يحتدم الجدل في ايران عشية التحضير للانتخابات التشريعية التي ستجري في آذار مارس المقبل وتؤثر إلى حد كبير على تحالفات الاجنحة السياسية وما يترتب على ذلك من اختيار المرشح لخلافة الرئيس هاشمي رفسنجاني بعد انتهاء ولايته الثانية في منتصف عام 1997. ومن قراءة الخريطة السياسية وتوزع القوى داخلها يبرز الوضع السياسي وكأنه لا يحمل أية مفاجآت، بعد اعلان جناح اليسار الديني المتشدد، وتحديداً اقطاب ما اصبح يعرف ب "روحانيون مبارز" او مجمع علماء الدين المناضلين، العزوف عن خوض الانتخابات النيابية الا في حدود المشاركة الصورية، اي الادلاء بالأصوات ليس الا. لكن تعقيدات الرواق الايراني وتضاريسه المختلفة لا تحمل إلا على توقعات ربما تفاجئ الجناحين الدينيين الرئيسيين في المعادلة الرسمية، وهما، إلى جانب "روحانيون مبارز". جماعة رابطة علماء الدين المناضلين "روحانيت مبارز" اي اليمين الديني الذي تعرض إلى انشقاقات جعلته ينقسم إلى محافظ تقليدي ويمين جديد ترسم له اوساط مطلعة مستقبلاً كبيراً بعد الانتخابات. ويشعر اقطاب اليسار الديني وهو ايضاً متشدد وعصري ان جدله المزمن مع اليمين الديني، أدى إلى نتائج ستظهر في الانتخابات لاحقاً عندما يكتب النجاح للمستقلين والتكنوقراط، وربما لأوساط تعارض دمج الدين بالسياسة، على شاكلة افكار الدكتور عبدالكريم سروش الذي تتهمه الاوساط الدينية بالعمل على فصل الدين عن السياسة. وبكلمة اوضح فإن نزاع الجناحين الدينيين وحجم التهم التي كالها كل طرف للآخر، خصوصاً خلال الانتخابات النيابية الاخيرة قبل اقل من اربع سنوات دفعت كثيرين إلى تأييد المستقلين والوطنيين وربما ايضاً انصار الاحزاب العلمانية ورجالات التخصص والليبراليين. وتخشى اوساط في الجناحين ان تؤدي خلافات الطرفين إلى ازدياد قوة معارضي التيار الديني بشكل يصبحون فيه مشاركين في صنع القرار الامر الذي يؤدي إلى تغييرات جذرية لا تخطر على بال. ويشغل هذا الهاجس بشكل خاص جماعة اليسار الجديد الذين استخدموا اصطلاحاً بدا غير مألوف في الحديث عن مخاطر الغزو الثقافي الذي يقول الجناحان ان ايران تواجهه لايجاد "ردة" عن "القيم الثورية" بعد قيام نظام الجمهورية الاسلامية. وظهر قبل ايام اصطلاح "الاستحالة" في تحذيرات اليسار الجديد الذي ما انفك يكرر، ان الوضع الراهن وتطبيقات برامج الاصلاح واستمرار النزاع بين الجناحين او محاولة اليمين الديني اقصاء منافسه اليسار الديني عن الساحة السياسية نهائياً، تهدد بعودة "المتغربين" المتأثرين بالثقافة الغربية والليبراليين إلى السيطرة على الحياة الاقتصادية والثقافية. ويرى اصحاب هذا الاتجاه ان استشراء مظاهر الترف في طبقات من المجتمع وعودة اصحاب رؤوس الاموال الذين نموا وترعرعوا في عهد الشاه، إلى مزاولة نشاطهم من جديد، تحت مسميات شتى، واطلاق الحريات لعدد من المفكرين من أمثال عبدالكريم سروش، ستوفر الفرص لنمو عملية الاستحالة الثقافية والاجتماعية. وتشير مصادر مطلعة في البرلمان إلى ان جهات غربية حكومية ناقشت موضوع الانتخابات مع اوساط ايرانية رسمية. وقالت ان نائب رئيس البرلمان الالماني هانس كلاين الذي زار طهران اخيراً، بحث في موضوع الانتخابات مع كبار المسؤولين الايرانيين بما يدفع إلى الاعتقاد بأن بعض الدول الغربية ربما يضغط في اتجاه المزيد من مشاركة الليبراليين والتكنوقراط وتحديداً انصار "الجبهة الوطنية" و "حركة الحرية" و "حزب الشعب" وغيرها من الاحزاب المنبوذة من قبل المؤسسة الدينية الحاكمة. ولفت المراقبين ان سفراء دول "الترويكا" الاوروبية ايطاليا وفرنسا واسبانيا في طهران اجتمعوا إلى المساعد السياسي لوزير الداخلية، المسؤول مباشرة عن العملية الانتخابية، وعبروا عن قلق الاتحاد الاوروبي ازاء "الديموقراطية" والانتخابات. وأثارت هذه الظاهرة قلق انصار اليسار الجديد الذين حمّلوا اليمين مسؤولية "التدخل الاجنبي الخطير في شؤون البلاد"، ولفتوا إلى قرار سابق اصدرته الأممالمتحدة تحت ضغوط اميركية يوفر امكانية الاشراف "الدولي" على الانتخابات في الدول التي تعاني من ضعف ممارسة الديموقراطية. "الو... سلام" وقالت اوساط هذا التيار ان بامكان اميركا استخدام غطاء "الشرعية الدولية" للتدخل في الانتخابات بذريعة حماية الديموقراطية، والاخطر في كل ذلك، بالنسبة إلى هذا التيار، ان هذا الموضوع تحول من "نقاش النخب" إلى الشارع الايراني، وهو ما يظهر هذه الايام في زاوية "الو... سلام" المهمة جداً لقراءة اتجاهات الرأي العام في ايران، وقد دأبت عليها صحيفة اليسار الديني المتشدد "سلام". ويمكن ملاحظة طبيعة النقاش بين القراء والصحيفة من على منبر هذه الزاوية ودعوة بعضهم إلى التخلص مما يسمونه هيمنة اليمين وقدرته على اقصاء من يشاء من ساحة الانتخابات، بالقبول باشراف الاممالمتحدة على الانتخابات، او على الاقل الموافقة على ما فعله العراق في استفتائه الاخير، ما يعني، في نظر القراء، مشاركة مراقبين من الخارج في الاشراف على الانتخابات. ونصحت صحيفة نصف شهرية تصدر عن اليسار الجديد، اولياء الامور بأن يختاروا بشرف القبول بمعارضة منتقدة مقبولة، منبثقة من داخل النظام تدخل البرلمان وتساهم في الاشراف على نشاط السلطة التنفيذية، قبل ان يضطر ولاة الامر إلى "القبول بذل الاشراف الاجنبي" على الانتخابات. وأثارت قرارات اخيرة، اتخذها وزير الداخلية علي محمد بشارتي، بتغيير كبار المسؤولين في المحافظات والمدن والقائمقاميات ممن يؤثرون بشكل مباشر في ادارة الانتخابات، الاجنحة الاخرى التي اعتبرت هذه التغييرات لمصلحة اليمين الحاكم. وطالبت الرئيس رفسنجاني الذي انتقد بدوره القرارات بممارسة اقصى درجات الحزم في الانتخابات، وان لا يسمح بممارسات غير ديموقراطية شهدتها الانتخابات السابقة. ويقول مسؤولون سابقون في الحكومة، من غير جناح اليمين، ان الولاياتالمتحدة تعمل على تضييق الخناق على ايران ومحاصرتها في مواقع عدة بدءاً من تعزيز التواجد العسكري قرب الامن القومي الايراني، مروراً بتعقيد الازمة الافغانية والصراع في منطقة القوقاز بين ارمينياوأذربيجان وداخل أذربيجان نفسها، والاقتراب من بحر الخزر في الكونسرتيوم النفطي لاستثمار ثلاثة حقول آذرية، استبعدت منه ايران، والحضور الاميركي الفاعل سياسياً في شمال العراق وغيرها من المواقع. ويرون ان المحصلة النهائية لهذا التضييق الذي ترافق مع الحظر التجاري الاميركي، هي تقطيع اوصال ايران. لذلك يعتقد اقطاب اليسار الديني كما برز في التظاهرات التي أقيمت ولا تزال في الجامعات الايرانية ان تفويت الفرصة على الولاياتالمتحدة لتحقيق هدفها في تقطيع اوصال ايران وتقسيمها يكمن في "توسيع نطاق شرعية النظام بتعزيز ركائزه الشعبية وافساح المجال امام مشاركة واسعة لقطاعات الشعب وباقي الاجنحة السياسية في صنع القرار". وفي هذا الواقع يشترك اليسار الديني وباقي الاجنحة، عدا اليمين الديني، في مقولة ان يتحمل اليمين نتائج "تقييد الحريات" ووضع العقبات والعراقيل "القانونية" امام مشاركة واسعة في الانتخابات، في اشارة إلى القوانين الجديدة التي سنها البرلمان الذي يسيطر عليه اليمين لمصلحة تعزيز سلطات مجلس الوصاية صيانة الدستور وكرست قدرته على اقصاء المنافسين. ويستعر الجدل على صلاحيات مجلس الوصاية وصيانة الدستور، فالمعارضون يرفضون تدخل اعضاء المجلس في تحديد صلاحية المرشحين واهليتهم لخوض الانتخابات. ويصرون على ان وظيفة المجلس لا تخرج عن دائرة الاشراف على صحة العملية الانتخابية، كما ورد في الدستور، بينما يؤيد اليمين صلاحية المجلس في اقصاء من يشاء من المرشحين. ودفع هذا الجدل اليسار إلى مقاطعة الانتخابات واعلان اقطابه، مثل رئيس البرلمان السابق مهدي كروبي والوزيرين السابقين علي اكبر محتشمي وبهزاد نبوي، ان جناح "روحانيون مبارز" لن يرشح قائمة او افراداً في الانتخابات التشريعية المقبلة، بحجة ان ظروف الانتخابات السابقة، ما زالت قائمة، ان لم تكن ساءت اكثر. ثلاث آفات في خضم هذا النقاش برزت افكار عبدالكريم سروش وهو عضو سابق في مجلس الثورة الثقافية، المتهم من قبل المؤسسة الدينية وانصارها بتوجيه انتقادات حادة إلى الحوزات الدينية ونظرية "ولاية الفقيه"، حيث يعتبره البعض نسخة ايرانية للمصري نصر حامد أبو زيد في شأن الموقف من الفكر المعرفي الديني. ويرى سروش ان الحوزات الدينية اصيبت بثلاث آفات: الاقتراب الشديد من العامية حتى السطحية، والتسييس الذي افقدها صفتها العلمية، والاتجاه نحو المادية منذ انغماس علماء الدين في السلطة. ويعارض سروش نظرية استمرار الثورة ويرى ان التفسير الايديولوجي لا يصبح ضرورياً في مرحلة الدولة، وهي بنظره غير دينية، بل ان الدولة الدينية ليس لها وجود حقيقي وموضوعي، لأنها، كما يقول، مقولة دنيوية. وأصبح هذا الامر هاجساً كبيراً في ايران. واثارت الدعوة إلى ابتعاد علماء الدين عن السلطة والشؤون التنفيذية، حفيظة كبار القيادات الدينية التي اطلقت حملات اعلامية لاحتواء هذه الدعوة ونتائجها الجانبية عشية الانتخابات، وللتحذير من تحويل ايران إلى بلد يحكمه العلمانيون، وتحقيق نظرية الاستحالة. ولفت مراقبون إلى زيارة تفقدية مدروسة قام بها مرشد الثورة آية الله خامنئي، لاقليم مازندران في الشمال الذي يتحدر منه عدد كبير جداً من علماء الدين، ركز خلالها على توجيه تحذير شديد من دعوات ابعاد علماء الدين عن السلطة. في هذه الصورة تعتبر اوساط مراقبة ان مستقبل التكنوقراط والمستقلين عن الجناحين المتنافسين يمكن ان يكون "زاهراً" اذا استجابت ايران لشروط معادلتها الدولية، او اذا منح اليسار اصواته لمرشحين من خارج دائرة اليمين، مع ان تيار اليمين الجديد الذي يضم عناصر كثيرة من الليبراليين والتكنوقراط، قد يكتسح غالبية المقاعد، بينما يرى آخرون ان الغالبية النسبية ستكون لليمين التقليدي، بما يوفر لرفسنجاني قدرة ضخ جناح قوي خاص به يدعمه، سواء اذا تم تعديل الدستور لرئاسة ثالثة، وهذا أمر مستبعد في الوقت الحاضر، او في موقعه الجديد ربما لرئاسة البرلمان مرة اخرى. وتقول اوساط قريبة من مرشد الثورة الذي يملك وحده الحق في تعديل الدستور لمصلحة ولاية رئاسية جديدة لرفسنجاني، انه ينتظر نتائج الانتخابات التشريعية ليتدخل او يوعز إلى "مجلس تحديد المصلحة" الذي يفك به الولي الفقيه التشابك والاختلاف بين البرلمان ومجلس الوصاية المشرف على الدستور والبرلمان، لاجراء تعديل دستوري او تمديد رئاسة رفسنجاني الحالية إلى نهاية خطة التنمية لتصبح رئاسته الثانية ست سنوات بدلاً من اربع سنوات في حال عدم السماح له بولاية ثالثة. وقالت الاوساط ان نتائج الانتخابات وطريقة توزيع القوى في البرلمان المقبل هي التي ستحدد الرئيس المقبل، فأما ان يبقى رفسنجاني لاكمال برنامج الاصلاح الاقتصادي الذي بدأه في منتصف رئاسته الاولى وشرع به بشكل جاد هذا العام قبيل انتهاء رئاسته الثانية منتصف العام 1997، واما ان اليمين التقليدي المحافظ يتمكن من المجيء برئيس البرلمان الحالي علي اكبر ناطق نوري للرئاسة، وهو يمارسها بالفعل مثيراً ضده انتقادات. لكن رفسنجاني وآخرين من أقطاب اليمين الجديد لا يفضلون نوري الذي بدا نجمه بالأفول. وترشح اوساط اليمين الجديد نائب رئيس البرلمان الحالي حسن روحاني الذي يجمع بين العصرية والروحانية، ولا تستبعد ان يدعم الولي الفقيه ترشيح وزير الخارجية علي اكبر ولايتي الذي حظي اخيراً بتأييد جماعة انصار حزب الله التي برزت في مواجهة افكار سروش "والانحراف او العدول عن نهج الثورة". فقد تظاهر هؤلاء الانصار في شوارع طهران احتجاجاً على "رواج المفاسد الاجتماعية"، ونددوا بعمل رئيس البلدية غلام حسين كربايحي الذي ترشحه بعض الاوساط للرئاسة، وتجمعوا امام وزارة الخارجية معلنين دعمهم وتأييدهم للسياسة الخارجية ومهندسها علي أكبر ولايتي. وتثير مواقف انصار حزب الله، وهو تيار لا يمين ولا يسار تتزعمه قيادات سابقة في الحرب مع العراق، تساؤلات عن الجهة التي تقف وراء هذه الجماعة التي لم يتمكن وزير الداخلية من منعها من اقامة التظاهرات بشكل اسبوعي وتقول رداً على بشارتي الذي اشترط الحصول على تصريح قانوني من وزارته قبل تنظيم اي تظاهرة، انها ليست حزباً سياسياً يحتاج إلى ترخيص قانوني، وما تقوم به "يندرج في اطار الامر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي كفله القانون"، ويعارض انصار حزب الله بعض تطبيقات برنامج رفسنجاني الاصلاحي، ويشنون حملة نشطة ضد عدد من المسؤولين الذين يدعمهم رئيس الجمهورية، كرئيس البلدية ورئيس مديرية التربية البدنية العامة. وما يتعلق بشكل خاص بالرياضة النسوية التي تقودها فائزة هاشمي رفسنجاني. ودخلوا في مواجهة مفتوحة مع صحيفة "اطلاعات" خصوصاً مع مساعد رفسنجاني للشؤون البرلمانية والقانونية، عطاء الله مهاجراني، كاتب مقال "الحوار المباشر" مع اميركا الذي عارض نهج الانصار في التعاطي مع افكار سروش وقيامهم باضرام النار في دار نشر "مرغ آمين" احتجاجاً على نشر كتاب تضمن اساءة للتعبويين البسيج. واللافت ان اقطاباً في المؤسسة الدينية اعلنوا دعمهم لهذه الجماعة، وقال آية الله احمد جنتي، احد كبار الزعماء الدينيين، الذي ينتقد باستمرار برامج الاصلاح الذي يحظى بقاعدة شعبية كبيرة "ان انصار حزب الله يحظون بتأييد القائد" وكان جنتي أيد علناً من على منبر صلاة الجمعة المهم في صنع الاتجاهات في الرأي العام الايراني، قيام الانصار باشعال النار في الدار المذكورة، وقال ان وصية الإمام الراحل تنص على ان يتصدى "حزب الله"، لمظاهر الانحراف والفساد في حال تقاعس المسؤولون عن ذلك وهو ما يفتح امام انصار حزب الله ابواباً واسعة في مواجهة المعارضين الذين لم يجرؤ الكثيرون منهم على التصدي لطريقتهم في محاربة الفساد والانحراف. حتى صحيفة "سلام" المتشددة التي انتقدت طريقتهم، لم تقف ضدهم كما يبرز من مقالاتها في الدفاع عن قيم الثورة، وكذلك فعل مساعد رفسنجاني للشؤون البرلمانية والقانونية عطاء الله مهاجراني، الذي خفف من انتقاداته للجماعة، وقال في توضيح متعمد انه يؤيد حق انصار حزب الله في الدعوة إلى المجادلة مع سروش بالتي هي احسن بعيداً عن اجواء التوتر.