بعد "لعبة النسيان" تجيء رواية محمد برادة الثانية "الضوء الهارب" "منشورات الفنك"، الدار البيضاء، مختلفة كلياً عن سابقتها. في نصّه الجديد الذي نتناوله هنا بالنقد، يتابع الكاتب والناقد المغربي المعروف، بوسائل أخرى، ترصّد مصائر وجودية من خلال الذكريات الهاربة. تَعرّف قراء الرواية في المغرب، وربما في العالم العربي، على محمد برادة من خلال روايته الأولى "لعبة النسيان" أواسط الثمانينات، بعد أن كان اسمه تكرّس في التجربة الثقافية الحديثة في المغرب، كناقد وقاص محمد مندور والتنظير للنقد العربي، سلخ الجلد.... وحظيت روايته هذه باهتمام نقدي لافت، قبل أن تترجم الى الفرنسية أكت سود - 1993 ثم الى الإسبانية في العام نفسه. وها هي رواية برادة الجديدة تصدر أخيراً عن "منشورات الفنك" في الدار البيضاء بعنوان "الضوء الهارب"، لتُستقبَل بالاهتمام نفسه، على مستوى الكتابات والمراجعات النقدية، والطاولات المستديرة والندوات المخصصة لمناقشتها لقاءان في الدار البيضاء: "فضاء الواسطي" و"مكتبة الكرامة"، لقاء في كلية آداب مكناس.... والحقيقة أن رواية "الضوء الهارب" جاءت مختلفة في كل شيء عن سابقتها "لعبة النسيان"، من حيث البناء وطرق السرد ونمط الكتابة الروائية بشكل عام. السرد وتوالد الحكايات في "الضوء الهارب" ثلاث حكايات متجاورة: - حكاية العيشوني بوصفه الشخصية المركزية في هذه الرواية. رسام، من أب اسباني بالتبني، غير متزوج، قدم الى طنجة من ضواحيها وهو ابن السابعة، وعاش فيها حياته كلها مشمولاً بالفن والمتع ولذائذ الحياة. وفي هذا الفضاء كان استقراره، فيه أيضاً نمت حياته وتطورت واتسعت مع الوقت - وهذا هو الاهم - لتشمل مختلف الممارسات الانسانية. وكان أن احتضن نمط الحياة هذا، مع تطور العمر، كمية لا تحصى من الذكريات والاستيهامات والمواقف. - حكاية غيلانة التي تتوالد في النص على امتداد الخط السردي، عبر تداعيات العيشوني عن ماضيه وذكرياته وممارساته في طنجة، بحكم العلاقة التي قامت بينهما. ولكن الحكاية هذه تستقل بذاتها لتعبر، في الوقت نفسه، عن تجربة امرأة واجهت الحياة، وخبرت فيها شتى أنواع المغامرات وحملت عنها، فوق هذا وذاك، مجموعة من الذكريات والتجارب. - وهناك حكاية ثالثة عرضية ومركزية في آن: حكاية فاطمة إبنة غيلانة وحبيبة العيشوني أيضاً. فهي تدخل الى النص من باب الاكتشاف العلاقة التي جمعت بين أمها غيلانة والعيشوني، وهذا هو الجانب العرضي. ولكنها تتحول، من خلال الحكاية التي تقوم بعرضها حول تجربتها الخاصة، الى بؤرة تنطلق منها مجموعة من الوظائف الروائية في تقاطعها مع الوظائف الأخرى الصادرة عن الشخصيتين السابقتين. والحقيقة أن هذه الحكايات الثلاث هي بمثابة مصائر انسانية وجودية، تتلاقى في لحظات معينة وتتفارق في أخرى، ولكنها تشكل، في جميع الأحوال، البناء الروائي الذي احتضن الحدث الروائي، بمختلف تطوراته على امتداد النص. الراوي: سلطة لغوية ندخل الى الرواية عبر صوت الراوي، ينسج العالم المحكي بضمير الغائب. ومن خلال سرده، يبدو هذا الصوت، في مطلق الأحوال، عالِماً بأحوال الشخصيات، وبطبيعة الفضاء الذي تدور فيه الأحداث، ملمّاً بالتطورات المهمّة التي يستقبلها القارئ أثناء عملية القراءة. وللسارد في "الضوء الهارب" سلطة لغوية وحكائية بالغة في صوغ العالم الروائي. لكن هذه السلطة ليست مطلقة، لأنه يشرك الشخصية المحورية في هذه العملية أيضاً، ويوكل اليها بجانب أساسي من هذه المهمّة. فالعيشوني في كثير من أجزاء الرواية يتولى بنفسه مهمة الحكي عن تجربته الوجودية الخاصة. وهذا ما نجده كذلك بشكل واضح مع فاطمة، اذ تحتل حكايتها بضمير المتكلم حيزاً مهماً في الرواية، من خلال رسالة شخصية بعثت بها الى العيشوني من فرنسا. ولا تحرم من هذه الوظيفة، بشكل عام، الا غيلانة. على أن هناك وظائف أخرى لا تنجز في النص، الا بفضل وجود راوٍ يملك قدرة معينة على الإنجاز. من هذه الوظائف ما يتّصل برسم ملامح الفضاء الطنجاوي الذي تدور فيه معظم الأحداث، وبعض مظاهر الاستبطان التي يقوم من خلالها برسم أوضاع وحالات الشخصيات. فضلاً عن السجل اللغوي الذي يكوّن من خلاله الراوي، متنقلاً بين الوصف وسرد، ما يشبه الخيط الحكائي أو المحور العام الذي تنتظم حوله مستويات الرواية، فتترابط أجزاؤها المختلفة في بنية واحدة. لكن هذا الراوي يتماهى، في لحظة ما، مع شخصية العيشوني عندما يصبح الأمر متعلقاً بالطريقة المحتملة لاعادة كتابة النص الروائي. ونجد ذلك على وجه التحديد في آخر ورقة من المذكرات التي تختتم بها الرواية، عندما يفترض العيشوني أن النص المسرود قابل لأن يكتب من منظور مغاير، أو مختلف على الأقل... البحث عن المعنى من هذه الزاوية، يمكن أن نقرأ رواية "الضوء الهارب" كصيغة من صيغ البحث عن المعنى في حياة الشخصيات، وكأسلوب لترميم الكيانات المتصدعة أيضاً. إذ يبدو لنا أن في حياة كل شخصية فواصل وأزمنة ووقائع عاشتها بقدر كبير من الامتلاء والدهشة، ولكنها تفسخت بفعل التطور والتغير. لنلاحظ أولاً أن في اسم العيشوني دلالة مركبة: فهو صفة لوجود شخصي في الرواية، ولكنه، في الوقت نفسه، عنوان لتجربة تطغى عليها المبالغة في العيش. والواقع أن مختلف عناصر النص، تكشف عن طبيعة هذه الدلالة المركبة. فهذا الفنان جعل من الحياة مغامرة، وأمكنه بذلك ان يفوز بمختلف ملذّاتها، ولم يعِ مفارقات هذه الحياة الا حين تحولت الى ذكريات بحكم تقدمه في العمر. والعارض نفسه يظهر لدى غيلانة بصورة أعمق، لأن تجربتها في الحياة كانت أقوى في تناقضاتها وبالتالي فإن استعادتها أشد إيلاماً. ولا اختلاف في أن فاطمة، على صغر سنها، مرت بتجارب حياتية جعلتها تكتشف طعم المرارة هي الاخرى. إن المنحى الروائي العام، على هذا المستوى، يكشف عن تقابل زمني الماضي/ الحاضر وبنيوي الانسجام/ التناقض وحدثي بداية/ نهاية، ويترك المجال متاحاً لاستخراج تقابلات أخرى محتملة. ويمكن العثور على هذا التقابل في ما يرجع الى المكان نفسه. فطنجة مركز السرد، في نهاية الأربعينات والخمسينات طنجة الدولية، لم يبقَ منها في الرواية، بعد ذلك، الا الأطلال الدارسة. بل ان الرواية، اذا احتكمنا الى هذا التقابل في التفسير، تنسج المضمون نفسه: لقد تولّى الراوي سرد جميع وقائع الرواية بطريقته الخاصة، ولكن شخصية العيشوني تقدم طريقة أخرى، ومشروعاً آخر لأسلوب مغاير في السرد. فالبحث عن المعنى المفقود في مثل هذه الأوضاع شبيه بمطاردة الضوء الهارب، والزمن يمكن اختصاره الى هذه الحالة بالذات. ويبدو أن هناك حلماً ما لا يمتزج بالواقع الا لكي يحوله الى سراب. والحقيقة أن الرواية بتقديمها لهذا المعنى الاجمالي، تضع القارئ نفسه في عمق الدلالة المقصودة، أي أن الحياة تجربة إنسانية تعاش من خلال الحلم وتستذكر من خلال الألم، وليس بين اللحظتين، مهما اتسعت بينهما المسافة، الا الذكريات الهاربة.