ليس لونّاس معطوب فناناً عادياً في بلاده. فهو قبل كل شيء رمز لصحوة جيل انتفض على الخطاب الاجوف لورثة الثورة والاستقلال، وراح يطالب بمجتمع حديث قائم على الحرية والتعددية والعدالة، ومن هنا تمتّعه بشعبية واسعة في أوساط الشباب الجزائري. المغنّي المعروف بجرأته ودفاعه عن خصوصية الثقافة البربريّة، أوضح مواقفه ومشاغله الثقافية والفنية في حديث الى "الوسط" التي كانت آخر مجلة عربية التقته قبل اختطافه على يد "الجماعات المسلّحة" قبل أسابيع. خلال الأيام القليلة الماضية، شهدت تيزي وزو، عاصمة بلاد القبائل في الجزائر، مظاهرات ضخمة ضمت مئات آلاف المواطنين ممن خرجوا يعلنون تضامنهم مع الفنان البربري الشهير لونّاس معطوب الذي اختُطف قبل أسبوعين في الطريق الى قريته تاوريرت، أعالي جبال القبائل. كما دعت "الحركة الثقافية البربرية" الى اضراب عام لادانة هذا الاعتداء على المغنّي البارز الذي يحظى في الجزائر بشعبية كبيرة، تتجاوز أوساط البربر وتتعداها. وطالب ممثلو المجتمع المدني، والقطاعات الفنية باطلاق سراحه فوراً. ومعطوب المعروف بالتزامه وراديكاليته، من أشهر أصوات الأغنية البربرية. برز مطلع الثمانينات في خضم الحركة الطلابية التي نشأت في أعقاب أحداث "الربيع البربري" نيسان/ أبريل 1980، ورفعت شعار الديموقراطية والتعدّدية واحترام حقوق الانسان في الجزائر، بالاضافة الى دفاعها عن الخصوصية الثقافية واللغوية لبربر الجزائر. اكتسب لوناس معطوب شعبية متزايدة، منذ أغنيته "سيدي الرئيس" 1985، التي واجه بها الرئيس الجزائري الأسبق الشاذلي بن جديد، وكانت صرخة غضب وتحدّ لفساد نظام الحكم، ولبيروقراطية "الحزب الواحد" آنذاك. وكانت هذه الأغنية، في فكرتها الأصلية وشحنة التمرّد التي تضمّنتها، مستوحاة من أغنية ليو فيري الشهيرة "سيدي الجنرال". وإذا بها تتحوّل الى شعار رفعته تظاهرات الاحتجاج الشعبي الذي تصاعد في الجزائر، مع بدايات ظهور الثغرات الفادحة للمشروع السياسي والاقتصادي الوطني، إثر انهيار أسعار النفط سنة 1986. نضال على جبهتين ثم جاءت أحداث "أكتوبر 1988" التي رأى فيها البعض محاولة من قبل الرئيس بن جديد لامتصاص النقمة الشعبية المتفاقمة، والتخلص من بعض "بارونات" النظام. واذا بالسحر على الساحر، فترتد المحاولة على مدبرها، بفعل قيام قوى سياسية كانت لا تزال في الظل منها الجماعات الاصولية باستغلال الفرصة لصالحها. هكذا شهد الشارع الجزائري أول المواجهات منذ الاستقلال، وسقط مئات الضحايا أغلبها من طلبة الجامعات والثانويات. في ذلك الوقت كان لوناس معطوب ضمن مجموعة من الفنانين والمثقفين البارزين الذين سارعوا الى الكشف عن خفايا "المؤامرة" المدبّرة في كواليس النظام. وبينما كان المغنّي البربري متوجّهاً الى إحدى ثانويات منطقة تيزي وزو لتوزيع مناشير تدعو الشباب المتحمسين الى التزام الهدوء وعدم الانسياق الى المنزلق الخطير الذي آلت اليه الأحداث، أطلق عليه الرصاص من قبل رجال الدرك، فنُقل على جناح السرعة الى أحد مستشفيات العاصمة، ثم الى باريس حيث أجريت له سبع عشرة عملية جراحية، ألزمته الفراش طيلة سبعة أشهر. لكن معطوب لم يلتزم الصمت. ففي فترة النقاهة، بين عمليتين جراحيتين، أصدر من المستشفى شريطاً جديداً تحدّى به الرئيس بن جديد، ساخراً من تحوّله الديموقراطي المزعوم. وكان معطوب أوّل من حذّر من ال "هدية المسمومة" التي يقدّمها الحكم الى الأحزاب الديموقراطية، عبر منح الاعتماد الرسمي للحزب الأصولي، قصد الحدّ من تنامي حركة المجتمع المدني النشيطة التي أصبحت السلطة عاجزة عن التحكم فيها. وبسبب مواقف لوناس معطوب الراديكالية، وصفاء نظرته، وجرأة مواقفه، ووصوله الى جمهور واسع، راح اسمه يتصدّر "اللوائح السوداء" التي وضعتها الجماعات المتطرفة. لكن المغنّي رفض مغادرة الجزائر، على الرغم من إزدياد حدّة العنف في الأشهر الأخيرة، وسقوط العديد من أصدقائه المثقفين برصاص التطرف. وخلال المسيرة الأخيرة التي دعا اليها ديموقراطيّو الجزائر، في الذكرى الثانية لاغتيال الرئيس بوضياف، طلب المنظمون من معطوب أن يتحدث أمام آلاف المحتشدين، فتكلم باسم مثقفي بلاده رافعاً عنهم تهمة "التواطؤ مع النظام". قال: "إننا كمثقفين وفنانين لسنا مستعدّين للموت من أجل زروال! ونضالنا يجب أن يكون على جبهتين: ضد فساد النظام، وضد تطرّف الأصوليين"... إعادة الحقائق الى نصابها وكان ردّ الجماعات المتطرّفة رسائل تهديد "لم تعد تخيف أحداً، لفرط ما أصبح الموت شيئاً مبتذلاً"، كما قال لنا معطوب نفسه حين التقيناه قبيل اختطافه، في مناسبة صدور شريطه الغنائي الأخير، وعنوانه "كِنزة" على اسم أصغر بنات الراحل الطاهر جعوط الذي اغتيل قبل عام ونصف في الجزائر... وفي ما يلي نص الحوار الذي لم يكن أحد يتصوّر أن يحتل صاحبه واجهة الاحداث، بهذه الطريق المأسوية. اللافت في أغاني معطوب لوناس تميّزها بالنقد السياسي اللاذع. فعن طريقها واجهت رموز النظام، وحتى بعض وجوه المعارضة بن بيللا، آيت أحمد.... ولم يسلم من النقد اللاذع بعض رفاقك من مناضلي "الحركة البربرية" الذي قام بتسييس المطلب الثقافي البربري. لكن البعض يأخذ عليك تقلّب مواقفك باستمرار. - ليس لديّ أية رغبة في الانتقاد المجّاني. انما دوري، ودور كل مثقف أو فنان في رأيي، هو العمل على إعادة الحقائق الى نصابها، مهما كانت العواقب ومهما كان الثمن. وإذا نظرت الى مواقفي كلها، تجدها مستندة الى وقائع وأحداث ملموسة، وهي لا تنطلق من أية حسابات "سياسيّة" بالمعنى الحصري الضيّق للكلمة. فذلك ليس دور الفنّان... لكن ميزتك الأساسية أنك شاعر "هجّاء"، الى درجة أن النقد اللاذع في أغانيك يطول حتى شخصك، على طريقة الحُطيئة الذي قال مخاطباً نفسه "أرى لكَ وجهاً قبّح الله شكله/ فقُبّح من وجهٍ وقُبّح حامله..."! - يضحك... كل ما في الأمر، أنني حين أقول شيئاً أو أدافع عن موقف ما، فإني أعتقد انه هو الصواب. ولكن إذا ثبت لي العكس، لا أصرّ على الخطأ... وهنا أيضاً يتعلق الأمر باعادة الحقائق الى نصابها. يحدث أحياناً أن أندم بحرقة على موقف اتخذته أو فكرة عبّرت عنها. فلماذا لا أنتقد ذاتي في هذه الحالة بالحدة نفسها التي أنتقد بها أخطاء الآخرين؟ أما عن الذين يتهمونني بأن مواقفي تنقلب من النقيض الى النقيض، فإنهم لاموني مثلاً لأني إنتقدت الرئيس الأسبق بن جديد مرة أولى بسبب تضييقه على الحريات الديموقراطية، ثم عدت وإنتقدته ثانية بعد ان أعلن عن "اصلاحات ديموقراطية شاملة". لكننا اليوم نرى بوضوح الكارثة التي زجّت بنا فيها تلك الاصلاحات... هناك أيضاً من لاموني لأنني انتقدت آيت أحمد زعيم جبهة القوى الاشتراكية المعارضة، ثم حدث بعد ذلك نوع من التقارب بيني وبينه. لكن هؤلاء ينسون أن الرجل تغيّر كثيراً وأنا ايضاً تغيّرت بالتأكيد. آيت أحمد ذاته قال لي، بعد فترة التقارب بيننا: "السفهاء وحدهم لا يتغيّرون!"... الاستفادة من شيوخ "الشعبي" يرى بعض دارسي الأغنية البربرية في الجزائر، ان خصوصية لونّاس معطوب، التي اكسبته كل هذه الشعبية الخارقة، إنما تكمن في توفيقه بين زخم الأغنية السياسية الملتزمة، وبين ثراء طابع موسيقى "الشعبي" الذي بقي حتى الآن محصوراً في إطار أغاني الأعراس و"المدائح"... - منذ البداية، كنتُ مولعاً بأسلوب "القصيد" في أغنية "الشعبي"، لما فيه من زخم وتعدّد، إن على مستوى المضامين أو الطبوع والايقاعات الموسيقية، بحيث يمكننا أن ننتقل، في أغنية واحدة، من موضوع الى آخر، بمنتهى البساطة. ويترافق ذلك مع نقلة مماثلة الى مستوى اللحن، فيخفّ الايقاع أو يتصاعد، حسب الجوّ العام أو الحالة النفسية التي يوحي بها المضمون. حتى أصبح لكل حالة الطبع الموسيقي الملائم لها. فهناك طبع للفرح، وآخر للحزن، وللغضب... وحدها أغنية "الشعبي" توفّر مثل هذا الثراء والتعدّد الذي وجدتُ أنه يناسب طبيعة المضامين والقضايا التي أعالجها. وكان هاجسي الأساسي، منذ البداية، هو العمل على الاستفادة من "شيوخ" الشعبي الروّاد وتجاربهم، وتعميق أبحاثي الموسيقية في هذا الاتجاه. وكان لا مفرّ طبعاً من العمل، في الوقت ذاته، على اخراج "الشعبي" من رتابة أغاني الأعراس والمدائح التي أشرت اليها... قبل أشهر من اصابتك برصاص عسكر النظام، خلال أحداث "أكتوبر" 1988، قلت في إحدى أغنياتك: "إنني استبشر ببوادر الانتفاضة المقبلة / وأقبل المنفى / أقبل أن أرتمي في أحضان الموت / من أجل ان يكون الربيع المرتقب / خصباً بالشكل الذي نتمنّاه...". كثيرون رأوا في هذه الاغنية نوعاً من الاستشراف والرؤيويّة. - قيل الكثير، آنذاك، حول هذه المسألة. وهناك شيء من المبالغة في مثل هذا الكلام. لكن توقّع الآتي واستشرافه بعض من خصوصية الفنان، أليس كذلك؟ وكلما كان الفنّان صادقاً، كلما إزدادت قدرته على قراءة مستقبلية. إنها حاسّة لديه أشبه بحاسّة المطر لدى الخيول! البعض يعيب على الأغنية البربرية جموحها أحياناً، الى حدّ السقوط في فخّ التفرقة العرقية بين عرب وبربر في الجزائر. ألا يمكن للخصوصية اللغوية أو الثقافية أن تقوم إلا على محو الآخر أو معاداته؟ - أنت تعرف مدى انتقادي لبعض مناضلي "الحركة الثقافية البربرية"، ممن أرادوا تسييس المطلب الثقافي واستغلاله لأغراض انتخابية. إنما اليوم، نحن أمام مأزق خطير ينذر بالإنفجار الشامل. فالمشروع الوطني الجزائري استُهلك وفقد كل مصداقيته، بسبب ثلاثين سنة من الحكم الشمولي، وبسبب قضايا الفساد التي بلغت أحجاماً خيالية، كل ذلك باسم "الشرعية الثورية الوطنية". وأمام تآكل النظام القديم - اذا استثنينا الفترة القصيرة التي كان فيها بوضياف في الحكم - لا يوجد أي مشروع سياسي بديل له بُعد وطني. والسلطة الحالية عرقلت بكلّ الوسائل بروز "نهج ثالث" ديموقراطي يتجاوز النظام والأصوليين معاً، ويكون بديلاً منهما. وها هو النظام ذاته يحضّر لتحالف مقبل مع الأصوليين بدعوى أن "الجماهير معهم". طيّب! عندنا في منطقة "القبائل"، الجماهير في عمومها معادية للمشروع الأصولي. فما العمل؟ هناك من يقترح شن حرب شاملة ضدهم اذا استلموا الحكم، وهناك من يريد استباق الأمور قبل تفاقمها، فيطالب بنوع من الاستقلالية للمناطق البربرية في إطار كونفيدرالي. كلا الخياران محفوف بالمخاطر، أنا متفق معك. لكن الخيار الثاني هو الأقل ضرراً في رأيي. والمسألة ليست عرقية مطلقاً، ويمكن ان تُطرح في مناطق أخرى غير بربرية لكنها معادية في عمومها للأصوليين، كمنطقة وهران، أو الجنوب الصحراوي. أما الخصوصية الثقافية البربرية، فإنها بالنسبة إلي لا تكمن فقط في اللغة وحدها، بل هي أيضاً هذا المتخيل الثقافي المشترك الذي يشكّل خصوصية سكان المنطقة المغاربية بشكل عام، مهما كانت اللغة التي يتحدّثون بها اليوم. وبالطبع أنا أغنّي، بعمق وبقوة، خصوصيتي الثقافية واللغوية كبربري. لكنني أقول أيضاً: "ما دامت في محاجري عيون تبصر، فإنني سأكون دوماً في طليعة المضطَهدين لا تثنيني المخاطر ولا الموت، أصارع غرباً وشرقاً لا يهمّ بأية لغة ينطق من يناديني يكفي أن يقول أنا جزائري...".