مهما تقدمت تقنية صناعة العطور في العالم وتعددت مصادر وروده وياسمينه وتوابله، يبقى تاريخ أصولها مرتبطاً بالشرق. ولا تمر مناسبة إطلاق عطر جديد من قبل دار شهيرة مثلاً، كدار نينا ريتشي، إلا وتكون للشرق بصمة فيه. فقد شكلت الزيوت المعطرة والأزهار أول تحول في صناعة العطور. ومنذ قرون بعيدة كانت معامل العطور في الاسكندرية تتمون بسنبل الطيب من شبه الجزيرة العربية ومن بلاد أخرى من الشرق الأقصى. ووصلت العطور الى اليونان عن طريق الشرق ومنها الى روما: البخور، المر المكاوي، الصندال، المسك، العنبر، الكافور، والراتنج، الى جانب التوابل من القرفة والقرنفل والبهار والمسك والهال والزنجبيل. ومن لا يذكر آلة التقطير الكركة التي اخترعها العرب ولعبت دوراً أساسياً في نشر صناعة العطور. كان هارون الرشيد يؤمن حاجة شارلمان من العطور ويرسلها اليه من بغداد. وعُرفت قرطبة في حماماتها الشهيرة بعطورها ومياهها المعطرة والتي تجاوز عددها الألف حمام. وتعتبر منطقة الاهرامات في مصر اليوم من أغنى مناطق الياسمين التي تستورد منها مصانع العطور الأوروبية حاجتها، ومن بينها دار ريتشي. عطور ريتشي كان أول عطر أنزلته دار نينا ريتشي الى الأسواق هو عطر "كور جوا" أو القلب الفرح، سنة 1946. وقد دخل في تركيبته آنذاك الياسمين بالدرجة الأولى وورد ايار مايو والأزهار الزنبقية والسوسن. وبعده كرَّت سبحة ستة أنواع من العطور تحمل اسم ريتشي وبأسماء رومانسية حالمة يبقى أهمها "L'AIR DU TEMPS" الذي ظهر سنة 1948 وحقق نجاحاً منقطع النظير ان من حيث الشكل بزجاجته الكريستالية من نوع لاليك التي تأخذ سدادتها حجم حمامة تطير، أو في المضمون لأن تركيبته تقوم على الياسمين والمسك والعنبر والصندال والورد. وتقول ماشا ماغالوف مديرة العلاقات العالمية والخارجية في دار ريتشي، إن هذا العطر تباع منه زجاجة في كل دقيقة في جميع أنحاء العالم. وتضيف ماشا القادمة من سان بطرسبرغ مهد القياصرة العريقين، الأنيقة جداً واللبقة جداً، ان هناك صفحة جديدة في تاريخ عطور ريتشي ستفتح على عتبة الخريف بانزال عطر "ديسي دولا" أي من "هنا وهناك" الى الأسواق والذي يعتمد على الثمار في تركيبته. قالت ماشا ماغالوف ذلك في الحفلة الاستثنائية التي دعت اليها دار ريتشي بشخص رئيسها جيل فوكس، والتي أقيمت في وضع ريتشي للعطور في منطقة "أوري" على بعد كيلومترات قليلة من مدينة فونتنبلو الشهيرة سياحياً بقصرها التاريخي، الذي مرَّ فيه أشهر ملوك فرنسا وعلى رأسهم الامبراطور نابليون بونابرت. وكان روبير ريتشي ابن نينا الذي توفي قبل سنوات من دون أن ينسى ذرة من ارستقراطيته وعصاميته، بنى مصنع أوري قبل عشرين سنة كنموذج حديث لتعبئة العطور يدوياً ولتشغيل يد عاملة نسائية فيه على أساس ساعات التناوب الحرة. وهذا ما جعل المصنع ينتج منذ تدشينه وحتى اليوم أربعمائة مليون زجاجة عطر توزعت في مئة وثلاثين بلداً من بلدان العالم. فالدخول الى مصنع أوري، الى هذه الغابة العطرية بجمالية حدائقها وامتدادها، له طقوسه الصارمة. انه حصن يخشى عليه من ذرة غبار ومن أبسط ما يعكر أجواء العمل اليدوي في تعبئة كل زجاجة وحتى آخر لمسات وضع الخيط في سدادتها. في هذا المكان المتميز بالجمال والتقنية التقى عشرات المعنيين والمعنيات بشأن أول حدث اعلامي بشأن العطر الريتشي الجديد. جاء هؤلاء من كل صوب، برفقة رئيس ريتشي وماشا ماغالوف ومن يعمل الى جانبهما. الجو جميل. العطر يفوح. المفاجأة كبيرة في أثناء الجولة بين دهاليز العطور. بعض تشابه مع "يورو ديزني" عند قطع ممرات مظلمة ومضيئة، ضيقة وباهرة بتماثيل قماشية ومضيفات يدعون الى لمسها واستنتاج ان العطر الجديد مخبأ فيها، ثم الرسامة المبتكرة التي حققت الزجاجة الجديدة على شكل الثمرة المتطاولة المستوحاة من الفريز والمشمش وتوت العلّيق. ثم هذا المهرج على القديم الواقف على منفذ الدهليز النهائي يشير بيده بحركة آلية الى المكان الذي تعبأ فيه العطور، ومن بعده الى القاعة الذي سيتحدث فيها جيل فوكس عن "عطر الثمار"، وأخيراً الى الحديقة الشاسعة كالحلم بخضرتها المتناسقة حيث ماشا ماغالوف ترد على أسئلة كثيرة. ماشا الشقراء تلخص عطر "ديسي دولا" بعبارة جازمة: "انه عطر نساء يعملن على تحريك الأشياء". ثم تشرح: "الجديد فيه انه مقاوم للأعراف، نشيط خفيف، متحمس، ينحرف عن الخط المستقيم ليشرد هنا وهناك وفق حدسه، يرد على رغبات النساء بنسبة مئتين في المئة. وكما الأمر عند نساء عصر النهضة، الرومانطيقيات والطامحات، فالعطر الجديد يناسب سيدات يذهبن لاكتشاف آفاق مختلفة. ان تفتح العواطف والبحث عن التناغم يشكلان جزءاً من الذوق المرهف. شعارهن: "مَنْ يُحب ليتبعني". لكن أيضاً: "المسؤولية تفترض مسؤولة تحمل عطراً على قدر مسؤوليتها. يكنس الهموم وعن مواصفات عطر "ديسي دولا" تقول ماشا: "انه يلمع كالضحكة التي تتفجر. يحرر المشاعر، يرطب الافكار ببريق ألوانه. يكنس الهموم، ينشط ويوقظ أحاسيس فرحة، فالسعادة هي ان يحس الانسان نفسه سعيداً. رائحة هذا العطر تؤثر، زجاجته لمسية، أي تغوص في باطن الكف وقد أحاطت الأصابع بها، سدادتها كالغيم. ألوانها نضرة كالثمار الذي يتكون العطر منها. كان لا بد من التجاسر على ابتكار عطر الحواس الخمس". كان "جان غيشار دي جيفودان رور"، مبتكر العطر هذا لحساب نينا ريتشي بين الحضور. تكلم عن عطره الجديد، المثالي حسب تعبيره وقال انه عمل لثلاثة أنواع منه في آن واحد. جميعها اسمها "ديسي دولا". جميعها فاكهية: درّاق، توت العليق، المشمش المطعم بالمشمش الصيني. يضاف الى ذلك لذائذ الشرق أو أطايبه. لا بد من عطور الشرق وان كان العطر الذي ابتكرته أساسه الثمار ذات النكهة. لا بد من الورد، ورد ايار بصورة خاصة الذي يتولد عنه عطر الشرق. لا بد من البندق. عناق بين البندقة والوردة. الوردة المقطوفة من حقول باغوماس في ضواحي غراس مدينة الورود الجنوبية الفرنسية، قبل الساعة الثامنة صباحاً لتبقى محتفظة بعطرها الفطري. يلزمني طنين من الورد لانتاج كيلوغرامين من العطر المكثف. لكن أطايب الشرق هي فعلاً: شجر الأرز. نعم شجر الأرز، ثم السرو هذا الشجر من الفصيلة الصنوبرية الذي يعبق في الغابات قبل أن تتمتع به أنوفنا. فلنتصور هذا المزيج من الثمار النكهة والورود العطرة والشجر البخوري. لنتصور لماذا برع الفراعنة في صناعة العطور بعد أن وصل أرز لبنان اليهم". كانت الرسامتان اليزابيث غاروست وماتيا بونيتي قد ابتكرتا زجاجة عطر "ديسي دولا". احداهما كانت تجلس فوق مصطبة عالية داخل مصنع أوري. قرب منفذ الدهليز، الى جانب المهرج الدليل. كانت ترتدي بنطلوناً وسترة بيضاء وتضع قبعة كبيرة على رأسها، ولا تتحرك اللهم إلا لتحرك الريشة على اللوحة الكبيرة أمامها. لا تتكلم أيضاً، لا تدير رأسها، ترسم فقط. تشرح بالرسم مراحل تحقيق الزجاجة العطرية المختلفة عن أية زجاجة فنية نزلت الى الأسواق حتى الآن. انها زجاجة تواكب آخر ابتكارات دار ريتشي في حقل التجميل وحيث تم الاختيار على الألوان المشمشية الزهرية في هندسة فنية لتكون علباً لتلك المستحضرات. لقد تخيلت الرسامتان باقة من الأشياء أو الحاجة اليدوية اليومية والثمينة، والتي يلذ لمسها، امساكها، استعمالها والنظر اليها. وبعد الرسم صنعت الزجاجة يدوياً وكما يفعل النحات بإزميله مع منحوتته. متطاولة ومستديرة ومما يعطي حضوراً لها. سدادتها مشتقة من تموج الغيم. لونها ذهبي مشغولة بدقة حتى صارت تشبه حصوة يدحرجها البحر، لكنها مصنوعة من الخشب لا من الحجر. للفاكهة لغة خاصة تتدخل ماشا ماغالوف في الحديث عن عطر "ديسي دولا" من جديد. كانت في يدها ثلاث حبات من الفاكهة: توتة عليق بلونها الخمري، حبة كرز بلون أحمر على زهري، دراقه بخمريتها البرتقالية. وضعت هذه الحبات أمام ثلاث زجاجات من العطر الجديد. جاءت ألوان زجاجاتها متطابقة حتى كأن حبات التوت والكرز والدراق حلّت جميعها فيها. ألوان تتفجر بالفرح. وتقول ماشا: "للفاكهة لغة تتجسد في شكلها وطعمها. توت العليق طعمه لذيذ بحلاوته وحموضته وشكله لذيذ في صغر ثمرته ولزاجتها وبرغلتها. وماء العطر "ديسي دولا" الذي يحمل اسم فرامبواز أي توت العليق فرح وحيوي ولمساته خفيفة. الكرز أيضاً في لونه وطعمه فزجاجة عطره المماثلة لها حضور مشع ورائحته أيضاً. والأمر كذلك بالنسبة الى الدراقة وزجاجتها المثيلة لها. وباختصار فإن "ديسي دولا" هو موسيقى الحواس. والخطوط المتعرجة بلونها الذهبي التي تتعربش على الزجاجة هي من نوع فن الزخرفة العربي أو ما نطلق عليه بالفرنسية أرابسك". يستعد مصنع "أوري" اليوم لاستقبال المولود العطري الريتشي الجديد، وتوزيعه في قاعة التعبئة ليكون بين أيدي عاملاته المئة والعشرين. وستتم تعبئته بالطريقة ذاتها التي تتم فيها تعبئة أشقاء "ديسي دولا" من العطور. وكان آخرها "زهرة الأزهار" الذي ولد سنة 1980، و"نينا" الذي أمر روبير ريتشي بابتكاره احياء لذكرى والدته سنة 1987 وأراد أن تحمل زجاجته رمز المرأة المثالية. كان روبير ريتشي توفي في 8 آب اغسطس 1988، بسكتة قلبية، في الثالثة والثمانين من عمره. كانت فلسفته العطرية هي: "يجب أن يكون العطر تحفة فنية. فأن نعمل على تجميل المرأة وتعطيرها يعني أننا نعمل على تجميل الحياة ذاتها. كان هذا طموحي دائماً وهذا ما كانت عليه فلسفة والدتي نينا ريتشي". جيل فوكس زوج ابنة روبير ريتشي، حافظ على طموح العائلة الرويتشية في عطر ديسي دولا. كل عامل في دار ريتشي حافظ على ذلك. ماشا ماغالوف ستحمل العطر معها الى الخليج العربي في الخريف، في أثناء عرض الأزياء الخاص الذي سيكون مهرجاناً للأناقة يضم آخر مبتكرات ريتشي. من باريس الى الامارات أو قطر أو دبي، أو من "هنا الى هناك" كما وصف العطر "ديسي دولا" لا مسافة بين توت العليق والمسك والعنبر لأن شمة العطر واحدة وطعم التوت واحد. هكذا تقول ماشا للحشد الاعلامي وهو يجول في حدائق أوري "هنا وهناك" هذا العطر الذي تنشقته الأنوف وينتظر نزف الأقلام الآن لتسويقه.