وضعت وفاة زعيم المعارضة المدنية الايرانية المهندس مهدي بازركان الأصبع من جديد على جرح العلاقة المفتوح منذ أوائل عام 1979، عندما انتصرت الثورة الاسلامية، بين هذا النوع من المعارضة والحكومة الايرانية بقيادة المؤسسة الدينية الراهنة. واذا كانت هذه المؤسسة لم تكترث يوماً لا بحزب بازركان ولا ببازركان نفسه على صعيد اشراكه في السلطة أو البرلمان اللذين خرج منهما نهائياً في أعقاب حادث اقتحام "الطلبة الثوريين" السفارة الأميركية في طهران، وسقوط أول رئيس جمهورية دستوري عندما أقر البرلمان عدم الكفاءة السياسية لأبو الحسن بني صدر في حزيران يونيو 1981، الا ان هذه المؤسسة أبدت اهتماماً شديداً مع الحكومة بالذي قبل التحدي واستمر فيه قبيل انتصار الثورة بعشرة أيام وحتى وفاته. اختيار الخميني عندما وافق المهندس بازركان على قرار الامام الخميني بتعيينه أول رئيس للحكومة الموقتة الى جانب حكومة زميله في الجبهة الوطنية شهبور بختيار وكانت لما تسقط بعد، فان كل الدلائل كانت تشير في ذلك الوقت الى دقة وسلامة اختيار الخميني، لأن احداً غير بازركان لم يكن يستطيع قبول لعبة شد الحبل العنيفة في تلك الأيام الدموية يوم كانت الولاياتالمتحدة تخطط عبر مبعوثها الى طهران لتنفيذ انقلاب عسكري يفشل خطط الحشود البشرية الايرانية بقيادة الخميني لاسقاط نظام الشاه. ولم يكن الا بازركان البيضة التي وازنت القبان وميزان التحدي الخطير بتزعمه في ذلك الوقت "الجبهة الوطنية" التي كانت تضم الأحزاب والشخصيات المعارضة غير الدينية، وقربه من الخميني الذي عينه رئيساً للحكومة الموقتة، فيما كان الشاه لا يزال في السلطة وان كان خارج ايران، يحكم عبر رئيس وزرائه بختيار. ولكن وبعد انهيار حكومة بختيار وانتصار حكومة بازركان الموقتة، وكان الراحل أحد أعضاء مجلس الثورة والمشرف على تصريف شؤون النفط في زمن الاضرابات التي شلت نظام الشاه وعجلت في سقوطه، انقطع حبل الود بين بازركان والحكم الجديد أي بينه وبين المؤسسة الدينية، مع انه لم يكن بعيداً عنها بأفكاره وكتاباته التي سجلت تاريخه في الحركة الدينية الايرانية. وارتفعت لافتات "الثوريين" باتهام بازركان بالليبيرالية والسعي لترتيب علاقة جديدة بين النظام الجديد والولاياتالمتحدة التي اقتحم "الطلبة الثوريون" سفارتها واحتجزوا ديبلوماسييها 444 يوماً شهدت مخاض العلاقة التي تحولت الى خانة المعارضة بين بازركان وحزبه والمؤسسة الدينية. في تلك الحقبة لم يوافق مجلس الوصاية المشرف على البرلمان وتنظيم الانتخابات على ترشيح بازركان لا للبرلمان ولا للانتخابات الرئاسية، لكن ذلك لم يمنع المهندس من الاستمرار في خط المعارضة التي تميزت عن غيرها من المعارضات بأنها حافظت على تقليد اختاره بازركان وبعض أنصاره وهو ان تكون هذه المعارضة في ايران وداخلها وتبتعد عن الأساليب المسلحة وما أصبحت تعرف في بعض الأوساط بالمعارضة المدنية. وطبعاً استفاد بازركان من قدر من الحريات ما زالت موجودة في ايران، ألا ان ذلك لم يمنع من تعرضه الى هجوم بلغ ذروته بعد مقابلة مثيرة ونادرة اجرتها معه احدى المجلات الثقافية المنشقة وما زالت تصدر في طهران وصف فيها الشعب الايراني بأنه محبط وقد "خسر الدنيا والآخرة"، ما أثار عاصفة من الغضب عليه وعلى المجلة التي تعرضت مكاتبها لهجوم عناصر التعبئة الباسيج وشن مرشد الثورة آية الله علي خامنئي انتقاداً من دون ذكر الاسم على بازركان الذي واصل معارضته من دون ان يأبه بالمنتقدين. اتفاق جنتلمان واللافت ان تاريخ هذا الرجل الذي التزم خيطاً رفيعاً ظل يربطه بالجمهورية الاسلامية ودستورها الذي لم يرفضه حتى وهو في المعارضة المدنية الجديدة، ان حزبه "حركة الحرية في ايران" وفي ترجمة اخرى للأسم الفارسي وهو "نهضة آزادي ايران" يطلق على حزب بازركان حركة تحرير ايران ظل يمارس نشاطه السياسي على رغم عدم موافقة وزارة الداخلية عليه. وقيل ان السلطات اشترطت لمنح حزب بازركان الاجازة الرسمية ضمن قانون الأحزاب، ان يغير اسمه، ولكن بازركان رفض ذلك. واللافت أيضاً في هذا الصدد ان الحكومة الايرانية نفت هذا الادعاء فيما لم ينفه بازركان ولم يؤيده ومضى في معارضته وحزبه من دون ان يلتفت الى القانون الذي التزم بأساسياته، وكذلك فعلت الحكومة وهي تلتزم "باتفاق جنتلمان" ابرم بين بازركان والنظام أوائل الثورة يقضي بالمحافظة على هذا الخيط الرفيع: فلا هو يرفع السلاح لتغيير النظام، ولا النظام يقمعه وحزبه ما دام داخل النهج وان ظل معارضاً حتى وافاه الأجل عن عمر يناهز 88 عاماً، وهو يحاول السفر الى الولاياتالمتحدة للعلاج بعد ان وافقت السلطات الايرانية على خروجه من ايران بل وساهمت في علاجه وكرمته بعد وفاته أي تكريم وأصدرت الحكومة بعد اجتماع خاص بياناً أشادت به، وكذلك فعل الاعلام الرسمي والصحافة وشيعته عشرات الوف الايرانيين مع شخصيات كبيرة مسؤولة الى مثواه الأخير في مدينة قم قرب ضريح السيدة معصومة وانتشرت وصيته التي كشفت شفافيته وهو يتكهن بمكان وفاته عندما استند فيها الى الآية الكريمة "وما تدري نفس ماذا تكسب غداً، وما تدري نفس بأي أرض تموت". ويرى بعض الأوساط ان ايران الرسمية ستبقى تشجع نهج بازركان في المعارضة، وهي تختلف كثيراً عن غيرها من المعارضات في انها تستند الى الدستور وهو الميثاق الذي صادقت عليه مختلف الشرائح والأحزاب والشخصيات الايرانية. وفي اطاره عمل بازركان يوم ظل يعارض استمرار الحرب العراقية - الايرانية بعد تحرير مدينة خورمشهر من القوات العراقية في ايار مايو 1981 واستمر في نهجه حتى وفاته.