وزير العدل: مراجعة شاملة لنظام المحاماة وتطويره قريباً    سلمان بن سلطان يرعى أعمال «منتدى المدينة للاستثمار»    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    المملكة تستضيف اجتماع وزراء الأمن السيبراني العرب.. اليوم    تباطؤ النمو الصيني يثقل كاهل توقعات الطلب العالمي على النفط    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    توجه أميركي لتقليص الأصول الصينية    إسرائيل تتعمد قتل المرضى والطواقم الطبية في غزة    الجيش الأميركي يقصف أهدافاً حوثيةً في اليمن    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    أمير الشرقية يرعى ورشة «تنامي» الرقمية    كأس العالم ورسم ملامح المستقبل    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    اختتام معرض الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي    دروب المملكة.. إحياء العلاقة بين الإنسان والبيئة    ضيوف الملك من أوروبا يزورون معالم المدينة    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    «سلمان للإغاثة»: تقديم العلاج ل 10,815 لاجئاً سورياً في عرسال    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    مترو الرياض    إن لم تكن معي    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صاحب "التطليق" في حديث سجالي ومتفجر . رشيد بوجدرة ل "الوسط": اخترت البقاء في الجزائر وأنا مستعد للموت من أجل أفكاري !
نشر في الحياة يوم 13 - 06 - 1994

من مقاومة الاحتلال الفرنسي، الى النضال في صفوف المعارضة بعد الاستقلال، عرف الاديب الجزائري رشيد بوجدرة العمل السري في مختلف وجوهه، لكن هل خطر له في يوم من الايام أن حياة التخفي هذه ستتواصل في أشكال جديدة، بعد أن أحكم الارهاب قبضته الدموية على الحياة الثقافية في بلد جميلة بوحيرد؟ الاكيد هو أن المخاطر الجديدة، لم تمنع هذا الاديب الجزائري الذي تحول في الثمانينات الى الكتابة بالعربية، من مواصلة المواجهة، ومن التعبير عن أفكاره بصوت مرتفع. "الوسط" تنشر في ما يلي نماذج من آرائه السجالية ومواقفه المتفجرة.
الحوار مع الروائي الجزائري رشيد بوجدرة سجالي وممتع. وسواء تعلق الأمر بشؤون الكتابة والابداع أو بما يحيط بها أو ينتج عنها من نقاشات سياسية، فكرية وثقافية، فان صاحب "التطليق" و"الحلزون العنيد" يتحدث دون مواربة وبمنتهى الصراحة.
في الفترة الاخيرة صدرت في الجزائر رواية بوجدرة الأخيرة "تيميمون" باللغة العربية دار الاجتهاد، ولم تلبث أن صدرت ترجمتها الفرنسية في باريس منشورات "دونوال" - باريس. كما بدأ قبل أيام، تقديم نصّه "يوميات امرأة أرق" على احدى الخشبات الباريسية... استغللنا هذه المناسبات مجتمعة للذهاب اليه ولقائه، فكان هذا الحديث الشامل عن الرواية والشعر، وعن الأدب المغاربي المكتوب بالفرنسية، وعن أحداث الجزائر الساخنة، والتهديدات المسلطة على المثقفين وعلى بوجدرة نفسه، من قبل الجماعات المتطرفة...
رواية "تيميمون" على غرار روايتين سابقتين لرشيد بوجدرة، هما: "الحلزون العنيد" و"ليليات امرأة أرق". فهي روايات صغيرة الحجم وذات بنية بسيطة نسبياً، تأتي غالباً بعد رواية ضخمة. ما هي خصوصيات هذه الروايات الصغيرة: هل هي "استراحة"؟ أم أنها نصوص انتقالية بين شكلين أو تقنيتين أو مضمونين مختلفين؟
- لا أعتقد أنني أستريح بين روايتين، أو أنني احتاج الى نصوص انتقالية. أرى بالعكس أن طبيعتي ككاتب تتطلب مني الفضاء الواسع، أي الرواية الضخمة ذات الجمل الطويلة، المعقدة، الملتوية، التي تمتد احياناً لتغطي خمس أو حتى عشر صفحات. وما يجمع بين الروايات الثلاث التي ذكرتها، هي انها تتحدث عن اشخاص قابلتهم فعلاً في الواقع واستوحيت منهم نصوصي.
في "الحلزون العنيد" مثلاً، الشخصية المحورية موجودة في الحقيقة، وعايشتها وعشت معها ذلك الفصام والانطواء اللذين تجليا في الرواية. والشيء نفسه بالنسبة الى "ليليات امرأة أرق"، حيث أنني تعرفت على امرأة تحمل المواصفات نفسها. في رواية "تيميمون" أيضاً تعرفت على الشخص الذي أوحى اليّ بفكرة الرواية قبل حوالي 10 سنوات في الصحراء الجزائرية. لاحظ أن هذه الشخصيات الثلاث كلها تعيش نوعاً من العصاب، ولكنه عصاب داخلي ومكبوت. وأنت تعرف أن العصاب والانطواء على الذات، ينعكسان على أسلوب تصرف الشخص المصاب بهما، وحتى على طريقة كلامه. فهو لا يتحدث كثيراً ويلجأ دوماً الى الايجاز والتلخيص، وحتى حركاته واشاراته تصبح قليلة ومقتضبة. ولهذا فإن الروايات المذكورة جاءت مطابقة لطبيعة هذه الشخصيات.
في رواية "تيميمون"، كما في رواية "فوضى الاشياء" التي سبقتها، نلاحظ ميلاً الى تشييء البطل بشكل لافت. ففي "تيميمون" قصة حب تتم كلها عبر "المرآة الارتدادية" في الحافلة التي تدور فيها الاحداث، حتى أن هذه المرآة تكاد تحل محل الفتاة المعشوقة. ما هي دلالات هذه الظاهرة؟ وهل هي تعبير عن اليأس من قدرة الآخر على التجاوب والحوار؟
- هناك دلالات متعددة. أولها ربما أن الحبكة انعكاس للمجتمع العربي الاسلامي الذي لايزال خجولاً أمام كل ما يتعلق بالذات والاشياء الحميمة. وهذا شيء مايزال راسخاً فينا، فحتى أنا الذي أعتبر نفسي متقدماً أو تقدمياً، مازلت أعاني من بعض العقد من هذا النوع. وبصفة عامة، فان المجتمعات العربية ماتزال في مراحل نمو ذاتية ونفسية تجعلها متمسكة بمثل هذا الخفر أو الكبت. ربما أولادنا أو أحفادنا سيتجاوزون هذه العقد، أما نحن فقد نشأنا في بيئة أخرى تركت بصماتها على نفسياتنا.
الدلالة الأولى للمرآة الارتدادية هي اجتماعية اذاً . أما الدلالة الاخرى فخاصة بالرواية، مرتبطة بمضمونها وبطبيعة هذا الشخص الذي يتعلق بامرأة لأول مرة، وهو في الأربعين من العمر. والفتاة التي تستهويه في العشرين، أي في منزلة ابنته. أو على الاقل هذا ما يتراءى للبطل الذي يعتبر أن هذا الفارق حاجز بينهما. وهنا يلجأ الى المرآة الارتدادية ويجد فيها الحل السهل لهذا الحاجز النفسي والاجتماعي.
أما عن التقنية، فانها ككل تقنيات الكتابة الحديثة التي استعملها أو أبتكرها في رواياتي: جاءت بشكل عفوي تماماً واستجابة لحاجة يقتضيها مضمون الرواية. فأنا انطلق في كل مرة من حكاية أسمعها أو أعيشها، ثم تتطور هذه الحكاية اثناء الكتابة لتدخل عليها التقنيات الحديثة في الكتابة، وحتى العناصر العلمية كالرياضيات أو اللغات القديمة... الخ.
"علي رأس الكابوس"
في أدب رشيد بوجدرة كله نجد حدوداً واضحة وصارمة بين "الأدبي" و"النضالي"، باستثناء روايته ما قبل الاخيرة "فوضى الأشياء". فهي تتناول مأساة شخص يُدعى "علي رأس الكابوس" تعرض للتعذيب اثناء حوادث أكتوبر 1988، الى درجة أنه فقد رجولته. وهذه الشخصية تطغى على أجواء الرواية فتغطي على التداعيات النفسية الذاتية التي تشكل أساس أدبك وخصوصيته. فهل أن شخصية "رأس الكابوس" هي التي دفعتك الى شكل من أشكال "التناص" مع كتابات سابقة مستمدة من ذاكرتك ومسارك الروائي؟ لماذا محاولة التخلص من "العقدة"، وما سر هذا الخوف من السقوط في فخ البنية الكلاسيكية التي يتنامى فيها الحدث بشكل خطي؟
- والله أنت تنبهني الى هذا لأول مرة. وأعتقد أن الدافع الذي تحدثت عنه موجود بالفعل، ولو أني لم أفكر في هذا صراحة قبل هذه اللحظة. بالفعل هذه الرواية كتبتها تحت ضغط نفسي شديد، بعد كابوس حوادث أكتوبر 1988، حيث عايشت يومياً - بحكم كوني أميناً عاماً لرابطة حقوق الانسان في الجزائر - معاناة الذين تعرضوا للتعذيب، مثل "علي رأس الكابوس" الذي التقيته فعلاً واستوحيت منه شخصيتي المحورية. وهذا التناص الداخلي مع نصوصي القديمة سبق أن استعملته ولكن بشكل عابر في روايات سابقة. أما في "فوضى الاشياء" فجاء استعماله متعمداً. ربما كان هذا الخيار نوعاً من الهروب اللاواعي نحو طفولة الكتابة وبراءتها، للاحتماء بها من فظاعة قصة "علي رأس الكابوس" ومأساته.
روايتك الاخيرة "تيميمون" قصة حب تدور أحداثها في الصحراء، ولكن على عكس ما قد يتوقعه القارئ المعتاد على ما هو سائد في الادب المغاربي الذي يتحدث عن الصحراء، فإن لغة روايتك ليست شاعرية ابداً! هل ما تزال متمسكاً بتصريحاتك التي أثارت كثيراً من الجدل قبل سنوات، حين قلت بموت الشعر؟ أنت من كانت بداياته الادبية بمجموعة شعرية بالفرنسية هي "من أجل اغلاق نوافذ الحلم" 1965، ثم جاءت باكورة كتاباتك بعد التحول الى الكتابة بالعربية، مجموعة شعرية بعنوان "لقاح"...
- ربما كانت الطريقة التي عبرت فيها عن نفسي في ما يتعلق بهذه القضية، تتضمن شيئاً من الاستفزاز والتحدي والسعي الى خلخلة الجاهز. ما قصدته هو موت الشعر بشكله الحرفي والمتعارف عليه، سواء كان عمودياً أو شعر تفعيلة، أو قصيدة نثر أو غير ذلك... كنت أقصد انحسار الشعر كشكل حصري، وتحوله الى حالة عامة تسكن الاشكال الابداعية الاخرى.
هذا لا يلغي طبعاً وجود شعراء كبار. لنأخذ أدونيس مثلاً، فهو شاعر عظيم، وتحتاجه الثقافة العربية، وشعره لم يمت! ولكن أدونيس أدخل عناصر نثرية كثيرة على شعره، متأثراً باتجاهات الشعر المعاصر، وبشكل خاص شعر سان جون بيرس الذي ترجمه أدونيس الى العربية. وبالنسبة إلي، فان بيرس هو شاعر القرن التاسع عشر والقرن العشرين دون منازع. وربما كان شعراء العرب في الجاهلية ثم في العصور الاولى للاسلام، كالمتنبي وبشار بن برد وغيرهما، من أكبر شعراء البشرية. ولكن بالنسبة الى الشعر الحديث وكل الموجات التي عرفها، فان الشاعر الأكبر هو سان جان بيرس. وأدونيس تأثر به كثيراً، فكتب بطريقة مبدعة ورائعة وحديثة جداً. وطبعاً كلامي عن التأثر بسان جان بيرس لا يلغي ابداً عبقرية وقدرة وابداع أدونيس. ولأنه شاعر حديث ومتطور، فانه عرف كيف يدخل العناصر النثرية على الشعر. ونحن بدورنا كروائيين حديثين لم نترك الشعر، والشعر لم يمت عندنا. يخطئ من يقول أن بوجدرة اليوم روائي فقط، فأنا شاعر أيضاً. ولكننا ككُتّاب حديثين، أدخلنا تغييراً جذرياً على مفهوم الشعر، فلم يعد هو ذلك الكلام الفضفاض أو المبالغ فيه أو المغرق في الرومانسية والبكاء على الاطلال.
واعتقادي أن روح الشعر لم تمت، وهي موجودة في رواياتي بأشكال حديثة ومبتكرة. وعندما قلت بموت الشعر، قصدت موت أسلوب شعري قديم وتقليدي، ما تزال بقاياه وآثاره موجودة حتى عند أدونيس. وكانت لي نقاشات مطولة مع الاخير حول هذه المسألة، لكنه غير متفق معي تماماً. فهو يقول إن الشعر يبقى موسيقى. وأنا أقول:لا! والموسيقى ذاتها تغيرت اليوم، فلم تعد إلقاءً أو مجرد هارمونيا، بل أصبحت تقوم على هدم الصوت والايقاع وخلخلة أشكاله القديمة الجاهزة...
الصحراء في رواية "تيميمون" ليست هي الصحراء المعهودة في الأدب المغاربي المكتوب بالفرنسية. فبدل الصورة الشاعرية والايكزوتيكية المتداولة. أنت تقدم الصحراء على أنها بيئة قاسية، جافة، حارة جداً، وباردة جداً، ومخيفة...
- لا أريد أن أنتج بطاقات بريدية عن الصحراء، على منوال الكتابات الاستشراقية المستهلكة. وفي الحقيقة هناك تيار كامل في الأدب المغاربي يكتب عن الصحراء للذين لا يعرفونها، فيسقط في السهولة ويرسّخ الصورة الجاهزة في المخيلة الغريبة عن البيئة الصحراوية، وهي صورة خاطئة. الصحراء أنا أعرفها، وأرتادها شهرين أو ثلاثة في العام، ولدي بيت في منطقة تيميمون ذاتها حوالي 2000 كيلومتر من الجزائر العاصمة، وهناك كتبت روايتي. أعرف جيداً تلك المنطقة ومناطق الهقار والتاسيلي المجاورة لها. وأعترف أن تقدم بالفعل جانباً شاعرياً جميلاً وهادئاً، يتمثل في الواحات والزهور والنخيل...
ولكن الصحراء هي أيضاً بيئة قاسية، فعندما يقوم "العجاج" الزوابع الرملية ويستمر أحياناً ثلاثة أسابيع، لا يبقى حينئذ لا زرع ولا نخيل ولا واحات. وهناك أناس كثيرون يصابون بالجنون اثناء هذه الزوابع الرهيبة. وأنا أردت أن أصف الصحراء كما هي، بطيبتها وشراستها. وأرفض ان اعطي عن الصحراء تلك الصورة الفولكلورية التي كرستها كتابات المستشرقين في مخيلة القارئ في الغرب، والتي تغذيها بعض كتابات الادباء المغاربيين...
لست ضد أن يرى البعض في الحافلة التي تدور فيها أحداث "تيميمون"، والملقبة ب "الشطط"، رمزاً الى وضع الجزائر الحالي، ولو أني أفضل هنا استعمال مصطلح "كناية". فالكناية من ضروب التعبير البليغ، وهي عملية التفاف على المباشر، بأسلوب شاعري وجمالي. أما الرمز فيلجأ اليه الكاتب الذي ليس لديه ما يكفي من الشجاعة للتعبير بصراحة عن الأشياء.
التحرر من عقدة الاب
يستوقفني في رواية "تيميمون" ظاهرة لافتة، وغير مألوفة في أدب بوجدرة الذي اتسم بما يمكن أن نسميه "عقدة الأب". فأنت في هذه الرواية مهادن بعض الشيء، والأب لم يعد يظهر في صورة سلبية، بل أنه يمثل واقعاً مرفوضاً تكاد تقبله كما هو، أو على الأقل لا تتمرد عليه بالعنف نفس الذي نجده في كل رواياتك السابقة... ومعذرة اذا عدت الى قراءتك في منظار الرمزية، ولكن أليست مهادنة الأب هذه، في دلالتها السياسية والتاريخية، كناية عن مهادنة موقتة وتكتيكية ربما للنظام والسلطة الحالية في الجزائر. فأنت كنت تقول عنها دائماً إنها سلطة سلبية، متخلفة، وفاسدة، وانتهازية، لكنك تقبل بها الآن مرحلياً، ربما خشية ما هو أسوأ!
- هناك بالفعل شيء من هذا القبيل. فعقدة الأب موجودة لديّ بحدّة، وتجدها تسكن كل رواياتي. ولكن في رواية "تيميمون"، الشخصية المحورية التي هي سائق الحافلة، لم يكن بالامكان أن أحمّله عقدة الأب التي هي موجودة لدي، لأنه شخص مهادن. وهو في حياته كلها مسالم وطيب ولطيف، وهذه ليست صفاتي شخصياً، فأنا أكثر اندفاعاً وتمرداً وحيوية. هذا جانب. الجانب الآخر، هو أن عقدة الأب وتمردي عليه في رواياتي، كناية عن السلطة التي أنا دوماً ضدها. وأنا متفق معك تماماً في التغير الذي أشرت اليه بخصوص العلاقة أو الموقف من السلطة.
فالفترة التاريخية الحالية التي تمر بها الجزائر، تجعلنا نهادن نظام الحكم القائم فعلاً، لأننا نخشى ما هو أفظع... ولابد أن يعترف المرء بأن السلطة الجزائرية اليوم، رغم كل شيء، هي التي تحميني وتدافع عني، وتضع تحت تصرفي رجال شرطة يحرسونني، وسلاحاً أدافع به عن نفسي. يبقى أن هذه السلطة هي نفسها التي سجنتني وعذبتني، وموقفي السياسي منها لم يتغير. ولكنها حتى عندما اضطهدتنا بالامس، لم تكن تريد قتلنا بطريقة شنيعة. وحتى عندما كنا نتعرض للتعذيب، فقد كنا نُعذَّب بطريقة فيها نوع من "الحضارة"! أما قتلة أمحمد بوخبزة، فقد بقوا ساعتين يعذّبونه ويقطّعون جسده وأطرافه بالسكاكين والسيوف. المصير نفسه لاقاه الشيخ بوسليماني الذي شنع به خاطفوه، وقتلوه لأنه ينتمي الى تنظيم ربما أكثر اعتدالاً.
ثم أننا لابد أن نفرق بين الدولة الجزائرية ومؤسساتها وبين السلطة أو نظام الحكم. أنا ضد النظام وأختلف معه منذ 30 سنة. لكنني لست ضد الدولة وأناضل من أجل حماية مؤسساتها من الانهيار. فهذه المؤسسات، وان كانت تضم عناصر فاسدة ومنحرفة، الا انها تضم ايضاً عناصر نزيهة ووطنية، لا يمكن أن نتنكر للانجازات التي حققوها، فبنوا مئات الجامعات وآلاف المدارس والمستشفيات. ولهذا فان عداءنا أو معارضتنا للسلطة، لا يجب أن يدفعانا الى معاداة الدولة التي تمثل الكيان المعنوي للبلاد...
رشيد بوجدرة عُرف واشتهر كروائي يكتب باللغة الفرنسية، ثم رفع التحدي وتحول الى الكتابة بالعربية. وبعد كثير من المثابرة قدّم أعمالاً متميزة في هذه اللغة ك "معركة الزقاق" و"ليليات امرأة أرق" و"فوضى الأشياء". اليوم، تصدر "تيميمون" بالعربية في الجزائر فلا توزع بشكل جدي، ولا تلقى المتابعة النقدية والاعلامية اللازمة. ثم تترجمها بنفسك الى الفرنسية، فتعرف النجاح نفسه الذي عرفته أعمالك الأولى المكتوبة مباشرة بهذه اللغة. ألا يساورك الشك أمام وضع كهذا في جدوى تحولك الى الكتابة بالعربية؟
- لا أبداً! هذا مستحيل. لا يساورني هذا الشعور مطلقاً. فأنا حين أكتب لا أدري لمن أكتب، أو لا يهمني لمن. وربما أنا أكتب بالدرجة الأولى لنفسي، وأنفس بالكتابة عن قضايا شخصية نفسية حميمة، فأمارس على نفسي نوعاً من التحليل النفساني بالكتابة. لا يهمني أبداً مصير الرواية بعد صدورها، ولدي سكينة كبيرة مقارنة بكتّاب أراهم يقلقون كلما صدر لهم عمل أدبي، ويتساءلون: هل صدر مقال في المجلة الفلانية، وماذا قال الناقد الفلاني، وهل تحدث التلفزيون أو لم يتحدث؟ أما أنا فلا يهمني هذا أبداً... يكتب من يشاء - سلباً أو ايجاباً - أو لا يكتب، ما همّ. أنا أكتب وأعرف أن لديّ قرائي، وهؤلاء هم ركيزتي، بغض النظر عن كونهم 10 آلاف أو مائة ألف، وربما كنت لأكتفي بقارئ واحد.
ثم أن قضية الكتابة باللغة العربية بالنسبة إلي قناعة وموقف حضاري أتمسك به بشدة، لأن علاقتي بهذه اللغة حميمة، وتكاد تكون علاقة عضوية حسيّة، كما هي عند ابن عربي مثلاً... عندما أسمع أحاديث بلهجات عربية مشرقية أو مغاربية، ارتاح لها وابتهج لسماعها بعفوية. وعندما استمع مثلاً الى أم كلثوم أتأثر كثيراً، في حين أن الغناء الفرنسي لا يهزني بالقوّة نفسها، على الرغم من كوني متزوجاً من فرنسية، ومتغلغلاً في الثقافة والمجتمع الفرنسيين...
شرطة الفرنكوفونية
أنت مستبعد من الجوائز الأدبية الفرنسية، هل السبب يعود الى تمردك على المشروع الثقافي واللغوي الفرنكوفوني، وتخليك عن "لغة ومنطق ديكارت" كما كتبت "لو موند" ذات يوم؟
- صحيح أنني لم أنل أية جائزة فرنسية، رغم أنني كتبت بهذه اللغة طيلة 25 سنة. وانتقالي الى الكتابة بالعربية زاد من تهميشي. ولا بد من الاشارة الى أن تمردي ليس على اللغة الفرنسية التي اعترف بجمالها وبجميلها عليّ، فهي عرّفت بي في العالم. أنا أحب اللغة الفرنسية، ولكن ليس بدرجة حبي نفسها للعربية. وتمردي ليس ضد اللغة الفرنسية، إنما ضد الفرنكوفونية التي أعتبرها شكلاً استعمارياً جديداً يغلف في غطاء ثقافي خلفيات وأهدافاً سياسية محضة.
الفرنكوفونية مشروع امبريالي جديد يستعمل الثقافة لأغراض الهيمنة السياسية والاستغلال الاقتصادي لمنطقتنا العربية وللعالم الثالث. ومؤسسات الفرنكوفونية في فرنسا أقامت درَكاً وشرطة على رؤوس الأدباء. ورئيس الدرك بالنسبة إلينا نحن الكتاب المغاربيين، هو الطاهر بن جلون. فهو يحاربنا في كواليس الجوائز الأدبية، وفي جريدة "لو موند" التي باتت منبراً مفتوحاً لمهاجمتنا. وما يؤسفني في أمر الطاهر بن جلون، هو أن المثقفين العرب لديهم فكرة مغلوطة عنه، في حين أني أراه كاتباً هجيناً ومنتحلاً ويلعب دور "العربي الخادم"، وهو في الحقيقة لا يحب الغرب ولا يحترم قيمه أكثر منّا، لكن مواقفه ناجمة عن انتهازية محضة، وعن امتيازية مالية بالدرجة الاولى. فهو اليوم يعد من رواد الفرنكوفونية ومن المسؤولين عنها ادارياً، ومنصبه في المجلس الأعلى للفرنكوفونية يأتي في المرتبة الثانية، بعد الرئيس ميتران مباشرة!
يرد اسم رشيد بوجدرة على رأس قائمة المثقفين المهددين في الجزائر. لكنك تصرّ على البقاء والاقامة هناك، وتبدو أكثر ثقة وتوازناً من بقية زملائك المهددين. ما السر في هذا؟
- أنا ككل انسان، اتأثر وتنتابني هواجس الخوف. لكنني أتحكم في هواجسي وأغلّب العقل وسلطة الوعي. كما أنني قوي وثابت الاعصاب بفضل قناعاتي الراسخة التي تجعلني أواجه الموت دون خشية. وأنا مستعد للموت من أجل أفكاري، اليوم او غداً. وأتقبل هذا بكثير من السكينة التي اكتسبتها ربما من تجربتي النضالية الطويلة، ليس فقط السياسية ولكن ايضاً الحضارية بالمعنى الواسع للنضال من اجل الحرية والعدالة والمساواة.
طبعاً أحاول أن أتخذ كل الاحتياطات للسهر على سلامتي، إذ أعيش في شبه سرية، خاصة حين أكون في الجزائر العاصمة وبعض المناطق الخطيرة القريبة منها. كما أنني أتنقل باستمرار، ولا أبقى في المسكن نفسه أكثر من أسبوع أو أسبوعين. ثم أن لدي شرطة تحرسني، وأحمل دوماً سلاحي معي، في البيت أو في الشارع. وهذا ما يعرفه الأصوليون جيداً، ولهذا يخافونني.
قناعاتي ثابتة، ولا يمكن أن أتنازل أو أتراجع عنها، مهما بلغ حجم التهديد. وأذكر أنني عندما أردت أن أكتب "أبناء الحقد"، استشرت بناتي لانهن أقرب الناس اليّ واحبّهن الى قلبي، وأعرف انهن حريصات جداً عليّ. قلن لي يومها: "علّمتنا دوماً أن نتمسك بمواقفنا وأفكارنا، ولا يمكن أن نأتي اليوم لنطالبك بالتخلّي عن أفكارك!". شجعني هذا الموقف كثيراً، بالاضافة طبعاً الى دعم الكثير من الرفاق والأصدقاء.
رعشة العمل السرّي
على المستوى اليومي، كيف يعيش بوجدرة؟ كيف يتنقل ويتخفّى؟ وكيف يكتب، وهو يعرف أنه مطارد ومهدد؟
- المطاردة نحن معتادون عليها منذ سنوات طويلة، منذ أيام العمل السري. صحيح أن الأمر مختلف الآن، إذ أننا كنا نناضل ضد السلطة في الجزائر، ونعرف أنه لو قبض علينا فلن نقتل، بل سنسجن أو نعذب في أبعد تقدير. أما الآن فالأمر يتعلق بالحياة أو الموت في كل لحظة. ولهذا فان تلك المتعة الخفية والرجفة اللذيذة للنضال السري، هي الآن أكبر. وحين أقول هذا للصحافيين في فرنسا وايطاليا وبلدان غربية اخرى، يستغربون كلامي. وأعتقد أن هذا لا يمكن أن يفهمه إلا من عاش فعلاً تحت وطأة الانظمة البوليسية، وعرف مثل هذه التجارب النضالية الخطيرة والرائعة، في آن.
أنا مررت بتجارب جبهة التحرير خلال الثورة، ثم خضت تجارب المعارضة السرية بعد الاستقلال، والنضال السري نفسه أخوضه الآن، ضمن الاحتياطات نفسها. فحين أكون في الجزائر، اتنكر بمختلف الأشكال، أحياناً أخرج بباروكة ولباس نسوي، ومرات بالقميص ذاته الذي هو زي الأصوليين! وقد أضع لحية أو شارباً اصطناعياً... الخ. وفي كل الحالات، ومهما كان الثمن، فإني أتقبل هذا التحدي تماماً، لأنه من أجل صراع حضاري لا يمكن أن نتخلى عنه، حتى لا نترك الظلام والجهل يقومان مقام الذكاء والتنوير.
وأنا آخذ العبرة أساساً من نساء الجزائر اللواتي يقاومن بجرأة خارقة الارهاب المسلّط عليهن بشكل يومي. على عكس بعض كبار المثقفين المغاربيين والعرب الديموقراطيين البارزين، الذين لم يفعلوا شيئاً من أجل الجزائر ومثقفيها، رغم أن الجزائر احتضنت عدداً كبيراً منهم، عندما كانوا مطاردين في بلدانهم. وكثيرون استفادوا لسنوات طويلة من الدعم الثقافي الجزائري. فمثقف كيوسف شاهين مثلاً صنعته السينماتيك الجزائرية. ومثقفون مثل أبراهام سرفاتي وعبداللطيف اللعبي وآخرون، أمضى المثقفون الجزائريون سنوات طويلة، يوقعون العرائض من أجلهم، ويتضامنون معهم بكل الاشكال، لما كانوا مسجونين أو مضطهدين. واليوم ماذا يفعل هؤلاء من أجل الجزائر؟ للأسف مواقفهم شعبوية وديماغوجية وغير مشرفة! والكلام نفسه ينطبق على بن جلون الذي كتب عن المافيا في ايطاليا وعن الاضطهاد الديني في سريلانكا، ولم يكتب ولو حرفاً واحداً عن الجزائر!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.