كشف فيكتور أوستروفسكي العقيد السابق في الاستخبارات الاسرائيلية الموساد في كتابه الأول "عن طريق الخداع" عن عدد هائل من الأسرار ما يجعل فضح جون فعنونو الأسرار النووية الاسرائيلية مجرد مخالفة بسيطة. لكن كتابه الجديد "الجانب الآخر للخداع" سيحدث ضجة أكبر مما أحدثه كتابه الأول. يبدأ أوستروفسكي كتابه يتأكد ان مغادرته الموساد لم تكن اختيارية. اذ انه لم يكن يمينياً في آرائه الى الدرجة المطلوبة كما انه كان ينادي بوجوب قيام دولة فلسطينية، وهو رأي يرقى الى منزلة "الكفر" في دوائر الموساد. وعندما ترك عام 1986 طلب منه شخص "ليبيرالي" من الصفوة في "معهد المهمات الخاصة" العمل مع المعهد للتشهير بقيادة الموساد. وحين أبدى اوستروفسكي تردداً قيل له انه يعرف أكثر مما ينبغي واذا ما رفض التعاون فإنه "لا بد من تصفيته". وهكذا غادر اسرائيل ليعيش في الخارج. وبعدما قضى فترة في لندن قرر العودة الى وطنه كندا وأخذ معه مجموعة كبيرة من الوثائق والملفات والصور الخاصة حتى اذا ما قرر "أصدقاؤه" ان يخونوه في أي وقت "فإنني سأجرد الموساد من جميع عملائها وجواسيسها الميدانيين خلال يوم واحد وسأرغمها على وقف جميع عملياتها في كل مكان من العالم لفترة طويلة من العالم". وهو يقول انه كان هناك آنذاك حوالى ثلاثة آلاف عميل في بريطانيا من دون اجر وأكثر من هذا العدد بكثير في الولاياتالمتحدة وبضع مئات أيضاً في فرنسا. وفي نهاية المطاف سلّم السفارة البريطانية في واشنطن قائمة بأسماء جميع العاملين في محطة الموساد في لندن وهم الذين طردتهم مارغريت ثاتشر عام 1987 وكشف للسفارة عن هويات العملاء الثلاثة آلاف و"عناوين حوالى مئة منزل مأمونة كلياً في منطقة لندن". في هذا الكتاب المليء بالأسرار التي تظهر للمرة الأولى، ربما كان هناك واحد من أكثر الأسرار اثارة على الاطلاق، اذ يشرح المؤلف كيف تمكنت مجموعة صغيرة من البحارة الاسرائيليين ان تقيم أجهزة ارسال يتم التحكم بها عن بعد على الساحل الليبي، ثم استخدمتها الموساد لارسال رسائل مزورة من السفن الاسرائيلية على موجات الارسال التي تستخدمها البعثات الديبلوماسية الليبية في أوروبا وتستخدمها طرابلس في اتصالاتها مع تلك البعثات. وقد نجحت هذه الرسائل المزورة التي لفقتها الموساد في تضليل الأميركيين والبريطانيين لكنها لم تنجح في تضليل فرنسا فاعتقدوا بأن ليبيا هي التي دبرت الانفجار الذي وقع في احد النوادي الليلية في برلين وأدى الى مقتل جنديين أميركيين، ودفع ادارة الرئيس ريغان الى قصف مدينتي طرابلس وبنغازي وقتل العشرات من المدنيين الأبرياء وبينهم طفلة في الثانية من عمرها كان العقيد معمر القذافي تبناها. كذلك يكشف أوستروفسكي في كتابه النقاب عن الجهود التي بذلتها شخصيات يمينية اسرائيلية، بينها عدد من كبار مسؤولي الموساد، من اجل زعزعة الاستقرار في الأردن واثارة الاضطرابات أمام ياسر عرفات لاغراق عملية السلام ومحاولات عرفات التوصل الى "حل الدولتين". وفي اطار هذه الجهود غمرت الموساد الأردن بالدنانير المزيفة ودربت المتطرفين وزودتهم بالأسلحة، ليس في الأردن وفلسطين فحسب بل وفي مصر وأفغانستان. ولعل أكثر أجزاء الكتاب اثارة هو ذلك الجزء الذي يروي فيه اوستروفسكي كيف ذهب الى الأردن ومصر متظاهراً بأنه انشق على الموساد وهرب من اسرائيل، وكيف انتهى في السجن في مصر. كما يروي كيف حمل الألغام قبل ذلك الى "نمور التاميل" في شمال سريلانكا ثم اكتشف بعد أسابيع قليلة ان الموساد قررت التخلي عن "النمور" وبدأت تساند الحكومة في حربها ضدهم. ويؤكد اوستروفسكي ان الموساد ضعيفة في مجال المعلومات الاستخبارية لكنها تتفوق على جميع الأجهزة الأخرى في ميدان القتل. ويتحدث عن قتل جنرال اسرائيلي في لبنان لكي لا يصبح رئيساً للموساد، وعن قتل أحد عملاء المنظمة وقتل ديبلوماسي أميركي في باريس لمنعهما من متابعة الحوار السري ومساعي "السلام" مع منظمة التحرير الفلسطينية. وارسال الموساد بيانات مزيفة صادرة عن منظمة لا وجود لها هي "الجناح اللبناني الثوري المسلح" الى وكالات الأنباء تعلن المسؤولية عن القتل، ثم استخدمت البيانات الملفقة لكي تقنع الحكومة الاسرائيلية بوجوب غزو لبنان. وبعد ذلك استخدمت الحكومة محاولة قتل السفير الاسرائيلي في لندن ذريعة للغزو عام 1982. ويسهب أوستروفسكي في الحديث عن كثير من عمليات الموساد. اذ يقول ان الأوامر صدرت اليه ليعرض نفسه على الاستخبارات الروسية السوفياتية السابقة كي. جي. بي. على أساس انه منشق هرب من المخابرات الاسرائيلية. وكان الهدف من هذه الخطوة اكتشاف جاسوس مهم زرعته كي. جي. بي. داخل الموساد بعد ان رفضت كي. جي. بي. قبول أوستروفسكي وارتابت في صدقيته، نتيجة التحذير الذي تلقته مسبقاً من جاسوسها داخل الموساد. ويروي المؤلف أيضاً المؤامرة الفاشلة التي وضعها اليمينيون المتطرفون في الموساد لاغتيال الرئيس الأميركي جورج بوش أثناء افتتاح مؤتمر سلام الشرق الأوسط في مدريد عام 1991، وكيف اختطفت الموساد إثر فشل خطتها ثلاثة فلسطينيين من لبنان لكي تعلن انهم المسؤولون عن تلك المؤامرة. ويقول أوستروفسكي ان الاستخبارات الاسرائيلية مررت "اعدام الثلاثة" لأنهم كانوا يعرفون تفصيلات الخطة. وهو يؤكد أيضاً ان الموساد هي التي قتلت مواطنه العالم الكندي جيرالد بول الذي كان يساعد العراق في تصميم المدفع العملاق. وكانت ايران ولا تزال موضع اهتمام الموساد، اذ ان اسرائيل زودت ايران بالأسلحة في عملية اطلقت عليها اسم "خط الأنابيب الأزرق" في الوقت الذي كانت فيه واشنطن تزود العراق بمعلومات استخبارية عن طريق الأقمار الصناعية. وكانت الاتصالات مع ايران تتم من خلال الاستخبارات الألمانية. اذ ان الاسرائيليين دربوا الطيارين الايرانيين في مقاطعة شليزفيغ هولشتاين في شمال ألمانيا. وعندما اعترض رئيس الوزراء الاقليمي يوهيرشل على ذلك تولى فريق من الموساد قتله في جنيف. ويتضح من الكتاب أيضاً ان روبرت ماكسويل ذهب ضحية الموساد. اذ ان لويس توسكانو كشف عن صلات ماكسويل بالموساد في الكتاب الذي ألفه عن جون فعنونو. ويقول أوستروفسكي ان التعاون الحالي بين ماكسويل والموساد كان متبادلاً: اذ انه كان يموّل بعض عملياتها بينما كانت هي تؤمن المال اللازم له حين يريده مثلما فعلت عندما اشترى صحيفة "نيويورك بوسط". ولكن حين هدد ماكسويل بفضح العلاقة بين الموساد وكي. جي. بي. اذا لم تقدم الاستخبارات الاسرائيلية له الأموال اللازمة للتغطية على أموال صندوق التقاعد الذي اختلس منه، قررت تل أبيب ان استفادتها من ماكسويل انتهت. وهكذا خدعته الموساد وغررت به حين طلبت منه الانتظار على يخته على مقربة من شاطئ جزر الكناري للالتقاء بشخص معين، وأرسلت قارباً من الأسطول الاسرائيلي لسحب ماكسويل من على متن يخته وقتله. لكن التحقيق الجنائي المحلي قرر ان ماكسويل "مات منتحراً" اثر افلاسه لأنه لم يستطع مواجهة احتمال دخول السجن في بريطانيا. وقبل ان تتمكن عائلته من اجراء أي فحوص أو تشريح على جثته سارع الاسرائيليون الى نقلها الى القدس جواً لدفنها في جبل الزيتون وزعموا ان هذه كانت "رغبة ماكسويل". ويتحدث أوستروفسكي عن تأييد الموساد لجميع أنواع الحركات اليمينية في بريطانياوفرنساوألمانيا وبلجيكا وأميركا بل والعالم أجمع. ويروي كيف انها لفقت "أدلة" تثبت معاداة المستشار النمسوي كورت فالدهايم الأمين العام السابق للأمم المتحدة للسامية وكيف أقحمت تلك الوثائق في ملفات عن فالدهايم لأنه كان موالياً للفلسطينيين. ويصف قضية الجاسوس الاسرائيلي جوناثان بولارد ويقول ان الموساد كانت تدفع له راتباً منتظماً ولكنه كان مغفلاً لأن قبول الراتب يعني ان الموساد لن تقدم له الحماية اذا ما انفضح أمره. ويقول اوستروفسكي ان بولارد كان يعرف على الأرجح ان المعلومات التي قدمها للموساد عن الدفاع الأميركي ذهبت الى الاستخبارات السوفياتية وان اسرائيل "قايضت تلك الأسرار باليهود". والكتاب أيضاً مليء بروايات العمليات التي نفذتها الموساد، مثل قتل أميرام نير الذي حمل نسخة من الأنجيل الى طهران من الرئيس ريغان كجزء من ايران غيت، في حادث تحطم طائرة غامض في المكسيك، واختطاف طائرة كان من المفروض انها تحمل على متنها زعماء منظمة التحرير وتبين انه لم يكن عليها أي فلسطينيين. ويتحدث الكتاب أيضاً عن عمليات مشتركة بين الموساد والاستخبارات الفرنسية، وعمليات اخرى مع الأكراد ومع أجهزة الاستخبارات الاسكندنافية، الى درجة ان عملاء الموساد كانوا يتمركزون في المطارات ودوائر الهجرة في النروج والدانمرك لتدقيق طلبات العرب للحصول على تأشيرات دخول أو هجرة. قصارى القول ان كتاب أوستروفسكي الجديد يكشف الكثير من أسرار الموساد، وهو يشرح الحياة العائلية الكئيبة التي يعيشها العاملون في الجهاز وعملاؤه. اذ ان الاستخبارات تجبرهم مثلاً على الزواج قبل ان يسافروا الى الخارج لكي تحتفظ بزوجاتهم وأطفالهم رهائن اذا ما حاولوا الخروج على المنظمة أو الانشقاق عنها أو الهرب الى أي جهة اخرى. وكلمة اخيرة يقول أوستروفسكي ان الجهد الوحيد الذي بذلته الموساد للانفاق على مرافق يمكن ان تفيد الناس هو انها كانت تدير مستشفى في سويتو في جنوب افريقيا لكي تستطيع تجربة العقاقير التي تستخدمها أو يمكن لها ان تستخدمها في عملياتها في المستقبل على أولئك الأفارقة الطيبين.