في تشرين الاول أكتوبر الماضي، شكلت الحكومة الايرانية حوالي الف محكمة قضائية متخصصة بشؤون الغلاء والاسعار، وتركز نشاط هذه المحاكم التي غطت غالبية المناطق في البلاد على محاكمة المحالين اليها من التجار بتهم مخالفة الأسعار، والغش التجاري. وكانت هذه الخطوة ترافقت مع خطة حكومية لتحديد اسعار غالبية السلع المعروضة، بعدما أضيفت اليها مجموعة جديدة من السلع شملت السجائر والسيارات والاجهزة الكهربائية والالكترونية والادوية ومواد البناء، فيما وصلت العقوبات التي أقرها البرلمان الى حد الاعدام لمن تثبت ضده تهمة الغش والاحتكار واخفاء المواد. ولم تقف التدابير الحكومية عند هذا الحد، اذ ترافقت الاجراءات القانونية مع اعطاء "الباسيج"، وهي مجموعات شبه حكومية، صلاحية مراقبة الاسعار وتوقيف من يعتبرونه مخالفاً ان لجهة تجاوز الاسعار أم لجهة عدم الاعلان عنها بصورة صريحة. ومن المعروف، ان عناصر "الباسيج" هم في غالبيتهم من الشبان المقطوعين من الريف، ويفتقرون الى الحد الادنى من الخبرة في موضوع مراقبة الاسعار، وملاحقة الغش، ما دفعهم الى الاتكال على الوشايات والمعلومات التي يحصلون عليها لمداهمة آلاف المحلات التجارية وتوقيف اصحابها الى حين ثبوت براءتهم. ازدهار السوق السوداء وأدت الحملة الى نتيجة وحيدة وهي ان التجار اضطروا الى عرض السلع الموجودة في متاجرهم بالاسعار الرسمية، خوفاً من مداهمة "الباسيج" من جهة، ومن ملاحقات المحاكم المستحدثة من جهة ثانية. إلاّ أن الوجه الآخر هو أن غالبية السلع الرئيسية اختفت من المتاجر، خصوصاً السلع الغذائية الاساسية، مثل الارز والسكر والشاي والبن التي بات الحصول عليها محصوراً بالسوق السوداء التي حققت كما يعترف مسؤولون حكوميون، ازدهاراً لم يسبق لها أن حققته في أي من السنوات ال 15 الماضية، حتى في ذروة الحرب مع العراق. وفي الواقع، دفع التشدد في مراقبة الاسعار في ظل انهيار سعر صرف العملة المحلية، معظم التجار، إما الى التحول الى السوق السوداء، بيعاً وشراء، أو إلى إقفال محلاتهم وتجنب حملات اجهزة الامن والشرطة. وكانت الحكومة الايرانية فرضت منذ مطلع العام الماضي قيوداً اضافية على الاستيراد، بهدف الحد من نزف العملات الاجنبية، وتحدد رقم 10 مليارات دولار حداً أقصى للواردات في مقابل 25 مليار دولار في العام 1992، اضافة الى الزام المستوردين بالحصول على موافقات مسبقة من وزارة التجارة والاقتصاد مع الزامهم اعتماد القنوات المصرفية الرسمية للتحويل الى الخارج. إلاّ أن النتائج المباشرة لمثل هذا التشدد تمثلت في ازدهار السوق السوداء من جهة وشيوع عمليات تهريب العملة، ما دفع أجهزة الامن الى إقامة مركز مراقبة اضافية على المنافذ البرية للحد من نشاط المهربين الذين استفادوا من الحدود الواسعة لايران لاخراج ما يحملونه من مبالغ. فقدان السلع الى ذلك، أدى التشدد في مراقبة الاستيراد الى فقدان العديد من السلع من السوق، وتحول النشاط التجاري الى السوق السوداء لتوفير الطلب المحلي. واعترف محافظ البنك المركزي الايراني محسن نور بخش، بالفعالية المحدودة للاجراءات التي اتخذتها الحكومة مشيراً الى أنها أدت الى ما يشبه حالة الاختناق في القطاعات الانتاجية بسبب المصاعب التي واجهتها المصانع في توفير احتياجاتها من المواد الاولية المستوردة، اضافة الى مخالفة المصدرين للتعليمات التي تلزمهم بتحويل حصيلة الصادرات بالدولار الى البنك المركزي. وتقول معلومات شبه رسمية، ان الحكومة الايرانية لم تحصل عملياً الاّ على حصيلة عائداتها من النفط، في حين ان عائدات التصدير من السلع الاخرى غير النفطية بقيت في الخارج، وتم ادخالها الى البلاد من طريق التهريب. وتقدر صادرات ايران من المنتجات غير النفطية بما يصل الى 5،3 مليارات دولار سنوياً، الاّ أن البنك المركزي ووزارة المال يقولان ان ما تمّ تحويله بالفعل لا يتجاوز ال 800 مليون دولار على الرغم من الحوافز التي قدمتها السلطات النقدية، وفي طليعتها السماح بفتح حسابات خاصة بالعملات الاجنبية، اضافة الى إعطاء أصحابها فوائد تماثل الفوائد المعمول بها في الاسواق العالمية. ومع ان معظم المصدرين هم من الشركات الحكومية بصورة مباشرة، أو غير مباشرة، وبالتالي كان من المفروض عدم حصول اشكالات لدى اعادة قيمة الصادرات الى البلاد، الاّ أن الاعتقاد السائد في طهران، ان عمليات الاختلاس والمخالفات التي بدأ التحقيق فيها، انما نفذها مسؤولون كبار عن طريق التواطؤ مع مسؤولي بعض المصارف والوزارات واستخدام مستندات مزورة. صورة مستقبلية قاتمة ويقول خبراء اقتصاديون في طهران، ان الحكومة الايرانية نجحت في سداد جزء من التزاماتها الخارجية، عن طريق الالتزام بالنفقات واعادة جدولة بعض الديون العائدة لشركات تجارية، إلاّ أن هذا الانجاز على أهميته المحدودة لم يحجب الصورة القاتمة للمستقبل الاقتصادي في البلاد، اذا ما تواصلت الامور على الشكل الذي تتطور فيه، خصوصاً بالنسبة الى مشكلة الشح في العملات الاجنبية، وعجز الدولة عن تدبير الحد الادنى لتغطية الواردات اضافة الى الانهيار المتواصل في سعر صرف الريال. فقد بلغ التضخم وفق التقديرات الرسمية في العام الحالي السنة الايرانية تنتهي في 20 آذار مارس الجاري 35 في المئة، فيما ترفعه التقديرات غير الرسمية الى 60 في المئة. وتجاوز الريال عتبة ال 4 آلاف تجاه الدولار، وترفض غالبية الاسواق الخارجية التعامل به، فيما بات بعض الاسواق الذي يتعامل مع ايران يعتمد على صفقات المقايضة لتصدير بعض السلع في مقابل منتجات ايرانية يحصل عليها لاعادة تصريفها في أسواق اخرى. إلى أين يتجه الاقتصاد الايراني؟ لا أحد يملك جواباً نهائياً، ولو أن الاشارات التي تظهر تؤكد أنه مع استمرار الامور على حالها، فإن المزيد من التدهور والانهيار هو الشيء المنتظر في خلال الاشهر المقبلة.