ليس للقادة العرب أن يعترضوا. وليس لهم أن يحذروا من قرع اسرائيل طبول الحرب. وهم في أي حال لم يعلنوا، منذ انطلاق مؤتمر مدريد، انهم لا يريدون السلام أو وقف المفاوضات وإن كانت تمر حالياً في جمود، لأنهم لا يريدون تحمل مسؤولية وقفها بل يودون إظهار مدى التعنت الإسرائيلي، كما قال السيد عبد الحليم خدام نائب الرئيس السوري. المحادثات بين رئيسي أركان الجيشين السوري والإسرائيلي لن تستأنف في واشنطن قريباً لأن الجولة الأولى لم تؤد إلى نتيجة. فماذا تفعل الحكومة الاسرائيلية في هذا الوقت الضائع؟ تطلق صيحات الحرب: مؤسستها العسكرية تحذر من البرنامج النووي الإيراني، ولا تخفي نياتها فتتوعد طهران بعملية مماثلة لتلك التي دمرت فيها مفاعل "تموز" النووي العراقي عام 1981. ورئيس الوزراء اسحق رابين يدعو إلى الاستعداد للحرب في المدىين المتوسط والبعيد... وتضرب طائراته عمق الأراضي اللبنانية هذه المرة، على مشارف بيروت رداً على المقاومة في الجنوب كما كانت تفعل في الثمانينات. ووزير خارجيته شمعون بيريز يعلن رفض التوقيع على معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية عندما ينظر فيها في جنيف الربيع المقبل. وصفقة الطائرات الحربية الأميركية يبدأ تسليمها للحفاظ على التفوق الإسرائيلي في ميدان الأسلحة التقليدية أيضاً. وماذا تفعل حكومة رابين بعد؟ تواصل محادثاتها مع الفلسطينيين... من دون أي التزام لمبادىء اتفاق أوسلو واتفاق القاهرة: تعهدت يوم التوقيع على الأول في أيلول سبتمبر 1993 تجميد الاستيطان، لكن بناء المستوطنات زاد من يومها حتى الآن بنسبة خمسة في المئة، وأُقرت خطة للعام الحالي ترفع نسبة الاستيطان أكثر من خمسين في المئة، والعمل في هذا المجال جارٍ على قدم وساق حول القدس خصوصاً والضفة الغربية عموماً. ويريد المستوطنون أكثر مما خخطت وزارة الإسكان، يريدون زرع بيوتهم على كل طرق الضفة. ولا ينسى رابين تذكير الاسرائيليين بأنه لم يؤيد ولن يؤيد أبداً الأنسحاب إلى خطوط 1967 وانه يريد نهر الأردن الحدود الأمنية لإسرائيل. بعد كل هذه السياسة... واسرائيل تريد السلام الشامل والعادل والأمن والاستقرار والتطبيع في الشرق الأوسط! بعد كل هذه السياسة لماذا تستمر مفاوضات السلام؟ الأمر ليس تماماً بمثل هذا السؤ بالنسبة إلى كثير من الدوائر الإعلامية والسياسية، ولا يعني أن المنطقة مقبلة على حرب وشيكة لا محالة وإن طال الجمود وتعثرت التسوية. الكلام كثير عن الصعوبات التي يواجهها رابين. لقد دخل السياسة من الباب العسكري لذلك لا تغيب عن ذهنه المسائل الأمنية. بل تضغط عليه عندما يسمع مواطنيه الذين وعدهم بالأمن يتذمرون من استمرار نشاط معارضي التسوية في غزة وخارجها، وهو وضع يتمحل هو مسؤوليته لعزوفه عن مساعدة الرئيس ياسر عرفات في بداية الأمر، وربما تحمل الزعيم الفلسطيني جزءاً من المسؤولية لعزوفه أيضاً عن بناء المؤسسات. ويسيطر هذا التذمر على هموم رابين وهواجسه استعداداً للانتخابات النيابية السنة المقبلة، وهو يواجه منافسة حادة من داخل حزبه أولاً تجلت في تدهور علاقاته مع وزراء في حكومته. مثلما يواجه منافسة من نده بنيامين نتانياهو المستفيد الأكبر من عثرات مسيرة التسوية على الجبهتين الفلسطينية والسورية. كل هذه المتاعب تدفع رابين السبعيني إلى التشدد أملاً بتجديد زعامته لحزبه وللحكومة. وليس أمام العرب سوى مراعاة الرجل وربما دعمه قريباً ليواصل مسيرة التسوية وإلا تعثرت إذا تبدل الوضع ورحل! وعلى الفلسطينيين أن يواصلوا محادثاتهم معه وأن يغضوا الطرف عن حركة الاستيطان الناشطة وإن كانت تكرس أمراً واقعاً لا يبقي أي معنى للمفاوضات مستقبلاً على المصير النهائي للأراضي المحتلة! وعلى اللبنانيين والسوريين أن يقبلوا بشروطه وتهديداته وغاراته وأن يتنازلوا لئلا يفقد الرجل مستقبله السياسي! وعلى مصر والدول العربية جميعاً أن توقف تسلحها وتخفض عديدها وعتادها ليشعر مواطنو رابين بالأمان فعلاً... فهم يواجهون العالم الإسلامي برمته وليس العالم العربي وحده! إنها عناوين لسياسة مقبلة من أجل بقاء رابين في كرسيه أولاً، أما السلام العادل الشامل فحديث آخر.