قبل نحو عام من الثورة الاسلامية بإيران، في 1979، بدا أن النظام الايراني يميل الى الاستقرار. ولم يتردد التلفزيون الايراني في بث صور احتفال الشاه مع ضيفه الرئيس الاميركي، جيمي كارتر، بعيد رأس السنة الميلادية. ولم ينظر المسلمون والقوميون الإيرانيون بعين الرضا الى هذه الصور. وبعد عام من الحادثة، غادر شاه ايران بلده الى المنفى، في 16 كانون الثاني (يناير) 1979. وعاد آية الله، روح الله خميني من المنفى الى ايران في الاول من شباط (فبراير) من العام نفسه. وفي 4 تشرين الثاني (نوفمبر) 1979، أُسر الديبلوماسيون الاميركيون العاملون بطهران. ففي نهاية عهده، لم يبق الشاه موحد ايران والمدافع عن ضعفاء الشعب أو بطل الحداثة، وانقلب ديكتاتوراً يفتقر الى تأييد شعبه، ويرعى نظاماً فاسداً. وشابت نقاط ضعف كثيرة نظام الشاه. فمحمد رضا شاه بهلوي فرض، في 1962، إصلاحات اقتصادية أسهمت في تعاظم النزوح من الريف الى المدينة، وفي بث الاضطراب في أبنية المجتمع. ونشط في ايران تياران معارضان، الاول هو تيار القوميين الليبراليين الذين عارضوا اطاحة مصدق، والثاني تيار رجال الدين على رأسهم آية الله خميني. وهؤلاء قادوا ثورة كبيرة قمعت قمعاً دامياً، في حزيران (يونيو) 1963. ورأى ايرانيون كثر أن الولاياتالمتحدة تستتبع الشاه. فريتشارد نيكسون وصفه ب «حارس الخليج الفارسي»، يوم استولى بالقوة على ثلاث جزر في مضيق هرمز الاستراتيجي، وأغضب، تالياً، القوميين العرب. ومد يد العون الى السلطان العماني لقمع حركة تمرد شيوعية في الظفار. وأرسل فرقة عسكرية ايرانية الى فيتنام للقتال الى جانب الاميركيين. وقوض تفشي التضخم المالي، والانكماش الاقتصادي، والبطالة، شعبية الشاه. وهو ألغى الثنائية الحزبية، في 1975. وأسس حزب «التجديد»، وأرسى نظاماً توتاليتارياً، وأنشأ شرطة سياسية، «السافاك»، لإحكام قبضته على ايران. وفي منفاه العراقي (منذ 1964)، سوغ الخميني معارضته النظام الملكي البرلماني الذي ينزع الطابع الاسلامي عن المجتمع الايراني. ووفر الشاه ذرائع كثيرة للخميني. ففي 1971، نظم حفلاً كبيراً في برسيبوليس في ذكرى الامبراطورية الايرانية ال2500. وفي الحفل، أُبرزت الرموز الثقافية الفارسية الموروثة من حقبة ما قبل الاسلام، واستُبعدت عامة الشعب من المشاركة. وأمسك الشاه بمقاليد السلطة كلها، وهمّش دور البرلمان والمثقفين. وأضعف فوز المرشح الديموقراطي وداعية حقوق الانسان، جيمي كارتر، في انتخابات 1976 الرئاسية الاميركية، نفوذ الشاه. فوسع لجان الصليب الاحمر زيارة السجون بإيران. وحُظر اللجوء الى تعذيب السجناء، وارتخت قبضة الرقابة. فوجه عدد من القادة الليبراليين «رسائل مفتوحة» الى الشاه مطالبين بالتغيير، ونُشرت أعمال علي شريعتي الاسلامي المعارض التقدمي، الذي توفي في لندن، غداة خروجه من السجن. واستقبلت تظاهرة كبيرة الشاه عند زيارته واشنطن، في تشرين الثاني (نوفمبر) 1977. وشارك فيها مئات المعارضين الايرانيين المقيمين في شمال اميركا. وأطلقت الشرطة الاميركية قنابل مسيلة للدموع. ونقلت شاشات التلفزة الايرانية صور دموع الشاه والامبراطورة فرح والرئيس كارتر. ورأى الايرانيون أن ملكهم ضعيف، وكائن بشري مقهور. وفي كانون الثاني (يناير) 1978، نشرت صحيفة «اطلاعات» المسائية مقالة طويلة شهّرت بآية الله خميني، وزعمت أن أصوله هندية، وأنه من المرتزقة البريطانيين. فتظاهر علماء الدين في قم تنديداً بالمقالة. وقُمعت التظاهرة قمعاً قاسياً لم يفلح في وأد تحركات مناهضة للشاه عمّت البلاد. وتولى رجال الدين قيادة حركة المعارضة، في وقت افتقرت قوى المعارضة الايرانية، العلمانية واليسارية والليبرالية القومية، الى قائد يوحد رايتها. وقارنت التظاهرات الدينية الشاه بالخليفة الاموي الذي قمع شيعة الإمام الحسين. ولم تعد الحكومة الايرانية العدّة لمواجهة تظاهرات ضخمة. وكان مخزونها من الرصاص المطاطي المستخدم في تفريق التظاهرات نافداً. واتسعت التظاهرات في صيف 1978، ورفع المتظاهرون لواء مطالب الليبراليين القوميين، وهي تنظيم انتخابات حرة، والاستقلال، والتزام دستور 1906 –1907، (وهذا يمنح رجال الدين حق نقض قرارات مجلس النواب)، وتحرير السجناء السياسيين. ولم تدعُ التظاهرات الى اطاحة النظام الملكي، بل الى اقالة الشاه. وفي 3 ايلول (سبتمبر) 1978، نظمت تظاهرة كبيرة امتدت من شمال طهران الى جنوبها الغربي، ورفعت صور مصدق، وشريعتي، وآية الله شريعتمداري، وهو رجل دين معتدل. ولم يكن المتظاهرون على علم بأفكار الخميني السياسية. وجل ما كانوا يعرفونه أنه يطالب بإطاحة الشاه، وتطبيق الشريعة الاسلامية. وعلى رغم تعيين رئيس وزراء جديد تعهد احترام المبادئ الديموقراطية وضبط نفقات الشاه، فلتت الامور من عقالها. وقُتل المئات في حادثة سينما ريكس في عبادان، في 19 آب (اغسطس). وأعلن قانون الطوارئ العسكري في المحافظات الايرانية وفي طهران. وفي 8 أيلول (سبتمبر)، وقع مئات القتلى في صفوف المتظاهرين. وقوضت الحادثة نفوذ الشاه. فأعلن أنه يريد تجنب اراقة الدماء. وتعاظمت حركة المعارضة. وأغلق تجار البازار ابواب متاجرهم. وفي تشرين الاول (أكتوبر)، امتد الإضراب الى المؤسسات العامة، ووسائل الاعلام، والقطاع النفطي. وعانى الايرانيون نقص البنزين والكاز المستخدم في التدفئة المنزلية والطبخ. وأنشأت المساجد شبكات تضامن لتوزيع المساعدات. وفي 6 تشرين الاول 1978، حط الخميني بباريس. وفي العاصمة الفرنسية، وجد تحركه الديني صدى دولياً عظّمته وسائل الاعلام الغربية والمثقفون الغربيون. وهؤلاء حسبوا أن الخميني هو غاندي جديد. ونشرت رسائل الخميني في أنحاء العالم، ونقلها مقربون منه الى اللغات الاجنبية، وحاكوا في ترجماتهم لغة حقوق الانسان، وبثتها إذاعة «بي بي سي». وفي 5 تشرين الثاني (نوفمبر)، أطلق الشاه سجناء سياسيين لتهدئة الليبراليين. ولكن أعمال شغب وقعت، وأُحرقت متاجر، وحطمت واجهات السينما، ونهبت مصارف. فتوجه الشاه الى الايرانيين قائلاً إنه سمع رسالة ثورتهم. وعيّن جنرالاً عليلاً في رئاسة الحكومة. فاتصلت التظاهرات، وبلغ عدد المتظاهرين نحو مليون متظاهر في 10 كانون الاول (ديسمبر). وبات تغيير النظام أمراً لا مفر منه. وفي 16 كانون الثاني (يناير) 1979، أخذ الشاه «إجازة». وبعد نحو أسبوعين، عاد الخميني من المنفى. وألقى خطبة في مدافن طهران نددت بمشروعية النظام الامبراطوري الذي قتل المسلمين، وطعن في النظام الملكي. ودعا الخميني الشعب الايراني وضباط الجيش الى إطاعة الحكومة الجديدة. واحتفى الايرانيون بعودة الخميني، ورأوا أن عودته هي عودة العدالة الى ايران بعد قرون من القمع. وعيّن الخميني مهدي بازركان، وهو اسلامي معتدل يحظى بتأييد شعبي واسع، في منصب رئيس الوزراء. وانتهج بازركان سياسة منفتحة على الغرب، ونظّم استفتاء على تغيير النظام، وانتخابات الى مجلس الخبراء. ولكن القيود على سلطة بازركان كانت ثقيلة. فرجال الدين في قم أمسكوا بمقاليد السلطة. وبعد نهب ثكنات عسكرية، وُزع السلاح على ميليشيات أهلية. ونافس المجلس الثوري، والميليشيات المسلحة، القضاء الرسمي على سلطته. ويوم عودته من المنفى، رفض الخميني زيارة جامعة طهران، معقل الحركة الثورية واليسار. وبعد الثورة، دارت أقسى النزاعات في الجامعة ومحيطها. وبدا أن سلطات الملالي المتعاظمة التي حظرت صحيفة ليبرالية، تتهدد حرية التعبير والاستقرار. فاستقال بازركان من منصبه، اثر نشر صور لقائه مستشار كارتر، زبيغينيو بريجنسكي، في الجزائر. ونزع النظام الى التشدد والتطرف. وفي 4 تشرين الثاني (نوفمبر)، اقتحم «طلاب مسلمون على خط الإمام» السفارة الاميركية بطهران، وأسروا عشرات الرهائن من الديبلوماسيين الاميركيين. وأيّد الخميني تحرك الطلاب، وندد بالتدخلات الامبريالية، وأعلن التمسك بالسيادة الوطنية. وطوى احتلال السفارة، وأسر الديبلوماسيين طوال 444 يوماً، صفحة تجربة حكومة بازركان المعتدلة. فهي لم تلتزم عقيدة الخميني، ومبادئ ولاية الفقيه التي دعا اليها الخميني يوم كان في النجف. وكان احتلال السفارة فاتحة ولاية الخميني، «الشاه المعمم»، على حد قول بازركان. ولم يفلح رئيس الجمهورية الايرانية المنتخب، أبو الحسن بني صدر، في الحد من هيمنة الملالي، على رغم أنه كان من أبرز معارضي الشاه الذين عبّدوا الطريق أمام الخميني. واضطرت الحكومة الى طلب تأييد الخميني، يومياً، في منزله المتواضع في قم. والحق أن آية الله بهشتي، وزير العدل، كان وراء ربط الدولة بالسلك الديني، وداعية تصدير الثورة الاسلامية الى البلدان الاسلامية. فهو مؤسس حزب الجمهورية الاسلامية. وحاز غالبية برلمانية في 1980. وعرقل مساعي بني صدر تحويل الجمهورية الاسلامية الى جمهورية ليبرالية تقدمية. وفي 22 أيلول (سبتمبر) 1980، شن العراق هجوماً على ايران. وفي آذار 1981، عُقد اللقاء الاخير بين الرئيس بني صدر والطلاب في ذكرى تكريم مصدق. وانتهى اللقاء الى معركة بين ناشطين ومحازبين، والى إطاحة بني صدر والقوى الليبرالية. وفي حزيران (يونيو) 1981، شن «مجاهدين خلق» حرباً أهلية انتحارية. واغتيل آية الله بهشتي في مقر حزب الجمهورية الاسلامية. ولجأ قادة «مجاهدين خلق» وبني صدر الى فرنسا، في تموز (يوليو). وانتخب محمد علي رجائي رئيساً للجمهورية، وهو والى الخميني ولاء عظيماً. واغتيل رجائي في عملية أودت بحياته وحياة رئيس الوزراء. ونظمت انتخابات جديدة، وانتُخب العالم المعمم خامنئي رئيساً للجمهورية. وشغل منصبه 8 أعوام. وأسهم ربط مؤسسات الدولة بالسلك الديني، واحتلال السفارة الاميركية، وإقصاء الليبراليين و «مجاهدين خلق» واليسار الماركسي عن الحكم، والحرب الايرانية – العراقية (وهي كانت ذريعة تصفية احزاب اليسار)، أسهمت في ارساء أسس استقرار نظام الجمهورية الاسلامية على ركن قومي ديني. * أستاذ في جامعة السوربون، عن «ليستوار» الفرنسية، 1/2009، إعداد منال نحاس