وتصرفه". أما نقل صلاحيات الأمن في تلك الأجزاء من الضفة الغربية التي تحيط بالمستوطنات الاسرائيلية فلن تكون موضع بحث الا في أواسط 1997. تشكيل "وحدات شرطة مشتركة متنقلة" لاستخدامها من حين لآخر على الطرق بين المدن التي تركها الجيش الاسرائيلي. استمرار السيطرة الاسرائيلية وحدها على "أراضي الدولة" التي تؤلف أكثر من أربعين في المئة من الضفة الغربية، وكذلك على مخصصات المياه. استمرار السيطرة الاسرائيلية على المستوطنين الذين يبلغ عددهم 145 ألفاً في 150 مستوطنة في مختلف أنحاء الضفة الغربية. وستجرى انتخابات لاختيار مجلس فلسطيني جديد ورئيس له سيطلق عليه الفلسطينيون اسم "الرئيس"، وستكون مدينة رام الله مركز هذا المجلس الذي سيحل مكان السلطة الفلسطينية. واذا قام المجلس بأي محاولة لانتهاك الاتفاق مثل اعلان الدولة أو الاستقلال فإن هذا يمكن ان يؤدي الى الغاء الاتفاق. أما حجم المجلس فلا يزال قيد البحث: اسرائيل تفضل ان يكون عدد أعضائه مماثلاً لأي سلطة تنفيذية، لكن الفلسطينيين يريدون ان يكون حجمه مثل أي برلمان. ولم يتفق الطرفان حتى الآن على حق سكان القدسالشرقية في ترشيح انفسهم لانتخابات المجلس مع ان اسرائيل قبلت حقهم في التصويت. الضفة: 5 مناطق وهكذا فمن الواضح ان هذا الاتفاق الشديد التعقيد سيقسم الضفة الغربية الى خمس مناطق: 1 - القدسالشرقية التي ضمتها اسرائيل. 2 - المستوطنات وعددها 150 وأراضي الدولة، وستظل خاضعة للسيطرة الاسرائيلية وحدها. 3 - منطقة فلسطينية تتولى السلطة الفلسطينية مسؤولية ادارتها الأمنية والادارية. 4 - منطقة فلسطينية تديرها السلطة الفلسطينية على المستوى المدني بينما يتولى الجيش الاسرائيلي ادارتها على المستوى الأمني. 5 - منطقة فلسطينية يديرها الجيش الاسرائيلي على المستويين الأمني والمدني. ويشعر الأميركيون والاسرائيليون بثقة بأن عرفات الذي نالت سلطته في غزة المديح أخيراً في الصحف الاسرائيلية والأميركية، يستطيع بيع هذا الاتفاق لشعبه. وفي وسعه أيضاً ان يتوقع وصول المزيد من المساعدات الدولية نتيجة هذا الاتفاق وعقب احتفال التوقيع عليه في واشنطن. كما ان رابين على استعداد لمصافحته ثانية في حديقة البيت الأبيض اذا كانت ستشجع الجهات الدولية المانحة على تقديم المساعدات الى السلطة الفلسطينية. والواقع ان رابين هو الذي صمم و"هندس" هذا الاتفاق أكثر مما فعل عرفات. اذ انه يعطي اسرائيل السيطرة المباشرة على أربعين في المئة من القطاع، بينما لا تعطي اعادة انتشار القوات الاسرائيلية في الضفة الغربية الفلسطينيين شيئاً لا تشعر اسرائيل بارتياح للتخلص منه. وكما حدث في غزة فان الدولة العبرية لن تأسف على التخلي عن طولكرم ونابلس وجنين وقلقيلية. لقد كتب جاك نيريا أوثق المستشارين السابقين لرابين: "بصراحة، كم من الاسرائيليين يذهبون للتسوق في جنين؟ ثم ما هي امكانية توجه سائق سيارة تاكسي اسرائيلي من تل أبيب الى نابلس؟". وهكذا وضع رابين جدولاً زمنياً ليس فيه أي موعد "مقدس" بينما يواجه الفلسطينيون ضغطاً مستمراً لمنع شن أي هجمات على الاسرائيليين. كما ان في وسع اسرائيل ان توقف متى شاءت وفي أي مرحلة من المراحل توسيع السلطة الفلسطينية لأي سبب تريد. ذلك ان رابين تبنى وجهة نظر جهازي أمنه واستخباراته وهي وجهة نظر تقول باختصار ان الوضع الأمني في اسرائيل وفي المدن الواقعة على محاذاة الخط الأخضر وفي المستوطنات لن يتعرض لأي خطر نتيجة اعادة الانتشار. وهو يعتقد بأن تنازلاته لعرفات لن تثير لدى معارضة ليكود أو الحركة الاستيطانية أي اعتراضات لا تستطيع الحكومة قبولها. ولذا فمن الواضح ان ليس من قبيل المصادفة عدم حدوث أي انسحاب ذي شأن من الضفة الغربية قبل الانتخابات الاسرائيلية عام 1996. كذلك تخدم تعقيدات هذا الاتفاق أهداف رابين النهائية للضفة الغربية، كما قال هو نفسه أي: "ظهور كيان فلسطيني لا يرقى الى مرتبة الدولة، لكنه يعمل مع الأردن واسرائيل في اطار نظام من التعاون الاقتصادي وأشكال الاندماج الأخرى". صحيفة دافار 7 تموز/ يوليو 1995