أعتقد أن كثيرين ممن يشاركونني آرائي سوف يدهشهم عنوان هذا لمقال، وقولي بأن "السوق الشرق أوسطية" وارد ان أتطوع للدفاع عنها!.. ذلك انني كثيراً ما قلت ان هذه "السوق" لا بد أن تعني، في التحليل الأخير، هيمنة اسرائيل - اقتصادياً - على المنطقة.. وهذه مقولة ما زلت أتمسك بها.. ان "السلام"، كما يتصوره شمعون بيريز على سبيل المثال، وكرره مراراً، هو ان تُرفع عن اسرائيل المقاطعة، وأن تفتح لها أسواق الشرق الأوسط، وان تتاح لها فرصة استثمار العمالة العربية الرخيصة، وان يترك لآليتي "السوق"، و"الديموقراطية"، مهمة تقرير مجريات الأمور.. وربما كان المعنى الخفي وراء هذا كله، ان "الهيمنة الاقتصادية" التي سوف تتحقق لاسرائيل بمقتضى هاتين الآليتين، هي الكفيلة بأن تحل محل "احتلال الأرض" سبيلاً لتوفير أمن اسرائيل، وضمان مستقبلها.. ذلك ان "احتلال الأرض" لم يعد مصدر أمن في عصر الصواريخ الخليقة بحمل رؤوس نووية.. هل مثل هذه "السوق" سوف تنطوي فقط على سلبيات؟.. أم انه وارد، وقد أصبحت مطروحة، ان تستثمرها الأطراف العربية لصالحها هي الأخرى؟ ذلك ان السوق سوف تعني اكساب التحدي الاسرائيلي بعداً جديداً، مختلفاً نوعياً، جديراً بأن تتمعنه.. لقد كانت "الهيمنة الاسرائيلية" في السابق تجري مزاولتها بطريق الردع العسكري، وبقدرة اسرائيل على اثبات تفوقها عن طريق الحرب.. أما الآن، فإن هذا التحدي وارد أن نواجهه بكيفية أخرى، أي بطريق الاقتصاد، وفي اطار السلام.. ففيما يختلف التحدي الجديد عن السابق؟ جدير بالملاحظة ان التحدي السابق كان سيفاً مسلطاً أكثر منه ممارسة يومية.. كان التصادم مع اسرائيل، عسكرياً، وعلى ما كان يحدثه من اضرار بالغة، أمراً يتم بصورة دورية، كل بضع سنوات.. وبين الحروب العربية - الاسرائيلية، نشأت حالة وصفت ب "اللاحرب/ لاسلم".. حالة كانت سبباً في التراخي العربي، وفي انتشار القناعة بأن بقاء الحال على ما هو عليه شر أهون من اشعال حرب، كما قد يكون أيضاً شراً أهون من تكلفة السلام سياسياً، أي تكلفة ان تنفتح اسرائيل على المنطقة، وان يسمح لها بالعربدة فيها.. وبدعوى ان حالة "اللاحرب/ لاسلم" هي أقل المخارج سوءاً، نشأت حالة من الاسترخاء، وبخاصة ان فوائض البترول أصبحت تشعر كثيرين في العالم العربي بثروة مفاجئة ضمنت قدراً كبيراً من الرخاء، مما زاد التراخي استشراء. أما الآن، فإن التحدي الاسرائيلي مدعاة للاستنفارالدائم المتجدد، ذلك أنه تحد سوف يصل الى كل بيت عربي، مهما ابتعد عن اسرائيل جغرافياً.. وسوف يصل الى كل بيت بصفة مستمرة، لا بصفة دورية.. لأن التحدي بطريق الاقتصاد، والسوق، هو تحد سوف ينتشر بشكل متكافئ في مختلف أرجاء الأرض العربية، من المحيط الى الخليج.. ان الموانع التي حالت دون وصول اسرائيل الى المناطق النائية في العالم العربي من قبل - أي ما يتجاوز الحد الذي تصل اليه صواريخ اسرائيل وقذائف مدافعها - بسبيلها الى الزوال. وهكذا سوف تختفي احدى سمات "النظام العربي" السائدة حتى الآن.. سمة ان هناك دول المواجهة التي تتحمل أعباء المواجهة العسكرية مع اسرائيل، بينما هناك دول أخرى لا تتاخم اسرائيل، ولا تتعرض بشكل مباشر لاثار المواجهة العسكرية معها.. دول قد تجد في تماديها ولو لفظاً في الذود عن الحق العربي، وبأكثر الصياغات تشدداً، ما من شأنه تأكيد انتمائها للقضية القومية رقم واحد - القضية الفلسطينية - علاوة على فضل هذا النهج في ترسيخ شرعيتها، دون تحميلها تضحيات مضافة. هكذا حملت المواجهة العسكرية مع اسرائيل - ضمناً - معنى حرصت الأطراف العربية جميعاً على تحاشي التطرق له علناً، هو السماح بنمو شرخ داخل الأمة العربية. شرخ بين الدول التي وجدت نفسها متصدية مباشرة لاسرائيل ومضطرة الى تفضيل الحلول الأكثر "واقعية"، و"مرونة"، خروجاً من مأزق حالة "اللاحرب واللاسلم".. وتلك التي رأت في رفع أكثر الشعارات القومية تطرفاً ما من شأنه تعزيز شرعيتها، بفضل الظهور بمظهر من لا يهاود بشأن القضية القومية الكبرى. ولكن الآن وقد أصبحنا بصدد مواجهة هذا التحدي بطريق الاقتصاد، وبطريق "السوق الشرق أوسطية" فإن المنتجات الاسرائيلية، ومنجزات التكنولوجيا الاسرائيلية - خلافاً لصواريخها وقذائف مدافعها - سوف تصل الى كل بيت عربي، وكل بلد عربي، دونما نظر الى قربها أو بعدها من اسرائيل جغرافياً.. أي دون تمييز. بل ان وضع اتفاق غزة - أريحا موضع التطبيق انما ادخل جديداً آخر في المعادلة.. ذلك ان هناك ما يبرر التوجس بأن أموالاً كثيرة من تلك التي سوف تتدفق على الكيان الفلسطيني الوليد، من قبل أطراف دولية شتى، انما هي أموال لاسرائيل كلمة مسموعة - وربما حتى فاصلة - في تدبيرها، مما يعني انها أموال لاسرائيل السيطرة عليها، حتى اذا ما بدت، في أسواق الشرق الأوسط، أموالاً فلسطينية! وهنا يثور سؤال خطير: هل جاز ان تقاطع الأطراف العربية أموالاً فلسطينية؟ ثم، وفي ضوء انجاز اتفاق غزة - أريحا، هل بات بوسعها التمييز بينها وبين الأموال الاسرائيلية؟ ان مواجهة هذا التحدي قد تصبح مدعاة لتقارب عربي/ عربي. بدلاً من أن تكون - كما كانت من قبل - سبباً في ظهور شروخ. وزيادتها تصدعاً، في حائط "الصمود" العربي.. طبعاً، لا نملك الادعاء بأن هذا التحدي لا بد ان يفضي حتى الى تقارب بين الأطراف العربية.. ذلك ان هذا الطرف أو ذاك قد يفضل التعامل رأساً مع اسرائيل، وقد يتصور أن انفراده بالتعامل معها كفيل بتحقيق مزايا أفضل من تلك الوارد تحقيقها عن طريق الالتزام بنهج "التضامن" وثمة شواهد تبرر طرح اسئلة في هذا الصدد: لماذا، على سبيل المثال، قبلت الدول العربية مبدأ مؤتمر مدريد الذي ألزمها بأن تفاوض اسرائيل كلاً على حدة؟ هل لأن هذه الأطراف كانت مغلوبة على أمرها؟ أم ان هذه الأطراف قد رأت هي نفسها، بعضها، أو كلها، ان مصلحتها قد تقضي باجراء المفاوضات على هذا النحو؟! لقد حان الوقت كي يكون للبنوك المركزية دور في درء أخطار "سوق" وارد ان تكون لاسرائيل الكلمة العليا فيها.. وقد حان الوقت - ربما أيضاً - للتفكير في عملة عربية واحدة، على غرار عملة المجموعة الأوروبية "الإيكو" في مواجهة "الشيكل" الاسرائيلي.. ثم علينا أن ندرك أن هناك حواراً مصيرياً يجري في اسرائيل الآن، حول هل على اسرائيل ان تراهن مستقبلاً على أسواق الشرق الأوسط، وما توفره من عمالة رخيصة، وبكميات وفيرة.. أم على اسرائيل، على العكس، أن تبني مستقبلها على الصناعات البالغة الرقي High Teck القليلة العمالة. بصفتها جزءاً لا يتجزأ من العالم المتقدم، وحتى يكون في مقدورها المشاركة في أسواق المنطقة بالقدر الذي تقرره هي، وفي الوقت الذي يواتيها فقط مما يزيد تحديها حدة. لقد قصدت بقولي ان السوق الشرق أوسطية قد تكون جديرة بأن ندافع عنها، على الرغم من أن المتوقع هو هيمنة اسرائيل عليها، من منطلق انها - ربما - قد توجد ظروفاً أكثر الزاماً بتقارب عربي / عربي.. وبروز هذا التقارب كضرورة تمليها نوعية جديدة من التحدي.. ان التعامل رأساً مع اسرائيل سوف يلزمنا بنوعية جديدة من التعامل فيما بيننا.. ان مخاطبة الغير بلغة غير المدافع سوف يلزمنا بمخاطبة أنفسنا بطريقة أكثر جدية.. فهل نتصدى للتحدي.. قبل فوات الاوان؟ * كاتب وصحافي مصري.