اعتباراً من 28 أيار مايو الماضي، بات على المستوردين الايرانيين ان يمولوا عمليات الاستيراد من الخارج عبر القنوات المصرفية الحكومية. إلاّ أنه بات عليهم قبل ذلك، الحصول على موافقة رسمية من وزارة التجارة، اضافة إلى أن اخراج السلع المستوردة من الجمارك بات يستوجب تقديم شهادة مصرفية تبين العملات الاجنبية التي استخدمها المستورد، عن طريق احد المصارف الحكومية. ووفقاً للبنك المركزي في طهران، فإن الاجراءات الجديدة تندرج في اطار السياسة التي أقرتها الحكومة لتقليص حجم الاستيراد من الخارج، ما يساعد على توفير مزيد من العملات الاجنبية لسداد الديون المتأخرة، إضافة الى تمويل النفقات الحكومية، والحد من تراجع سعر صرف الريال الايراني بسبب التهافت على شراء القطع الاجنبي. وبحسب مسؤولين ايرانيين، فإن السقف الذي حددته الحكومة لحجم الواردات للعام المالي الجاري الذي بدأ في آذار مارس الماضي بحسب التقويم الايراني لن يزيد عن 3 مليارات دولار، وهو رقم يساوي الى حد بعيد قيمة الصادرات الايرانية غير النفطية. ما يعني أن المبدأ الذي قررت طهران اعتماده يقوم في الاساس على ضرورة الموازنة بين الواردات والصادرات غير النفطية. ويقول البنك المركزي ان التدابير التي أقرت أخيراً كانت ضرورية الى حد لا يمكن الاستغناء عنه، او حتى التأخير في تنفيذه، مستنداً الى مجموعة من الاعتبارات المالية والنقدية، ولو على حساب الوضع الاقتصادي والاجتماعي، وارتفاع وتيرة الاحتجاجات ذات الطابع النقابي والعمالي. وفي الواقع يربط المسؤولون في البنك المركزي انهيار سعر صرف الريال بالعجز الكبير في الميزان التجاري، وميزان المدفوعات نتيجة تراجع الصادرات وانخفاض قيمة التحويلات وفشل برنامج اجتذاب الاستثمارات الاجنبية. ويشيرون الى أن قيمة الواردات حققت رقماً قياسياً في العام 1992، عندما تجاوزت مستوى 21 مليار دولار، وهو رقم تجاوز بسهولة قيمة الصادرات التي بلغت في حينه حوالي 17 مليار دولار، من بينها 14 مليار دولار للصادرات النفطية. وفي حين تركزت الواردات على استيراد السلع الاستهلاكية بالدرجة الاولى، نظراً الى ازدياد الطلب عليها، عانت الحكومة من مشكلة توفير ما يكفي من القطع الاجنبي لتغطية الواردات من جهة، وسداد الديون الخارجية المتوجبة والتي بلغت في حينه حوالي 5 مليارات دولار، غالبيتها ديون تجارية لمصارف ومؤسسات خاصة في الخارج. أعباء السلاح ويقول خبراء اقتصاديون ان الازمة كان يمكن ان تكون أقل سوءاً، لو لم تحقق عائدات النفط، تراجعاً أوسع حوالي 10.5 مليارات دولار، ولو لم ترتفع فاتورة خدمة الديون وسداد المتأخرات الاّ أن هؤلاء يشيرون الى مشكلة أخرى، غالباً ما يتحاشى المسؤولون في طهران الحديث عنها، وتتصل بارتفاع اعباء الدفاع والتسليح التي يقدر انها تستهلك ما يزيد عن ملياري دولار سنوياً، لا تظهر ارقامها عادة في الموازنة العامة للدولة، بسبب اقتطاعها المباشر من عائدات النفط الى صندوق خاص يتولى الاشراف على الانفاق منه المجلس الاعلى للدفاع الذي يستطيع اتخاذ القرارات بمعزل عن اشراف الحكومة، ومن دون الخضوع ايضاً لمراقبة البرلمان لاعتبارات غالباً ما توصف بأنها استراتيجية، وفي اطار المحافظة على الاسرار العليا للدولة. هل تساعد الاجراءات الاخيرة على تحسين موقع العملة الوطنية، وزيادة ملاءة الحكومة الايرانية في التعامل مع مشكلة الديون الخارجية؟ نظرياً، القيود التي فرضها البنك المركزي على عمليات الاستيراد يجب ان تساعد على توفير المزيد من القطع الاجنبي لتغطية سداد الديون، إضافة الى الحد من التهافت على الورقة الخضراء. لكن مثل هذه السياسة الصحيحة نظرياً، قد لا تكون كذلك على أرض الواقع، لاعتبارات عدة، أبرزها، كما يقول خبراء اقتصاديون في طهران، ان تقليص الاستيراد سيساهم بصورة أساسية في عودة السوق السوداء الى الازدهار، وثمة اشارات كافية الى نمو عمليات التهريب عبر الحدود البرية لايران، خصوصاً من تركيا وبعض دول الكومنولث الجديد. وغالباً ما يؤدي ازدهار السوق السوداء الى ارتفاع اسعار السلع، ما يدفع الى ارتفاع حدة المطالبات الاجتماعية، وهي مطالبات لم تكن سليمة في الكثير من الحالات السابقة خلال الاشهر الماضية. الى ذلك تربط وزارة التجارة موافقتها على عمليات الاستيراد بتوافر ما يكفي من العملات الاجنبية من حصيلة الصادرات غير النفطية، واذا كان التشدد في مراقبة الاستيراد أوصل الى مشكلة تموينية، فإنه في المقابل، لم يحقق ما كانت تسعى اليه الحكومة لتخفيف الطلب على العملات الاجنبية، لا بل على العكس تراجع الطلب على القطع الحر عبر المصارف الحكومية، وأقفلت عشرات شركات الصرافة أبوابها الاّ أنه عاد وازدهر بصورة لافتة في السوق السوداء، ما جعل سعر صرف الريال خارج اطار الافادة من التدابير الجديدة. وربما تساعد التدابير الجديدة، الدولة على الوفاء بالتزاماتها الخارجية، إلاّ أن كلفتها الاقتصادية والاجتماعية ستكون باهظة. فالمصانع التي تحتاج الى مواد اولية من الخارج ستكون مضطرة الى اقفال أبوابها بسبب عجزها عن توفير العملات الاجنبية الكافية، كما أن صغار المستهلكين وذوي الدخل المحدود سيجدون انفسهم أمام قفزات جديدة في أسعار السلع والخدمات الاساسية.