لم تعد السذاجة التي جعلتنا ننسحر بالفقر في الماضي أمراً نصرّ عليه. ولا يبدو هذا رومنطيقياً الا اذا نظر اليه المرء من بعيد عبر قصة نجاح. كتّاب وصحافيون كثر مجّدوا الفقراء الذين لا يريدون شيئاً في الواقع غير الانتقال الى الطبقة الوسطى العليا وما فوقها بأسرع وقت ممكن انتقاماً وطلباً للحماية. رُبط العوز بالأخلاق والفضائل بإصرار جعل العلاقة تبدو عضوية من دون أي مبرر. وقصص الأطفال كافأت الفقير القنوع بثروة تهبط عليه من حيث لا يدري ويريد؟، وهذا من الأسباب التي جعلت الصواب السياسي في اميركا يدين هذه القصص، ودفعتنا الى السخرية من شخصياتها المسطحة ونفعيتها وحركة المجتمع فيها بوسائل لا علاقة لجهد الشخص بها. لم نكن في حاجة الى هذا الابتكار الأميركي الذي يخطئ ويصيب لنغتاظ من الناطقين باسم الفقراء، وهم ليسوا دائماً من أهله. هل ان الغنى كما يصوره البعض خطيئة؟ أسهل علينا، نحن، ان نتماهى مع علي بن أبي طالب مثلاً الذي قال: "لو كان الفقر رجلاً لقتلته". المال يفسد بحسب العقائد، لكن التغنّي بالفقراء وإدانة الأغنياء يُبقي كل شيء على حاله ويحكم على الأوائل بالتعاسة نهائياً. أم أن مفلسفي الفقر يحبون اصحابه ما داموا معوزين ثم يتخلون عنهم ما ان يبلغوا اليسر بحجة انتقالهم الى وضع أخلاقي فاسد، وفي هذه الحال لا يتناول التأييد الانسان نفسه بل جيبه! سحر القناعة جعل الفقر جميلاً لدى المفكرين الذين لا نعرف اذا كانوا مخادعين ام مخدوعين عندما ربطوا القلة بالفضيلة. الطبقة الوسطى لم ترغب في الأمان المادي والترف وحدهما بل شدّدت قبل الستينات، وحتى بعدها، على السلوك الحسن والثقافة الواسعة كأنها تلطّف طموحها بالاخلاص للفضائل وتصوغ قدوة جديدة تركّز على الفردية وتتمسك بتماسك الجماعة وخيرها في آن. لكن حملات الاغاثة لأفريقيا التي أسعدت الغرب وخفّفت احساسه بالذنب تجاه الجنوب الفقير ما لبثت ان خلّفت تساؤلات وإحباطاً وخيبة، علماً أنها لم تتوقف. لماذا لا يساعد الفقراء أنفسهم ويكفون عن الاعتماد على الخارج وحده لحل مشاكلهم، وهم يستطيعون المحاولة أقله لكنهم لا يفعلون؟ هل كان الفقراء أبطال الشيوعية أم أولئك الرجال الذين كانوا يقفون على المنصات العالية ويحيّون "الشعوب" بوجوه عابسة وأيد ثقيلة رصينة؟ وألم يبق الأوائل محرومين الأكل والعيش اللائق في الاتحاد السوفياتي السابق سبعين عاماً على رغم ان القوة العظمى الثانية سابقاً في العالم قامت باسمهم؟ لا تخفى المتاجرة والحاجة الى استغلال الضعف لدى من يريدون ان يبقى العالم منقسماً الى أغنياء وفقراء، وربما كان عليهم رحمة بالأخيرين ان يلقوا نظرة على حساباتهم في المصارف قبل أن يخرجوا على العالم بخطبة جديدة عن جمال الفقر.