انتقد وزير الخارجية المصري عمرو موسى الاتفاق العسكري الاسرائيلي - الروسي الذي وقع اخيراً، واستدعت وزارة الخارجية المصرية السفير الروسي في القاهرة لتقديم ايضاحات حول تصريحات وزير الدفاع الروسي الجنرال غراتشيف في اسرائيل بعد التوقيع على الاتفاق التي قال فيها ان بلاده مستعدة للمساعدة في انشاء نظام للامن الاقليمي في المنطقة، ورد رئيس الوزراء الاسرائيلي شمعون بيريز على ذلك بالقول "ان عمرو موسى ليس هو الذي يوجه السياسة الخارجية الاسرائيلية، فالعديد من الدول العربية تربطها علاقات بروسيا، ولماذا لم ينتقدها عمرو موسى"، الأمر الذي يكشف عمق حال الجفاء بين الخارجية المصرية والحكومات الاسرائيلية المختلفة. وتتحكم في هذا الجفاء جذور تاريخية، فعندما اعلن الرئيس انور السادات عزمه على زيارة اسرائيل، هب وزير الخارجية في ذلك الوقت اسماعيل فهمي لمعارضة الفكرة، وفضل تقديم استقالته في يوم الزيارة 19 / 11 / 1997 على الذهاب الى القدس، بحجة ان "المبادرة لم تبحث من جميع النواحي، خاصة من ناحية الامن القومي المصري والعربي". وبعد ذلك بساعات قدم محمد رياض وزير الدولة للشؤون الخارجية استقالته للأسباب نفسها. وعندما عين الرئيس السادات محمد ابراهيم كامل وزيراً للخارجية 24 / 12 / 1977 وجد الاخير نفسه غير قادر على "هضم" الصيغة المطروحة في كامب ديفيد، وبعد محاولات فاشلة لثني السادات عن التوقيع، اضطر كامل الى الامتناع عن المشاركة في مراسم التوقيع في كامب ديفيد ثم قدم استقالته مؤكداً ان "مشروع كامب ديفيد رسم طريقاً الى سلام كامل بين اسرائيل ومصر، مستقلاً تماماً عن الضفة الغربيةوغزة، فلا ترابط زمنياً بين حل مشكلة سيناء والمشكلة الفلسطينية". وباستقالة الشخصيات الثلاث، تشكلت لدى اسرائيل "عقدة" تجاه مؤسسة الخارجية المصرية، ومنذ ذلك الوقت لم تتوقف الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة عن الشكوى من "المواقف المتشددة" للخارجية المصرية. وفي مفاوضات الحكم الذاتي حسب مقررات كامب ديفيد، دخل وزير الدولة للشؤون الخارجية الدكتور بطرس غالي في مناظرات شهيرة مع نظيره الاسرائيلي موشى دايان في الاممالمتحدة، ووجه الكثير من الانتقادات اللاذعة للسياسة الاستعمارية الاسرائيلية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وعندما استضافت القاهرة "مؤتمر ميناهاوس" لمناقشة امكانية التسوية في الشرق الاوسط، رفعت الخارجية المصرية العلم الفلسطيني على مائدة المفاوضات وتركت المقعد شاغراً. وعمد الدكتور بطرس غالي في 5 / 11 / 1980 الى تأجيل زيارته لاسرائيل بعد ان تم نقل برنامج الزيارة الى القدس، الامر الذي رفضته الخارجية المصرية لتأكيد الوضع الخاص لمدينة القدسالشرقية كمدينة عربية محتلة. ورداً على قرار جعل القدس الموحدة عاصمة لاسرائيل، اعلن غالي "ان مصر تعتبر قرار الكنيست اعتبار القدس عاصمة لاسرائيل بمثابة عدوان على حقوق الشعب الفلسطيني وخرق خطير لمبادئ القانون الدولي". وتواصلت الشكاوى الاسرائيلية من الخارجية المصرية، الى ان وصلت ذروتها مع تولي عمرو موسى وزارة الخارجية في 20 كانون الثاني يناير 1991، فمنذ ذلك الوقت بدأت شكاوى الحكومة الاسرائيلية من الخارجية المصرية تنتشر بعلانية مكثفة. عملية التسوية وتزايد الشكوى ذهب رئيس الوزراء الاسرائيلي الاسبق اسحق شامير الى مدريد في 28 تشرين الاول اكتوبر 1991، املاً في ابرام صفقة مصالحة تاريخية تستند الى "السلام مقابل السلام". وجاء اسحق رابين من بعده ليغير المعادلة الى "السلام مقابل اجزاء من الاراضي" على اساس ان يبدأ التطبيع اولاً حتى تترسخ اجواء الثقة ثم تنسحب اسرائيل من "بعض" الاراضي المحتلة، ورفضت الخارجية المصرية هذه الرؤية واتجهت الى تأكيد ضرورة تطبيق قرارات الشرعية الدولية وانسحاب اسرائيل من جميع الاراضي العربية المحتلة كشرط مسبق للدخول في تطبيع للعلاقات. كما دعمت الموقف السوري بقوة، وقدمت الخبرات للوفد الفلسطيني، وحرصت على الدفاع عن التنسيق العربي وشاركت في اجتماعات دول المواجهة، او الطوق بكل ما يحمله المصطلح من مدلولات. واكدت الخارجية المصرية ايضاً اولوية المفاوضات الثنائية المباشرة على الجماعية المتعددة الاطراف، اي الانسحاب اولاً ثم التعاون الاقليمي والتطبيع بعد ذلك، ودخلت، في ظل غياب سورية ولبنان، في مواجهات مع الوفود الاسرائيلية في اجتماعات اللجان الخمس الخاصة بالمفاوضات المتعددة الاطراف، لا سيما لجنة الحد من التسلح. وبنت الخارجية المصرية موقفها على اساس الاشتراك في هذه المفاوضات ومواجهة الوفود الاسرائيلية واسقاط حججها والبحث في المشاريع المختلفة للتعاون الاقليمي بشكل لا يكون منفصلاً عن مراحل انسحاب اسرائيل من جميع الاراضي العربية المحتلة. ومع توالي الاجتماعات في اللجان المتعددة الاطراف، وحرص مصر على الاشتراك في اجتماعات دول الطوق التي تسبق بدء المفاوضات الثنائية المباشرة من اجل التنسيق، تشكلت لدى الحكومة الاسرائيلية قناعة بأن الخارجية المصرية تتبنى رؤية استراتيجية ثابتة لم تتغير منذ استقالة اسماعيل فهمي ومحمد رياض وابراهيم كامل، الامر الذي دفعها الى تصعيد "الحرب الباردة" مع الخارجية المصرية. وبدأ ذلك عندما تعمدت الحكومة الاسرائيلية تعديل برنامج الزيارة الرسمية الاولى لوزير الخارجية عمرو موسى في آب اغسطس 1994 بحيث تتضمن زيارة النصب التذكاري لضحايا النازية من اليهود، وأجّل رابين استقباله لموسى اربع ساعات حتى تتم زيارة النصب. وانتهى الأمر، بعد اتصالات مع القاهرة، بأن تقتصر الزيارة على الجانب المخصص للاطفال من النصب التذكاري. وفي اعقاب زيارة موسى بدأت دوائر في الخارجية المصرية تفكر في جعل زيارة قبر الرئيس جمال عبد الناصر جزءاً رئيسياً من برنامج زيارة المسؤولين الاجانب. ولم تكن أصداء أزمة الزيارة قد خمدت بعد، حتى جرت المواجهة بين رئيس الوزراء الاسرائيلي يومها اسحق رابين والوزير موسى في قمة الدار البيضاء في تشرين الاول اكتوبر 1994، وذلك بعدما رد عمرو موسى بقوة على ادعاءات رابين حول الحق التاريخي لليهود في القدس الموحدة، وأكد ان القدسالشرقية مدينة عربية محتلة. كما اضطر بيريز الى تقديم توضيحات لموسى حول التصريحات التي نسبت له، وقال فيها "ان مصر قادت المنطقة 40 عاماً الى الهاوية، وعلى العرب ان يجربوا قيادة اسرائيل للمنطقة". وفي اعقاب المواجهة بين بيريز وموسى في واشنطن في شباط فبراير 1995، ابان المؤتمر الخماسي الذي ضم الى جانبهما السلطة الوطنية والولايات المتحدة وروسيا، كتب موردخاي فارتهايمر في صحيفة "هتسوفيه" 21 / شباط / فبراير 1995 تحت عنوان "مصر والمواجهة مع اسرائيل" "ان هذه المواجهة التي جرت بين موسى وبيريز، وان كانت تذكر بالمواجهة التي دارت قبل حوالي ثلاثة آلاف عام بين اليهود والفراعنة في مصر، إلا انها تؤكد انها مواجهة على قيادة المنطقة". وعندما سرب قسم التخطيط في وزارة الخارجية الاسرائيلية ما سماه ب "وثيقة عقاب مصر" رداً على مواقفها المعادية لاسرائيل في كل المحافل والمناسبات، جاء رد موسى بسيطاً، "ان مثل هذه الاوراق مكانها الطبيعي سلة المهملات". في أعقاب ذلك شنت الخارجية المصرية حملة ضد استثناء اسرائيل من الانضمام الى معاهدة الحد من انتشار الاسلحة النووية وضد التمديد الدائم للمعاهدة، ولم يتمكن رئيس الوزراء الاسرائيلي امام هذه الحملة من السيطرة على اعصابه، عندما قال "إن هناك رياحاً عفنة تهب من وزارة الخارجية المصرية" التي وصفها بأنها "تشكل دولة داخل الدولة المصرية" ظناً منه بأن الرئيس مبارك سيعمد الى تقليص دور الخارجية المصرية، إلا ان رد مبارك جاء ليؤكد ان "الخارجية المصرية تنفذ سياسة الحكومة". وبدت روح الود المفقود طاغية على العلاقات بين اسرائيل والخارجية عندما تفجرت قضية قتل الاسرى المصريين على يد جنود وضباط اسرائيليين في حربي 1956 و1967، اذ واصلت الخارجية المصرية حملتها المطالبة بإجراء تحقيق في هذه الجرائم وتقديم اعتذار عنها وتعويض أهالي الضحايا، الامر الذي رفضه رابين، واضطر بيريز الى التسليم به في زيارته الاخيرة للقاهرة حتى يتخلص من بند دائم على جدول اللقاءات والاتصالات بفعل اصرار الخارجية المصرية عليه. وعندما بدأت الاستعدادات لعقد مؤتمر التعاون الاقتصادي الشرق اوسطي في عمان في 28 تشرين الاول اكتوبر الماضي، حرصت الحكومة الاسرائيلية على تسريب معلومات حول عدم تنفيذ مصر للشقين الاقتصادي والثقافي من معاهدة السلام التي وُقّعت في آذار مارس 1979، كما أكد بيريز ان مصر لم تحقق "سلاماً اقتصادياً" مع اسرائيل وانها ستخسر كثيراً من جراء ذلك. وهنا اخرجت الخارجية المصرية بعض ما في ملفاتها من وثائق تؤكد نكوص اسرائيل في تنفيذ بنود في معاهدة السلام على نحو يفقد الموقف الاسرائيلي صدقيته، وحددت الخارجية اربع قضايا على سبيل المثال، اولاها عدم تنفيذ البند الثامن من معاهدة السلام الخاص بتشكيل لجنة لتعويض مصر عن الاضرار التي لحقت بها من جراء احتلال سيناء 1967 - 1982 واستنزاف مواردها النفطية والمائية، وقدرت التعويضات بعد معدلات التراكم والفائدة بحوالي 20 بليون دولار. وثانيتها قضية دير السلطان التابع للكنيسة المصرية الذي سلمته قوات الاحتلال بعد حرب 1967 الى الكنيسة الاثيوبية. وثالثتها نقل مخيم كندا للاجئين الفلسطينيين من رفح المصرية الى تل السلطان في رفح الفلسطينية، بل ان اسرائيل ترفض ادخال سكان المخيم 4500 نسمة في عداد النازحين. واخيراً عدم تسليم مصر حتى الآن خرائط الالغام التي زرعتها القوات الاسرائيلية في سيناء خلال الاحتلال على نحو يخالف بنود معاهدة السلام. وحرص وزير الخارجية المصري خلال قمة عمان الاقتصادية على تأكيد الارتباط بين السلام الشامل والتعاون الاقتصادي في المنطقة. وفي كلمته امام القمة حدد ثوابت السياسة الخارجية المصرية بقوله "لا يمكن لمصري او عربي ان يتصور حلاً نهائياً ولا سلاماً شاملاً في الشرق الاوسط من دون قيام دولة فلسطينسة مستقلة او دون انسحاب شامل من اراضي سورية ولبنان ومن دون اجراءات لإقامة منطقة خالية من اسلحة الدمار الشامل في الشرق الاوسط". وأكد انه "من دون التسوية الشاملة لن يكون هناك تطبيع للعلاقات". وبعد عودته من عمان واصل موسى تأكيد ثوابت السياسة الخارجية وان "السلام عربي - اسرائيلي وليس اسرائيلياً فقط، بمعنى انه ليس كل ما تراه اسرائيل يطبق، ولكن ما تتفق عليه مع العرب هو الذي سيطبق". ولفت الى ان مصر تدرك التداعيات المترتبة على هذه الثوابت في حديثه لصحيفة "الاهرام" 11 كانون الاول / ديسمبر الجاري بقوله "ان تقدم السلام سيؤدي الى تقدم التعاون الاقليمي، وهذا هو الخط الصحيح سواء ادى الى مكسب او ضرر بالنسبة الينا، وسواء ادى الى علاقات جيدة او غير جيدة مع هذه القوة او تلك". والحاصل ان الصراع الواضح بين الخارجية المصرية واسرائيل لا يمكن ان يعود الى خلافات تكتيكية او ابعاد شخصية بحيث ان للمؤسسة الخارجية ثوابتها الاستراتيجية، وان كان ذلك لا ينفي السمات الشخصية المتفاوتة التي تلعب دوراً في اخراج المواقف والتعبير عن الرؤى، الامر الذي يحملنا على القول ان الخارجية تمثل جزءاً من مؤسسة الدولة في رؤيتها الاستراتيجية لمكونات الامن القومي المصري وارتباطه بالامن القومي العربي، تلك المدرسة التي ترى في طبيعة ما يحدث على ارض فلسطين احد العوامل المؤثرة باستمرار على الامن القومي المصري. فما يجري في فلسطين يمكن ان يهدد قناة السويس، ومن يهدد القناة بإمكانه ان يمثل تهديداً للأمن القومي المصري، وهي رؤية ثابتة منذ العهد الفرعوني القديم.