احتفلت الاوساط الفنية المغاربية قبل أيام بالذكرى الثالثة لرحيل الفنان الجزائري محمد خدّة، أحد أبرز أقطاب الحركة التشكيلية الحديثة في المغرب العربي، كما استضافت باريس معرضاً استعادياً لاعماله المركز الثقافي الجزائري. وخدّة يُعدّ الى جانب محمد إسياخم وشكري مسلي رائد التيار التشكيلي المجدد الذي ظهر في الجزائر منذ منتصف الخمسينات، وجاء ليكمّل ما بدأه الجيل المؤسس من أمثال محمد راسم، زواوي معمري، محمد زميرلي، وآخرين. ومع تطور تجارب ممثلي هذا التيار وتفرعها في فضاءات وأزمنة مختلفة، بدا شكري مسلي ميّالاً الى الأشكال الهندسية والزخرفية، واختار اسياخم اسلوباً ذاتياً يزاوج بين التجريد والتشخيص أو يراوح بينهما... أما خدّة فتفرّد بتوجه خاص يقوم على رصد الحركة والتقاط الومضة الفنية من مشاهدات آنية ومصادفات يشكلها في لوحاته بكثير من العفوية، ووفق آليات خفية تختلف باختلاف الملابسات والظروف المعقدة المرافقة للولادة العسيرة لكل لوحة من لوحاته. وفي احدى المقابلات التي أخريت معه، يلخص محمد خدّة العفوية التي تعامل بها واكتسب منها أسلوبه وخصوصيته الفنية، بقوله: "يتملكني شعور كرغبة الطفل البريئة في ترك آثاره، حين يتعمد غرس أقدامه على رمال الشاطئ. لكنها ليست رغبة الكهل الذي يصبو الى الديمومة والخلود فيميل الى البوح والافصاح والى جعل الاشياء مرئية ومفهومة... ان اللوحة - أية لوحة فنية - تتشكل ببطء وعفوية وكثير من المعاناة، لكنها في نهاية الجهد ليست سوى تجسيد معيّن لامتزاج الألوان بالماء. واعتقد ان لمسة الذكاء التي يمكن ان يضيفها الفنان ويتميز بها تكمن في شحنة عاطفية قوية ومبهمة تذهب بالعمل الذي ينجزه بعيداً عن الاطار الضيق والمحدود للتشخيص. هكذا هي اللوحة، اشبه بأغنية أو لحن يظل عالقاً كغصة في الحنجرة...". صدق التجربة وعفويتها وعلى الرغم من ان محمد خدّة كان دوماً في قلب النضالات الاجتماعية والسياسية لشعبه ومجتمعه، الا انه كان يضع حاجزاً واضحاً بين "الفنّي" و"النضالي"، ويرفض تقديم التنازلات بدعوى الالتزام، أو السقوط في الفولكلورية المسطحة والتجارية أو حتى التشبه بالفن الشعبي. وقد عبّر عن هذا الرفض في عديد الكتابات النقدية والتنظيرية التي كان ينشرها في الصحف والمجلات المتخصصة أو تضمنتها كتبه التي نذكر بين أهمها: "عناصر من أجل فن جديد" أصدره بالاشتراك مع آنا غريكي - 1967، و"أوراق مبعثرة ومجتمعة" منشورات "سناد"، الجزائر - 1983. كان خدّة يعتقد دوماً أن على الفنان ان يعرف متى يضع اللمسة الاخيرة على عمله، دون ان يحمّل اللوحة اكثر من طاقتها أو ان يتركها بالعكس ناقصة أو عطشى الى شيء ما. وكان يرفض أي قيد فكري أو سياسي على الابداع الذي لا يجب ان يستند، برأيه، الا الى صدق التجربة وعفويتها. في هذا المجال يقول: "كثيراً ما يُطلب منا كفنانين ان نُحصي أو نعدّ أو نقيس أو نسمي ما هو في حقيقة الأمر غير قابل للتسمية. فأمامي مثلاً لوحة هي انطباع غامض، ارتسم في ذاكرتي عن صخرة رأيتها في مكان ما في جبال "الجرجرور" شرقي الجزائر. مجرد انطباع عن صخرة بالكاد ابصرتها أو مررت بها بشكل عابر، قبل أن أعيد انتاجها في مخيلتي. فكيف يمكن لي ان اسمي هذه اللوحة دون ان أحُد من خيال من شاهدها، ودون ان تكون هذه التسمية تعسفاً وقيداً على العمل الفني؟". مشاريع جماعية الا ان هذه الآراء الفنية لم تمنع محمد خدّة من الاسهام في العديد من الورشات والمشاريع الفنية الجماعية. اذ شارك في صالون "التشكيليين الشباب" في باريس 1955، وفي صالون "الوقائع الجديدة" 1955 - 1958، ثم في صالون "الاتحاد الوطني للفنانين التشكيليين" في الجزائر غداة الاستقلال 2196. كما انه شارك في انجاز "نصب الشهداء" في مدينة مسيلة جنوبالجزائر سنة 1981. وفي مجال النشر، صمم محمد خدّة اغلفة عدد من ابرز الاصدارات الادبية الجزائرية، مثل ديوان "الوردة" لجان سيناك 1964، و"من أجل اغلاق نوافذ الحلم" لرشيد بوجدرة 1965، و"العصفور المعدني" للطاهر جعوط 1982. أما في المسرح، فعُرف خدّة بتجربته الطويلة في العمل مع المخرج الراحل عبدالقادر علولة، حيث صمم ديكورات أبرز مسرحياته، كما انه انجز ديكور مسرحية ولد عبدالرحمن كاكي الشهيرة "بني كلبون" 1974. الا ان أشهر وأنجح مساهماته المسرحية يبقى تصميمه ملابس وديكور "الشهداء يعودون هذا الأسبوع" التي أخرجها زياني شريف عياد عن قصة معروفة للطاهر وطّار.