في كتابه الشهير"نهاية التاريخ"الذي صدر منذ قرابة عشر سنوات، سعى المفكّر الأميركي فرانسيس فوكوياما لتسييس العلم وتمجيد الرأسمالية. والمفارقة أنه أعاد فيه أيضاً صوغ الحتمية الماركسية ولكن قلب توقعاتها رأساً على عقب. وجاءت"هيصاته"الفكرية تلك احتفالاً بإنهيار الاتحاد السوفياتي وتفكّك الكتلة الاشتراكية. ولعيني فوكوياما، بدت تلك الأحداث مؤشراً واضحاً على نهاية التاريخ، في لحظة اعتبرها انتصاراً لليبرالية الرأسمالية على الاشتراكية. وانطلاقاً من تلك اللحظة وأناشيدها العالية، حاول فوكوياما تصوير العلم ابناً شرعياً لتاريخ يصل الى ذروته بظهور النظام الرأسمالي وتبلوره وترسخه. وتُحَفّز اطروحات فوكوياما على طرح أسئلة من نوع: هل تأدلج العلم فعلاً في عقول المؤرخين؟ وهل يمكن أدلجته إلى حد ربط هويته ومساره تاريخياً بالرأسمالية ونظامها؟ هل يمكن للعلم، بعد خروجه من وصاية الميثولوجيا، وانفصاله عن الفلسفة، أن تقوده سلطة الدول والشركات والأموال إلى حيث تقاد العولمة: هيمنة النمط الثقافي والاقتصادي الأقوى على العالم وتأطير البشر على اختلاف حضاراتهم في"حضارة"السوق؟ وفي كتابه"ما هو العلم"الذي صدر في بيروت أخيراً، يطرح الدكتور نزار دندش مزيداً من الأسئلة ويقدّم كثيراً من الإجابات حول ماهية العلم ودوره وخصائصه ووظائفه وتطوره عبر التاريخ ومراحله والقفزات الثورية التي أثّر من خلالها في تطور الوعي البشري. وبذا، يقدّم دندش عملاً يتسم بالموسوعية حول مفهوم العلم وانطلاقاته وتاريخه، ما يُذكّر بعمله السابق"الموسوعة البيئية"التي أغنى بها المكتبة العربية، وهي المفتقرة دوماً لكتب العلوم الطبيعية والبيئية والصحية وغيرها. في توطئة الكتاب، يرسم دندش العلم في صورتين متناقضتين. فمن جهة ارتبطت العملية الحضارية بتطور العلم وإنجازاته. ومن جهة أخرى، تثير نتائج العلم قلقاً إنسانياً من أن يكون سبباً للأضرار بالحياة على كوكب الأرض. ويلاحظ أنه"إذا كان ينظر إلى العلم حتى الماضي القريب على أنه خير مطلق، فإن الحاضر والمستقبل يجعلاننا ننظر إليه مع شيء من الريبة والحذر". ويشير إلى أن العلم انطلق وشرع في الانتشار عندما لم تعُد تفسيرات الميثولوجيا مقنعة بما فيه الكفاية. ويعتقد أن انتقال الإنسان من التصورات الميثولوجية إلى التفكير المنطقي، يُشكّل قفزةً نوعية ثانية في تاريخ الجنس البشري بعد اكتشاف النار، لأنها أتاحت للإنسان الاستفادة من عقله. ويُرتب دندش على تلك القفزة نتائج متنوعة منها ولادة العلم الذي ساعد بدوره على التفلّت من الميثولوجيا. واللافت والمحيّر، بحسب الكاتب، أن التأثّر بالتفكير الميثولوجي ما زال موجوداً حتى الآن في مناطق عدّة نتيجةً لضعف انتشار الثقافة العلمية واقتصارها على فئة مميزة داخل المجتمع. ويشير أيضاً إلى أن العلم بدأ كترفٍ فكري خالص محصور بجمهور قليل، ثم تزايد الاهتمام به، وكثُرَ تداوله في حياة الناس اليومية وتداخله في مصالحهم. ووصل عدد المتصلين بالشأن العلمي حتى نهاية القرن العشرين إلى خمسة ملايين نسمة، ما يساوي واحد بالألف من سكان الأرض. ويشكّل العلم راهناً دم الحضارة وقلبها النابض، وسبباً للبقاء على قيد الحياة للجزء الأكبر من البشر، فلولا العلم وتطبيقاته لقضى مئات الملايين برداً وجوعاً ومرضاً. وفي تاريخ تطور العلم نفسه، يعدّد الكاتب أربع مراحل شكلت قفزات نوعية. فبعد القرون الوسطى، جاءت مرحلة العلوم الكلاسيكية التي استمرت من أوائل القرن السابع عشر حتى أواسط القرن الثامن عشر، وكان من أهم رجالاتها كوبرنيك ثم غاليليو ثم ديكارت ونيوتن. هلّت بشائر الثورة الثانية مع نهاية القرن الثامن عشر واستمرت إلى أواسط القرن التاسع عشر. وتميّزت هذه المرحلة بنهوض الكيمياء والبيولوجيا ونموّهما في شكل متسارع، خصوصاً بعد اكتشاف الميكروسكوب الذي ترك أثراً ثورياً في علوم كثيرة، خصوصاً في البيولوجيا، ما يُشبه الدور الذي لعبه التلسكوب في علم الفلك منذ أن رفعه غاليليو لأول مرة ليراقب تحركات النجوم والأجرام السماوية. واستمرت الثورة الثالثة في اندفاعاتها من نهاية القرن التاسع عشر إلى أواسط القرن العشرين. وشهدت ولادة النظرية النسبية والفيزياء الكمومية نسبة إلى"الكوانتوم"Quantum. وكذلك شملت ظهور نظريات مهمة في علم الوراثة، إضافة الى نظرية النشوء والارتقاء التي أثارت ولا تزال جدلاً واسعاً لتعارضها مع كثير من المقولات الدينية. وفي علوم الفلك، أضاءت الثورة العلمية الثالثة مسألة تغيّر الكون وتمدّده. وفي سياق تلك المرحلة عينها، انتعش العلم الاحتمالي على السببية الكلاسيكية. أما الثورة الرابعة فقد بدأت في منتصف القرن العشرين وما زالت مستمرة حتى الآن. وهي تشهد مخاض ولادة ما اتفق على تسميته علم"الحداثة الفائقة"ultramodern، خصوصاً في الفيزياء حيث تتوافر شواهد عليها في نظرية الأوتار الفائقة القوة للمادة HyperStrings وعلم دراسة الفراغ، وكذلك فيزياء الجزيئات الفائقة السرعة التي نالت اهتماماً إعلامياً واسعاً في السنة الفائتة من خلال انطلاقة تجربة كبرى في"مصادِم هادرون الكبير"Large Hadron Collider. ويرى الكاتب ان علوم"الحداثة الفائقة بدأت ترسم ملامح لوحة جديدة للعالم... يبقى فيها المستقبل مجهولاً لا تقرره حتمية معينة. وفي تلك اللوحة، نجد أن النظام والفوضى هما من العوامل الموضوعية في هذا الكون... ولأننا اليوم في حالة مخاض علمي وعلى أبواب ثورة جديدة، لم يعد يفصلنا وقت طويل عن ان نسمع"البلاغ رقم واحد"بمعنى ولادة نظرية علمية كبرى مختلفة كلياً عما نعرفه راهناً". ويحدّد الكاتب شرطين يجب أن يوضعا على"علوم الحداثة الفائقة". ويراهما في أنسنة العلم وضبط استعمال نتائجه. ويضيف أن على تلك العلوم أن تأخذ على عاتقها مهمة تعميم الثقافة العلمية لتحقيق نوع من التجانس الثقافي العلمي عالمياً. ويزيد أن العلم وحده قادر على توحيد البشر. وينبّه إلى أن القوانين التي يبدو للإنسان أن العالم يتحرك بموجبها، تتعرض للمراجعة أيضاً في الزمن الراهن، كي تصبح أرقى وأكثر دقة، بفعل تمكن العلم من دراسة التفاصيل وحلّ المعادلات المتصلة بتشابكها. وفي هذا السياق، يورد الكاتب أن"قطعة النقود التي ترمى في الهواء وتسقط على أحد وجهيها لا تقدم احتمالاً عشوائياً أبداً... فإذا دُرست ظروف كل رمية، وحلّلت العوامل التي تؤثر في حركتها، يصبح الحكم على نتيجتها أقرب إلى نوع من الحتمية التي لها صفة النسبية أيضاً وليست مطلقة". وفي الفصل الأخير من الكتاب، يتناول دندش علاقة العلم بالفلسفة، ويعرفّهما بشكل مقارن. ويحسب أن العلم والفلسفة اختلفا وافترقا أحياناً لكنهما تعاونا في أكثر الأحيان. وإلى جانب فروع الفلسفة التقليدية، نمت مذاهب فلسفية خاصة، ترعرعت على ضفاف نهر العلوم، فانتعشت الفيزياء المرتبطة بالمثيولوجيا أولاً، ثم انتعش المذهب العقلاني، فمذهب الفلسفة اليقينية الوضعية، إلى أن ظهر أخيراً في النصف الثاني من القرن العشرين على حدود العلم والفلسفة فرع جديد سمّي"فلسفة العلم"، ينحى باتجاه أنسنة العلم وحياديته. وقد لعبت الفلسفة في كثير من الأحيان دور كاسحة الألغام أمام العلم، فنظفت أمامه الطريق وأزالت الرواسب الثقافية والفكرية من أجل تهيئة الأذهان لتقبّل الثقافة العلمية. وفي خاتمة الكتاب، ينفي الكاتب أن يكون العلم خادماً لإيديولوجيات غربية معيّنة، سواء كانت الاشتراكية الماركسية سابقاً، أو الرأسمالية الليبرالية كما في اتهام فوكوياما. ويميل دندش لاستنتاج مفاده ان العلم نتاج بشري عام ساهمت فيه حضارات الأرض كلها، وأغناه علماء من الحضارات كلها. وبذا، يدافع الكاتب عن العلم. ولا يرضى بتحميله سوء استعمال نتاجاته التقنية أو النظرية. ويقول:"ليس للعلم سلطة في اختيار وجهة استعمال نتائجه". ويستطرد في دفاعه عن العلم قائلاً:"لا يمكن لأي أمة أن تحفظ بنياناً أو تبني مجداً من دون الاعتماد على خدمات العلم". أما في المجتمعات المضطربة والتي تخلفت عن ركب الحضارة المعاصرة، فتزدهر على هامش مسيرة المعرفة"الطفيليات الفكرية التي تنتقي من هنا وهناك نتفاً معرفية متفرقة، مغلوطة ومتضاربة في أغلب الأحيان". ولعل ما نشهده اليوم على الساحة العربية من مظاهر السحر والشعوذة واستباحة المنطق جزء من الارتدادات النفسية التي تجافي التفكير والمنطق العلميين، بحسب الكاتب. يأتي الكتاب في مئتين وخمسين صفحة موزّعة على عشرة أبواب. وقدّم له رئيس مجلس الإدارة في"المجلس الوطني للبحوث العلمية"الدكتور جورج طعمة. وكخلاصة، من المستطاع القول ان كتاب"ما هو العلم"يمثّل نصّاً مشوّقاً ومفيداً ومثيراً للنقاش أيضاً. ووضعه كاتبه"بتصرّف محبي المعرفة وخاصةً الطلاب والتلامذة"، إذ هاله"أن ندرّس طلابنا في الجامعات نظريات عمرها مئات السنين ويبقى معظمهم يجهل روحية العلم ومهماته الحالية والمستقبلية".