أذكر أنني طرحت على شو إن لاي، ذات يوم، قبل أكثر من عقدين السؤال الآتي: "إن زيارتنا للصين قد أشعرتنا بأن "الثورة الثقافية" حدث عظيم الشأن، وقد سميتموها "الثورة الثقافية البروليتارية العظمى" ما يعني أنها كانت "ثورة اشتراكية" ثانية بعد ثورتكم الأولى وقت استيلائكم على السلطة... فكيف تفسرون ان تكون هناك حاجة الى أكثر من ثورة اشتراكية في بلد واحد؟" قال شو إن لاي: "ولماذا تفترض ان "الثورة الاشتراكية" ينبغي ان تقع مرة واحدة في مجتمع ما، بينما نسلم جميعا بأن "الثورة البورجوازية" وارد ان تتكرر في المجتمع الواحد مرات عدة كما حدث بالفعل في فرنسا على سبيل المثال؟ لقد نجم ذلك عن الافتراض ان "الثورة الاشتراكية" تقضي على الطبقات المستغلة، وبالتالي فلا حاجة الى "ثورة اشتراكية" اخرى، ولكن ثبت ان هذا ليس صحيحاً، بل كان ذلك الخطأ الذي ارتكبه السوفيات، فان الطبقات المستغلة تتولد من جديد في صور مبتكرة لا نألفها، وبالتالي نخطئ في تشخيصها. فليس هناك "نظام اشتراكي" صارم الملامح. وثبت ان عالمنا لا يخضع - في وجه عام - لنظام صارم، بل الأرجح ان "الفوضى" لا "النظام" اهم سمة تميزه". كان لقاؤنا مع شو إن لاي لمناسبة دعوة لمحمد حسنين هيكل الى زيارة الصين في كانون الثاني يناير 1973، شملت معه عددا من الكتاب والباحثين في مركز الدراسات الاستراتيجية في "الاهرام". وقد كتب هيكل الكثير عن "نظرية الفوضى" التي كان شو إن لاي فاجأنا بها خلال لقائنا معه. وبدا لنا غريباً ان يستخدم الزعيم الصيني الكبير من دون حرج تعبير "الفوضى" وهو يصف "الثورة الثقافية" وقد كانت وقتذاك موضع تمجيد وتعظيم، حتى أنني ساءلت نفسي: "هل يمكن ان تكون احكام شو على ما يجري في الصين مستقلة ومتميزة عن فكر ماو وعن تعاليم مرشد الثورة الأعظم؟" واليوم نسمع الكثير عن "نظرية الفوضى" باعتبارها نظرية تشكل أحد اركان علمي الفيزياء والرياضيات العصريين، ولم يكن "علم الفوضى" مكتشفاً بعد، عندما أدلى شو إن لاي بتصريحاته إلينا. كانت النظرية التي استقرت في السياسة طوال هذا القرن، وربما بالذات عند المفكرين العقائديين مثل شو ان التاريخ أشبه بالخط المستقيم، انه بتبسيط شديد العبور بحركة المجتمعات البشرية من الماضي الى المستقبل. وهو لذلك لا يعود الى الوراء، بل ان التاريخ وارد فهمه، وحركة المجتمعات وارد تفسيرها علمياً، والسيطرة عليها وتطويعها لأهداف مرسومة سلفاً، وان "الثورة الاشتراكية" عندما تقع، فانها عبور من الرأسمالية الى الاشتراكية، انها "طفرة" الى الأمام، وهي طفرة نهائية، لا رجوع عنها. كانت هذه مقولات موضع ايمان جازم لدى من انتسب الى "الاشتراكية العلمية" والى "الماركسية اللينينية"، لكن شو إن لاي صدمنا بأن هذا لم يكن رأيه، على رغم اعتناقه "الماركسية اللينينية"، اذ أكد لنا انه وارد ان تنشأ ظروف تبرر الحاجة الى اعادة اطلاق "الثورة الاشتراكية"، وان التاريخ وارد ان يعود إلى الوراء، وانه بالتالي لا يتحرك في خط مستقيم. وما انسحب على فكر العقائديين السياسيين، المؤمنين بأن حركة المجتمعات تقبل بالخضوع للفحص العلمي، كان ينسحب أيضا على العلوم الطبيعية وربما بالذات على علم الفيزياء، اكثر العلوم الطبيعية دقة في رأي غالبية العلماء. فكان هناك اعتقاد راسخ روج له العلامة نيوتن بأن الضوء يتحرك في خط مستقيم، وينتشر في صورة جزئيات تنطلق عبر الفضاء بسرعة فائقة قيست في ما بعد. وفي الوقت نفسه، برزت نظرية اخرى تقول ان الضوء ليس جزئيات بل موجات كشفتها تجارب معملية قاطعة الدلالة. وظل العلماء حيارى طوال قرون: اية من النظريتين هي الصحيحة؟ حتى اكتشف في قرننا العشرين، ان الضوء موجات وجزئيات في آن، وان هناك قراءتين للظاهرة نفسها، وما التناقض بين النظريتين الا تناقض ظاهري! ان الضوء جزئيات فوتونات PHOPTONS كما أصطلح على تسميتها، لكن تحديد موقع كل جزء على حدة ليس ممكنا، الممكن فقط هو تقرير الموقع "الاحتمالي" للجزئيات، وهذا "الموقع الإحتمالي" حقيقة "إحصائية" تبرز في صورة موجات وهكذا أصبح للعلم تفسير "إحتمالي/ إحصائي" للظواهر مخالف للنظريات "اليقينية" التي حكمت العلم من قبل. هل وارد ان تنسحب هذه الرؤية "الإحصائية" على العلوم الإجتماعية لا العلوم الطبيعية فقط؟ هل وارد تطبيقها على حركة التاريخ؟ هل وارد الاسترشاد بنظريات بات يؤخذ بها في مجال العلوم الطبيعية - كنظرية "الفوضى" CHAOS THEORY أو نظرية "التعقيد" COMPLEXITY THEORY لمحاولة استكشاف اسرار حركة التاريخ؟ إن الانهيارات التي اصابت محاولات مزاولة ما سمي "الهندسة الاجتماعية" SOCIAL ENGINEERING بمعنى اقامة مجتمعات يجرى التخطيط لقوامها وملامحها وحركتها المستقبلية سلفا - انما كشفت ان النظريات المؤمنة ب "يقينية" حركة التاريخ، وبخضوعها لقوانين "جبرية" غير صحيحة. وانها تنطوي في احسن الاحوال على تبسيطات مخلة. إن التاريخ لا ينطلق في خط مستقيم، وانما ينطلق من خلال تعرجات وتموجات، ويبدو في مراحل انه يتقدم، وفي اخرى انه يتقهقر، وانه عرضة في حركته لمنعطفات لا حصر لها، حتى إذا ما سلمنا بأن حركته - عموماً - "الى الأمام". لقد قامت الاشتراكية في بلدان كثيرة، ثم انهارت. والآن يكثر الحديث - بالذات في دوائر علمية واكاديمية شتى في عقر دار الرأسمالية في الولاياتالمتحدة واوروبا - عن عجز الرأسمالية هي الاخرى عن مواكبة متطلبات العصر، واننا مازلنا في حاجة الى نظام عالمي يتجاوز ظاهرة "الفوضى" أياً كان مصدرها. قد نرى في موقع ما يشعرنا بأن الامور تسير الى الامام بينما تبدو في موقع آخر كأنها تسير إلى الخلف. ان اوروبا تندمج وما يجري في يوغوسلافيا نموذج مخيف في قلب القارة الاوروبية لاحتمال تعرضها لأبشع صور التفسخ والتفتت. ان عملية غزة - أريحا توحي بأن المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية تحرز تقدما، بينما هناك شواهد على حلول عهد من التمزق والتشرذم لدى طرفي الصراع في آن. ان الظواهر التي أضحت تحتل موقعاً مركزياً في مشاغل العلماء المعاصرين هي تلك التي توصف ب"اللا-خطية" NON-LINEAR ويبدو انها اصبحت تحكم فلسفة العصر، واصبحت ابرز اداة تفسير لما يجري في مجالات العلوم الطبيعية بالذات، مما يثير السؤال الى اي حد وارد ان تصبح ايضا اداة تفسير لما يجري في مجالات العلوم الاجتماعية، وبالذات في محاولات تفسير حركة التاريخ واستشراف المستقبل؟ أقول ذلك ونحن على مشارف قرن جديد، بل ألفية جديدة. وكلما اقتربنا من القرن المقبل الذي لم يعد تفصلنا عنه سوى سنوات معدودات، ومع تعاظم شأن "الثورة المعلوماتية المعاصرة" وشيوع ظاهرة التعامل بكم من المعلومات يتزايد بسرعة "المتوالية الهندسية"، حتى فاق قدرتنا على "التخيل" و"الهضم" ومع اتساع نطاق قطاعات المجتمعات المهمومة بما يجري حولها، لأن كل ما يجري على اتساع الكوكب بات يؤثر مباشرة، في كل فرد على حدة، فان استشراف المستقبل سيصبح انشغالاً طاغياً ليس في مقدور أحد تجاهله. ستتجه قطاعات واسعة من الجنس البشري نحو استشراف المستقبل، بينما تنصرف قطاعات اخرى، في الوقت ذاته الى التشبث بالماضي، في صور شتى من "السلفية" لا تقتصر على "السلفية الدينية" وحدها بحثا عن بر أمان، في عالم يحكمه "التشويش" و"الفوضى" و"اللاخطية". ذلك اننا منذ عام 1989 نكتشف كل عام ان نظرتنا للمستقبل تختلف. كانت لمستقبل العالم عام 1989 ملامح وتصورات حددها - ربما - احتفال فرنسا في ذلك العام بمرور قرنين على ثورتها الكبرى، وما انطوت عليه من دروس، بصفتها الثورة "البورجوازية" فاتحة قيم ومبادىء العصر الحديث. ثم تغيرت الرؤية عام 1990مع سقوط جدار برلين، ومحاولة الانقلاب على غورباتشوف، ثم انهيار الاتحاد السوفياتي كلية، واشهار افلاس ما أفضت اليه الثورة البلشفية فاتحة "الثورات الاشتراكية" التي اعتقد طوال هذا القرن انها كفيلة بتقديم نموذج بديل من المجتمع الرأسمالي بما يحمله من آفات. وتغيرت الرؤية من جديد عام 1991 وقت نشوب ازمة الخليج، وادعاء الرئيس الاميركي السابق بوش ان "نظاماً عالمياً جديداً" قد حل، غير انه قد أسفر في النهاية عن محاولة لإقامة "نظام القطب الواحد" بعد زوال القطب العالمي المضاد، وعدم حلول ما يكسب العالم صفة "القطبية المتعددة". ثم اختفلت الرؤية مرة اخرى مع تعدد صور التضارب والربكة و"الفوضى" في "النظام العالمي" وتفاقم ازمات اقليمية عدة، ابشعها وأكثرها معرفة - لتركيز الاعلام العالمي عليها - مأساة البوسنة. و"علم الفوضى" يعلمنا ان ما يبدو "فوضى" قد يحمل في طياته نمطية مجهولة، و"نظاماً" لا نعلمه، وارد ان نكتشفه او لا نكتشفه. ولا جبرية، ولا حتمية ان نكتشفه. فان "الفوضى" لا تسفر عن "نظام" في الضرورة، والمستقبل - لأنه "لاخطي" - غير قابل لتصوره سلفا في الضرورة. وطالما لا جبرية، فلا حتمية ان المستقبل هو الازدهار والرفاهية بل قد يكون الدمار والهلاك الشامل، وصورا مبتكرة لحروب "عالمية". ولذلك لم يعد أي جهد يبذل لمحاولة اكتشاف "قوانين الفوضى" ترفاً تملك "السياسة" صرف النظر عنه. * كاتب ومفكر مصري.