يرى جون جيلوت ومانجت كومار في كتابهما "العلم والتراجع عن العقل" أن ميكانيك الكم، ونظرية الفوضى، ونظرية التعقيد، تستخدم اليوم كان ذلك في تسعينات القرن العشرين على نطاق واسع للتشديد على أن طموح الإنسان تحدّ من فاعليته بالضرورة الطبيعة وتعقيدات التفاعلات التي تتخللها. في هذا المقال سأتحدث عن نظرية الفوضى. هل نحن نعيش في عالم من الفوضى، أم من النظام؟ هذا الموضوع أصبح من اختصاص العلم أكثر من الفلسفة، بعد أن صار يناقش بلغة المعادلات. لكنه، في كل الأحوال، ليس خالياً من الأبعاد الأيديولوجية. فالمؤمنون بأن النظام هو السائد في قوانين الكون، يؤكدون أن الكون ليس كياناً عشوائياً. أما القائلون بنظرية الفوضى فيتساءلون: هل الكون خاضع الى نظام أشبه بلعبة النرد؟ في العام 1972 عرّف إدوارد لورنز نظرية الفوضى بأنها"التبعية الحساسة". فما معنى ذلك؟ يقول لورنز إن نظرية الفوضى قانون رياضي من صنف المعادلات اللاخطية. جاء هذا في محاضرة ألقاها في 1972 في اجتماع للجمعية الأميركية لتطوير العلم، تحت عنوان"القدرة على التكهن. هل تثير خفقة جناح فراشة في البرازيل عاصفة في تكساس؟"، ومنذ ذلك الاجتماع شاع مصطلح"عامل الفراشة". ويراد بذلك نقل الحساسية المفرطة في الطبيعة الى مديات معينة عن الظواهر، كان لورنز العالم في الأنواء الجوية يسعى الى التوصل الى صيغ رياضية تقدم تفسيراً للأنواء الجوية في العالم. ثم اكتشف أن الجو"معادلة"ليست خطية، الى درجة أن أقل تغير على سبيل المثال خفقة جناح فراشة في المعطيات، من شأنه أن يكون له تأثير تراكمي أو إضافي في المخطط الجوي بأكمله. وتوصل الى أن أنظمة الجو في الكرة الأرضية حساسة جداً بحيث يصبح التنبؤ والتحكم مستحيلين. وللإيضاح نقول إن النظام الخطي هو النظام الذي تتفاعل فيه عوامل، أو متغيرات مختلفة بطريقة تكون فيها الحصيلة الإجمالية متأتية من تراكم عوامل سببية مستقلة نسبياً. أما النظام اللاخطي فشيء آخر: إن تغيراً في أي من العوامل سيؤثر في فاعلية الآخر، حتى لو لم يتغير هو نفسه. لكن هذا لا يعني أن اللاخطية في أي نظام تعني بالضرورة أن النظام سيتصرف عشوائياً أو كنظام معقد. كما ان النظام الذي يتصرف عشوائياً، أو تنجم عنه مظاهر معقدة هو نظام لا خطي بلا شك، على أنه إذا كانت الأنظمة في الطبيعة عشوائية أو معقدة، فليس ثمة دليل على أن الطبيعة كذلك ككل. إذا عدنا الى جوهر الأشياء، فإن العلماء يطرحون المسألة على النحو الآتي: إذا تأملنا في الحياة، والكون، وكل شيء، نجد أن كوكبنا عبارة عن هباءة ضئيلة في المجرة، ومجرتنا عبارة عن هباءة ضئيلة في مجموعة من المجرات الواسعة. وعلى أرضنا لا يمثل البشر سوى جزء من النظام البيئي المعقد. وكل فرد هو مجموعة من خلايا، وكل خلية هي مجموعة من جزيئات، وكل جزيئة هي مجموعة من ذرات، وحتى الذرة تمكن تجزئتها الى أجزاء أصغر. إن الكون بالتالي أشبه بدمية روسية. إذا جزأناه، فسنجد أنه يتألف من وحدات أصغر، وهذه تتألف من وحدات أصغر، فأصغر، الخ. إنها رقصة كونية معقدة من أجزاء متفاعلة متداخلة في ما بينها. ما الذي يربط بين هذه الأشياء كلها ويجعلها في حال من التوازن؟ وما هي القوانين التي تنتظمها؟ هذه أسئلة ليست جديدة. لكنها تطرح من وجهة نظر أخرى، يسميها البعض ثورة ثالثة، بعد الثورة العلمية الأولى، ثورة غاليليو ونيوتن، التي اعتُبرت ثورة"كمية"، ترى أن قوانين الطبيعة حتمية. ومنذ عشرينات القرن العشرين تحدثوا عن الثورة العلمية الثانية، بعد الانتقال الى عالم الذرة، أو ميكانيك الكم، الذي عزز مفهوم اللاحتمية. أما الثورة الثالثة فتقترن، كما يرى البعض، بظهور نظرية التعقيد. ولعل أس المشكلة هنا يكمن في القانون الديناميكي الحراري الثاني، في الفيزياء، الذي يؤكد انتقال الحرارة من الجسم الحار الى الجسم البارد وليس العكس. وهذا يعني فقدان طاقة، وفقدان الطاقة يعني انتروبيا entropy، والأنتروبيا هي مقياس للطاقة المهدورة التي ليس في إمكان المنظومة الاستفادة منها، وهذا يعني الانتقال من حال نظام الى حال نظام أدنى، أي الفوضى، بكلمة أخرى. ويعود بنا هذا الى السؤال عن معنى الحرارة، وطبيعة فعلها. فحتى الربع الأول من القرن التاسع عشر لم يكن أحد يفهم ما هي الحرارة. ولم يقتنع أحد بتفسير بعض العلماء لها على أنها قد تعني حركة ميكروسكوبية للذرات. وفي 1824 أعلن مهندس فرنسي شاب يدعى سادي كورنو للمرة الأولى عن مفهوم القانون الديناميكي الحراري، الذي يعني ببساطة أن الحرارة تنتقل تلقائياً من الأجسام الحارة الى الباردة، وليس العكس. وتفسير هذا القانون هو أن الذرات تحاول باستمرار أن تلجأ الى ممارسة سلوك عشوائي. وبفعلها هذا تفقد طاقة على هيئة حرارة. وهذا هو أس المسألة، التي أورثت فكرة التشاؤم حول مستقبل الكون: أنت لا تستطيع استعادة البيضة الى وضعها الأول، بعد أن تخفقها. أي أن قانون الأنتروبيا يُجبر الذرّات، وبالتالي كل شيء، على أن يصبح في حال من الفوضى، وأقل نظاماً على مر الزمن. وهذا سيُفضي الى ما يُعرف بپ"الموت الحراري للكون". إن الموت الحراري للكون هو النقطة التي تتبدد فيها الطاقة في الكون. لذلك، وفقاً للقانون الديناميكي الحراري الثاني، يتعذر على الطاقة أن تجري من مصدر الى آخر، ومع ذلك ينبغي أن يحدث هذا للحياة لكي تستمر. ليس هناك قانون يصف كيف تصبح الذرات أكثر انتظاماً، وأكثر اتساقاً. مع ذلك، قال ميتشيل والدروب:"الجذوع المتساقطة تتفسخ، بيد أن الأشجار تنمو أيضاً". ويبدو أنه في مقابل الانتروبيا تظهر باستمرار تشكيلات شديدة التعقيد من النجوم، والكواكب، والحيوانات، والأدمغة، والنباتات، وحتى أبسطها، كالبكتيريا. فكيف يفسر ذلك؟ إن هذا ينبغي أن يعني أن القانون الديناميكي الحراري الثاني ليس صحيحاً، لأنه سيعني أن علماء الفيزياء برهنوا على أن الحياة لا يمكن ان توجد! وبما أن الحياة قائمة بالفعل، فلا بد من أن يعني هذا أن تفسير القانون الديناميكي الحراري غير صحيح، وان الحياة متجانسة مع القانون الثاني، سوى أن طبيعة الأشياء التي تتمخض عنها تختلف عما يذهب إليه القانون الثاني. هذا يعني أن الفوضى غير قادرة على تقديم تفسير لنشوء أنظمة منتظمة في الكون. إن نظرية الفوضى تقدم القوانين للوسائل التي تصبح بواسطتها أنظمة منتظمة على حين فجأة عشوائية، وغير قابلة للتكهن. لكن هناك نظرية جديدة تقدم تفسيراً معاكساً لذلك: كيف أن أنظمة عشوائية، ومعقدة، تصبح أنظمة منتظمة. هذه النظرية تدعى نظرية اللافوضى، أو الفوضى المضادة. ان اللافوضى هي تعبير عن النزعة الى النظام في العالم. فمن دون النظام لن تكون هناك حياة، وجزيئات تشكل الخلايا الحية. نرى هنا أن نظرية الفوضى تنطوي على نظرة تشاؤمية أكثر من ميكانيك الكم. فالمؤمنون بنظرية الفوضى يرون في معادلاتها اللاخطية مبدأ عاتياً لكل الأحداث، الطبيعية والاجتماعية على حد سواء... مبدأ يقضي على التكهن في كل نظام تلامسه. ففي حين يُبدي بعض العلماء استعداده لقبول إنكار نيلز بور وفيرنر هايزنبرغ للسببية والواقعية في عالم الذرّة فقط، ويرفض سحب هذه النظرة على العالم الكبير macro، فإن نظرية الفوضى تنسف حتى هذه الفكرة. فهي تذهب الى أن لا رجعة الى يقينيات عالم ما قبل ميكانيك الكم. هذا مع أن لا حتمية ميكانيك الكم تتعرض الى طعون مختبرية في السنوات الأخيرة. وعلى صعيد آخر، يرى ستيوارت كاوفمان، صاحب مصطلح الفوضى المضادة، أن النظام ينشأ بصورة طبيعية، بلا حاجة الى سيرورات تطورية معقدة، وأن الظهور التلقائي للنظام في الكون، وفي سيرورات الحياة، وفي تفاعلات الأشياء الأخرى، هو قانون أساسي مثل قوانين الفيزياء. إنه يحقق توازناً مع القانون الديناميكي الحراري الثاني، ويقدم تفسيراً الى كيف ولماذا تصنع الجزيئات بناء ونظاماً متناميين على الدوام.