بعد اختطافه على يد المتطرّفين في الجزائر، ازداد لوناس معطوب راديكاليّة، وعزماً على مواصلة النضال من أجل المجتمع الديموقراطي التعددي الذي يؤمن به. والمغنّي البربري المعروف بمواقفه المعارضة، والذي واجه الموت أكثر من مرّة بسبب جرأة أفكاره، أحيا أخيراً حفلة غنائية ضخمة في العاصمة الفرنسية، وأصدر في الوقت نفسه كتاباً بعنوان "المتمرّد" يروي فيه تجربة اختطافه. هنا وقفة مع معطوب في هذه المناسبة. قبل ثلاثة أشهر، كان لوناس معطوب أسير "الجماعة الإسلامية المسلحة" التي اختطفته وأصدرت ضده حكماً بالاعدام. لكن حركة التضامن الواسعة في الجزائر أرغمت "الجماعة" على التراجع واطلاق سراح هذا الفنان المتميز الذي عاد إلى جمهوره بمزيد من الزخم والعزم على المواجهة. فالحفلة التي أحياها في قاعة "زينيت" الباريسية قبل أسابيع، عرفت نجاحاً كبيراً وتحوّلت ما يشبه مهرجاناً سياسياً أو تظاهرة شعبية عارمة. وفي الوقت نفسه أصدرت منشورات "ستوك" كتاباً أوتوبيوغرافياً بعنوان "المتمرد" يروي فيه الموسيقي والمغني البربري مسيرته الفنية والنضالية التي كاد يدفع ثمنها من حياته في أكثر من مناسبة. في هذا الحوار الذي خص به "الوسط" يتحدث لوناس معطوب للمرة الأولى عن تجربة اختطافه بالتفصيل، مؤكداً أن مختلف أشكال التهديد لن تثنيه عن التمسك بالمواقف والأفكار الجريئة المعروفة عنه، منادياً الناس إلى "رفع السلاح، لا للوقوف إلى جانب النظام ضد الاصوليين، بل لمواجهة العنف المزدوج المسلط عليهم من قبل الارهابيين والعسكر". "إذا أراد مثقفو الجزائر بروز قطب ديموقراطي يضع حداً لهذا القمع المزدوج المسلط على شعبهم - يقول معطوب - فما عليهم إلا أن يقطعوا "حبل السرة" الذي ما يزال يربط العديد منهم بالنظام القائم". في أيلول سبتمبر الماضي، تعرضت للاختطاف وقضيت أكثر من اسبوعين بين أيدي متطرفي "الجماعة الاسلامية المسلحة". أي العناصر كان الأكثر تأثيراً عليك في هذه التجربة؟ - من بين كل ما واجهته، الشيء الأصعب هو شبح الموت الذي كان محدقاً. فمنذ لحظة اختطافي من أحد مقاهي تيزي وزو اعتبرت نفسي في عداد المقتولين. وكان شبح الموت حاضراً أمامي مثل سيف معلق على رقبتي، انتظر ان يطبق عليّ في أي لحظة. بماذا يتميّز هؤلاء الناس الذين حللت "ضيفاً" عليهم ست عشرة ليلة؟ - ما يلفت الانتباه لديهم بالدرجة الأولى هو شبابهم والراديكالية التي يتصفون بها. فهم ليس لديهم أي هدف أو حلم سوى الموت في أقرب وقت للالتحاق بالجنة. وبالنسبة إليهم ما يقومون به هو "جهاد"، والموت في سبيله "شهادة" يحرصون عليها أكثر من حرصهم على الحياة. ومن خلال أحاديثي معهم، أفضوا إليّ أنهم عازمون على توسيع رقعة نشاطهم الى خارج الجزائر، والقيام بعمليات انتحارية في أي مكان في العالم، إذا كان ذلك يخدم القضية التي يناضلون من أجلها. وهل كان من بين أعضاء الجماعة التي اختطفتك أشخاص كنت تعرفهم من قبل؟ - أغلبهم من سكان المنطقة، لكنهم ولدوا وتربوا خارجها، بينهم من وفد من منطقة البليدة. الوحيد الذي كان بربرياً من أبناء المنطقة هو "أمير" الولاية، أي قائد كل الفرق التي تنشط في منطقة "القبائل". تعرفت أيضاً من بين مختطفي على شخص كان صديقاً لي أيام الطفولة، وكان بطلاً للجزائر مرتين في رياضة الجيدو ضمن فريق "شبيبة القبائل". وكيف تحول من بطل للجيدو إلى متطرف؟ - لقد عانى كثيراً من ظلم الفريق الرياضي الذي كان منتمياً إليه. فالمشرفون على الفريق عندما لاحظوا تدينه، قاموا بتهميشه ورفضوا منحه سكناً، في حين استفاد من المساكن الوظيفية رياضيون آخرون أقل جدارة منه. وأمام هذا الظلم، اضطر إلى المغادرة وسكن في إحدى الضواحي الملتهبة التي يتحكم بها الاصوليون، وبعد بدء المواجهات، التحق بالجماعة "الاسلامية" المسلحة، وهو ينشط ضمن الفرق التابعة لها في جبال "القبائل". وهو الذي جاء برفقة شخص آخر إلى بيتي بعد يومين من اطلاق سراحي لتسليمي الرسالة التي كُلفت بايصالها إلى سكان المنطقة من قبل "الجماعة". لا تعاطف معهم! وكيف استقبلت هذين الشخصين، عندما جاءا لتسليمك الرسالة؟ - بالطبع لم ادخلهما إلى بيتي لكنني تظاهرت بأنهما من بعض أصدقائي حتى لا اثير ضدهما الشبهات، فقد كان في بيتي وحوله أعداد كبيرة من الناس من بينهم بعض رجال الأمن السريين، وكان هناك أيضاً مسلحون من أفراد المقاومة الشعبية. استلمت الرسالة منهما ومضيا، ولم أشِ بهما لأسباب اخلاقية. فهم اطلقوا سراحي وجاؤوا إليّ وهم متأكدون من انني من منطلق ما يُسمى عندنا ب "الرّجلة" لن أشي بهم أو أسيء اليهم. وهذا لا علاقة له "بعارض استوكهولم" الشهير، فأنا ليس لديّ أي تقدير لمختطفي، فهم قتلة ومجرمون لكن المسألة كانت مسألة مبادئ. عندما اطلق سراحك كتب سعيد مقبل مدير جريدة "لوماتان" الذي اغتيل بعدها بأسابيع، "إن لوناس معطوب إما ان يخرج من تجربة اختطافه وهو أكثر راديكالية في نضاله ضد الاصولية، أو أن ينساق لا شعورياً إلى التعاطف مع مختطفيه، فهو بشر قبل كل شيء". فأي الحالتين تنطبق عليك اليوم؟ - يكثر الحديث هذه الايام عما يعرف ب "عارض استوكهولم"، أي انسياق المختطفين تدريجاً إلى الاعجاب والتعاطف مع الذين اختطفوهم، وهذه مسألة شائكة. لكن الأمر بالنسبة إلي يتعلق باختيار ذاتي حاسم. فأنا لم اتحدث بشكل ايجابي عن هؤلاء المجرمين أبداً، أنا انتمي إلى الفئة التي تسير إلى أمام وهم من الفئة التي تتقهقر إلى وراء. ولا مجال لوجود تعاطف بين الاثنين. فحتى لو كانوا تصرفوا معي كملائكة فإنني لا يمكن أن أنسى أنهم قتلة ومجرمون. والشيء الأكيد انني اليوم أكثر راديكالية وعزماً على مواصلة نضالي المعهود، لن يوقفني أي تهديد، ولا حتى الموت. فحتى لو قتلوني ستبقى أشعاري واغنياتي تتحداهم بعد مماتي. وليس هناك شيء يمكن أن يسكت صوتي نهائياً سوى كارثة شاملة تؤدي إلى نهاية العالم. وهل حقاً كان مختطفوك يعاملونك معاملة حسنة؟ - يُطرح عليّ هذا السؤال كثيراً. وأنا أريد أن أسألك: ما هي أهمية أن تعرف هل عاملوني بشكل حسن أم لا؟ لماذا هذا السؤال؟ هل لاتحدث عنهم بشكل ايجابي، بما يُنسي صورتهم الحقيقية البشعة؟ إذا كان هذا هو القصد، فأنا أقول لك: لا! بالنسبة الي كل واحد من هؤلاء يجب أن يمثل أمام العدالة وأن يُحاكم. وحين يستعيد حريته لا بد من اعادة تأهيله للحياة مجدداً في المجتمع والانسجام مع قيمه. ولكن لا بد قبل ذلك ان يُحاكم وأن يُدان. وإذا كانت لديه "ظروف مخففة" فهذه قضية عدلية تعني القضاة لوحدهم، وهم الذين يجب أن يبتّوا فيها. دخولك دائرة الضوء بعد تجربة الاختطاف المريرة، يستهلك كثيراً من وقتك ندوات، حوارات صحافية وتلفزيونية، استلام جوائز.... ألا تخشى أن يؤثر هذا سلباً على عطائك الفني؟ - ما حدث لي ليس أمراً عادياً. فأنا تلقيت 5 رصاصات كلاشينكوف من رجال أمن النظام خلال حوادث تشرين الأول اكتوبر 1988. وبعدها بأشهر طُعنت بخنجر من أحد الاشخاص داخل مقر الدرك الوطني وكانت وراء ذلك مؤامرة سياسية. وفي ايلول سبتمبر الماضي اختطفت من قبل المتطرفين الاصوليين، وصدر ضدي حكم بالاعدام من قبلهم. وأمام كل هذا، لا يمكن أن أبقى على الحياد. لكن ما أقوم به ليس سياسة بل مقاومة. فأنا قبل كل شيء شاعر وفنان، لكنني أيضاً رجل مقاومة واحتجاج وتمرد، سواء تعلق الأمر بمعارضة النظام القائم أو بمقارعة الاصولية. ولكن دون ان يمّحي فيّ الشاعر لحساب السياسي. أذكّرك بأني لست وافداً جديداً على النضال السياسي، حيث اني كنت منذ سنوات طويلة معارضاً للنظام القائم في الجزائر، ومناضلاً من أجل الخصوصية الثقافية والحضارية البربرية، من دون ان أكون معادياً في شيء للعربية أو للإسلام، كما يحاول بعضهم الايحاء دوماً. فعندنا في الجزائر حين تقول: أنا عربي، يبدو ذلك أمراً عادياً وطبيعياً. لكنك بمجرد أن تقول: أنا بربري، تنهال عليك تهم معاداة العربية والاسلام. في حين ان الدين الاسلامي لم يكن أبداً محل نزاع أو مثار مشاكل بين الجزائريين عرباً كانوا أم بربراً. فالاسلام موجود في المنطقة منذ قرون طويلة وهو منسجم تماماً مع عادات وتقاليد الناس وخصوصيتهم الثقافية. الناس عندنا تبنوا الاسلام من دون تردد ومن دون مشاكل، ولكن حين تأتي لتفرض عليهم النموذج الإيراني أو السوداني، فهذا يخلق مشكلة! وهي مشكلة سياسية وليست دينية، ومن هذا المنطلق نعادي الاصوليين. لكن هؤلاء يحرّفون الحقائق ويعتبرون كل من يعارضهم من "حزب الشيطان". والحقيقة اننا نخوض ضدهم نضالاً سياسياً محضاً، وبقدر نضالنا نفسه ضد النظام القائم في الجزائر. هل يجب رفع السلاح؟ وإذا كان نضالكم مزدوجاً ضد النظام وضد الاصولية، فما هو موقفكم بالضبط من المواجهة الدموية الدائرة بينهما؟ - نضالنا هو بكل بساطة مقاومة للقمع والعنف المسلط على الناس، سواء من الاصوليين أو النظام. يبقى كيف يجب تنظيم هذه المقاومة، وهل يمكن ان تكون سلمية أم لا بد من رفع السلاح؟ فهذه مسألة يجب ان تطرح للنقاش بين كل القوى والتنظيمات الديموقراطية. وهذا الأمر لا يمكن ان أبت فيه لوحدي، لكن قناعتي هي أن المقاومة هي دفاع شرعي عن النفس. فنحن لا نشن هجومات على خصومنا، بل نكتفي برد هجوماتهم عنا. وغداً، اذا طرحت فكرة الردّ المسلّح على الارهاب لوضع حد للعنف السياسي المسلط على ملايين البسطاء في بلادنا، فلا بد من التفكير في الأمر بجدية. هل يجب رفع السلاح، في رأيك، أم لا؟ - أنا شاعر ولست جندياً. وحلمي ان اعيش في جزائر يسودها السلم وتستفيد من تراثها وتعددها الثقافي واللغوي والسياسي في ظل احترام الرأي الآخر والحق في الاختلاف. ولكن في الوضع الحالي يجب ألا نكذب على انفسنا، فلا خيار لنا اليوم سوى رفع السلاح للدفاع عن انفسنا. أنا شخصياً مسلّح، وحين اختطفت كان بحوزتي مسدس 9 ملم، ولكن اختطافي تم بشكل مباغت لم يترك لي فرصة استعمال سلاحي. هل تعي خطورة ما تقول؟ - أرجو ألا يساء فهمي. فأنا لا أود تشجيع الناس على الدخول في حرب أهلية شاملة. كل ما أقول به هو حق الدفاع المشروع عن النفس، لا الاعتداء على الآخرين. وإذا لم يعد هناك من خيار آخر سوى دخول المواجهة، على المقاومين أن يتحاشوا الوقوف إلى جانب النظام الحالي ضد الاصوليين. فأنا شخصياً لا افرّق بين الاثنين، وليست لديّ أية ثقة في النظام. واذا اردنا ان تظهر طريق ثالثة ديموقراطية تتجاوز وتتحدى النظام والاصوليين معاً، فعلى مثقفينا أن يقطعوا نهائياً "حبل السرة" الذي ما يزال يربط العديد منهم بهذا النظام الفاسد والعاجز عن التطور، والذي لا تحركه سوى الحسابات الضيقة والمؤامرات السياسية الصغيرة، وصراع الاجهزة... وما الذي يمكن ان يجتمع حوله شمل هذا القطب الديموقراطي، علماً بأن الديموقراطيين الجزائريين يعانون بدورهم من الانقسامات والصراعات الداخلية؟ - اليوم، نحن أمام وضع يحتم علينا أن نتآزر لندفع عنا الموت، قبل كل شيء، ولكي ننظم مقاومة ديموقراطية لنجدة ملايين الجزائريين الذين هم اليوم أسرى العنف والقمع من قبل الاصوليين ومن قبل النظام. ومن جهّة أخرى ليس صحيحاً اننا منقسمون إلى هذا الحد. فهناك قضايا أساسية كثيرة تجمع بيننا منها ضرورة التصدي للارهاب والدفاع عن الحريات السياسية وحقوق الانسان. وهناك قضية مصيرية كبرى نتفق حولها وهي ضرورة اصلاح المدرسة الجزائرية. فهذه المدرسة تعلم شبابنا الموت قبل ان تعلمهم الحياة. وهذه المدرسة هي التي خرجت شباناً في الثامنة عشرة أو في العشرين من العمر، لا يحلمون سوى بالموت، ويقتلون من دون تردد. وهذا الوضع لا يمكن ان يستمر...