بعد يومين على وفاة فيليكس هوفويت بوانيي رئيس جمهورية ساحل العاج الكهل حضر رجل الى ساحة القصر الجمهوري في العاصمة وألقى خطاباً أمام مستمعين من المارة ختمه بقوله: "بعد موت بوانيي لا أجد سبباً للبقاء على قيد الحياة". وعلى الأثر ألقى الرجل بنفسه في بحيرة مجاورة تتجمع فيها "التماسيح المقدسة" في عرف السكان. ساعتئذٍ أيقن المارة ان الرجل لا يهذي وأنه يعني ما يقول. اقتربوا من البحيرة وشاهدوا عن كثب تمساحاً ضخماً يُقطِّع الرجل إرباً تلتهمها تماسيح أخرى. عشية وفاة بوانيي كانت افريقيا السوداء الفرنكوفونية، تستعد لالقاء نفسها مكرهة، لتماسيح المؤسسات المالية الدولية وبصورة خاصة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. ليس حزناً على الرئيس العاجي، عميد حكام افريقيا السوداء، بل يأساً من جحود فرنسا الأم الحنون لهذه الدول. هنا اكتشف رؤساء 14 دولة فرنكوفونية أن الحياة باتت مستحيلة بعدما قررت باريس "فطم" حلفائها الأفارقة وبالتالي التوقف عن "إرضاعهم" بالمساعدات المالية من جهة وحمايتهم من تماسيح "البنك الدولي وصندوق النقد" من جهة أخرى. هكذا التقى ممثلو 14 دولة تنتمي الى منطقة الفرنك الفرنسي، في "داكار" عاصمة السنغال في 11 كانون الثاني يناير الماضي وقرروا تخفيض قيمة الفرنك الافريقي C.F.A بنسبة 50 في المئة الفرنك الافريقي كان يساوي 2 سنتيم فرنسي. والدول التي اتخذت هذا القرار الأول من نوعه منذ العام 1948، هي: مالي وبوركينا فاسو والنيجر والسنغالوساحل العاج والتوغو وبنينوتشاد وغينيا الاستوائية والغابون وجمهورية افريقيا الوسطى والكونغو والكامرون وجزر القمر. قبل اتخاذ هذا القرار كانت فرنسا قد بعثت برسائل صريحة لقادة هذه الدول مفادها انها إذا لم تسو خلافاتها مع المؤسسات المصرفية الدولية فانها ستحرم من المساعدات الفرنسية. وتسوية الخلافات تتعلق بالديون الخارجية وإعادة جدولتها، وفي كل مرة يُطرح موضوع من هذا النوع أمام الهيئات المالية الدولية، يكون جوابها التقليدي: تخفيض سعر العملة الوطنية وخفض الانفاق العام، ورفع الدعم عن السلع الضرورية، باختصار دفع الدولة المديونة الى "تقليع شوكها بيدها". وبما أن الأنظمة السياسية في هذه الدول تقوم على تمويل الحكم بواسطة الموظفين والجيش والرشوة والبخشيش وبواسطة العجز الدائم في الموازنة والاستدانة لسد العجز وطلب المساعدات الخارجية للوفاء بالديون... باختصار بما أن الحكام في هذه الدول يدورون في حلقة اقتصادية مفرغة ويرتبط مصيرهم بالمساعدات الخارجية، والفرنسية بصورة خاصة، فإن تخفيض قيمة العملة الوطنية يعني حرفياً: القاء الحكام والدول المعنية الى التماسيح. صاعقة أخرى بالرغم من قساوة هذه الخطوة وسقوطها كالصاعقة على رؤوس الحكام الأفارقة، ظل البعض منهم يعتقد أنه بالامكان الاستناد الى فرنسا القادرة دائماً على انقاذ من ترغب من فم "التمساح" لأنها تملك الوسائل اللازمة ان هي أرادت ذلك. لكن المتفائلين من زعماء الدول الأفريقية صدموا مرة أخرى بعد شهر من قرار تخفيض الفرنك الافريقي، وذلك عندما باعت الدولة الفرنسية شركة النفط الوطنية "ألف أكيتان" الى القطاع الخاص، و"ألف" تعتبر في افريقيا بمثابة "مصرف" يحتفظ فيه الحكام الأفارقة برصيد لا ينضب وهي تكاد أن تكون الحاكم الفعلي في الدول المذكورة، ما يعني أن بيعها للقطاع الخاص سيفرض عليها أن تتعامل مع الدول الافريقية بوصفها أسواق وليست دولاً حليفة. في الحالتين، أي تخفيض قيمة الفرنك الافريقي وبيع "ألف" للقطاع الخاص، رغبة رسمية فرنسية بالتخلي عن إعالة دول وحكام باتوا يشكلون عبئاً ثقيلاً على الخزينة الفرنسية التي تعاني أصلاً من أعباء الأزمة الاقتصادية التي تضرب البلاد منذ فترة ما بعد حرب الخليج. ويخشى الحكام الأفارقة أن تتوالى الخطوات المماثلة وان تستمر باريس بالتخلي عنهم فرادى، بعدما تخلت عنهم جماعة، وآخر المبادرات التي اتخذت في هذا السياق، تتصل بتخفيض المساعدات العسكرية ل "الغابون" خصوصاً ما يتعلق بدعم الوحدات الجوية والبحرية الغابونية الأمر الذي لن يدخل السرور الى قلب الرئيس عمر بونغو المصنف بين أقرب الحلفاء الأفارقة الى "الأم الحنون"، هذه الأم التي قد تقطع أو تخفض المساعدات العسكرية عن أفريقيا الوسطى أو تشاد. ألم تنتهِ الحرب الباردة ومعها دور القواعد العسكرية في الخارج؟ قبل تسارع إيقاع المبادرات السلبية الفرنسية تجاه افريقيا كانت الرساميل الغربية تهجر الأسواق الافريقية نحو الأسواق الجديدة التي فتحت في أوروبا الشرقية بعد انهيار الامبراطورية السوفياتية ويصف أحد الزعماء الأفارقة هذه الحركة بقوله "لقد أصبحنا كسيدة عجوز سوداء تكسو وجهها التجاعيد وغير قادرة على منافسة شابة شقراء جميلة ونضرة الخدود اكتشفها الرأسمال الغربي في أوروبا الشرقية". فهل أصبحت افريقيا عجوزاً تعيش أيامها الأخيرة بلا راتب تقاعدي ولا ضمانات اجتماعية؟ وهل تتخلى فرنسا نهائياً عن هذه القارة التي كانت تعتبر حتى الأمس القريب موقعاً استراتيجياً بالنسبة للسياسة الخارجية الفرنسية؟ لقياس المخاطر التي تحيط بالقارة الافريقية لا بد من التذكير بالحالة التي كانت قائمة قبل اتخاذ القرارات الفرنسية الأخيرة. بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت الجمهورية الرابعة، تسود فرنسا، وكانت هذه الجمهورية حارساً أميناً لاحلام العظمة الفرنسية، وقد انتهجت سياسة خارجية تقضي بتوطيد العلاقات الاقتصادية مع المستعمرات الفرنسية في الخارج بحيث تظل هذه المستعمرات خاضعة للارادة الفرنسية ومرتبطة بالمصالح الفرنسية إذا ما نالت استقلالها. في هذه الفترة بالذات تم وضع النظام النقدي الفرنكوفوني ووضعت صيغة الفرنك الافريقي الذي لم تتغير قيمته منذ العام 1948، وهذا الاستقرار هو الذي سمح باستقرار العلاقة بين فرنسا ومستعمراتها الافريقية السابقة، وكانت دوافع هذه العلاقة سياسية واقتصادية في آن. المنجم الافريقي في الجانب السياسي لا حاجة للتذكير بأن افريقيا السوداء كانت على الدوام سنداً للسياسة الخارجية الفرنسية في فترة الحرب الباردة، وفي الهيئات التمثيلية الدولية، كما كانت في السابق مصدراً مهماً للجيوش الفرنسية ولليد العاملة الرخيصة. وفي الجانب الاقتصادي المحدد شكلت افريقيا مصدراً مهماً للمواد الأولية والتجارة المرتبطة بها. هنا كانت فرنسا سيدة الموقف في تجارة الكاكاو والبن والقطن والمعادن. وهي ما زالت حتى اليوم سيدة الموقف بالنسبة للنفط. الأرقام لا تخطئ في هذا المجال. تكفي فقط نظرة سريعة على انتاج للشركة "ألف" من النفط عام 1993. فقد استخرجت الشركة 30.8 مليون طن من النفط الخام في كل مناطق تواجدها من بينها 20.8 مليون طن من افريقيا وحدها. وتأتي في الطليعة الغابون: 7 ملايين طن ثم نيجيريا 4.7 ملايين طن والكونغو 3.9 ملايين طن وأنغولا 1.6 مليون طن.. الخ. بالاضافة الى ذلك تتولى "ألف" توزيع المحروقات في 12 بلداً افريقياً وهي توفر سبل البقاء لموازنات هذه الدول بفضل الضرائب التي تدفعها ولعل الموقع الحيوي الذي تحتله الشركة جعل من مديريها السابقين حكاماً سريين في العديد من الدول الافريقية وكان بعضهم يحتفظ بعلاقات وثيقة مع جهاز المخابرات الفرنسي كما هي حالة المدير الأسبق بيار غيوما 1966 - 1977 الذي عمل مع الاستخبارات الديغولية في لندن خلال الحرب العالمية الثانية، وغالباً ما كانت الشركة تموّل حركات مناوئة للحكام المحليين الذين يظهرون استياء من سياستها أو يتمردون على السياسة الخارجية الفرنسية. هكذا موّلت الشركة العميل الفرنسي المعروف بوب دينار الذي كان يعمل مستشاراً للرئيس الغابوني عمر بونغو، ودفعته للتخطيط لانقلاب عسكري ضد النظام الماركسي السابق في بنين. وليست وضعية الشركة في افريقيا ونشاطاتها من الأسرار المحفوظة في فرنسا إذ لا تكف وسائل الاعلام المحلية عن الحديث عن الأدوار التي لعبتها ألف في هذه الدولة الافريقية أو تلك، فأحد مدراء الشركة المحليين يتجول في كل القصور الرئاسية الافريقية وكلمته مسموعة لدى الكبار والصغار من الحكام وهو يحتفظ بعلاقات وثيقة مع الشخصيات المعارضة التي تأمل بتسلم الحكم يوما. باختصار يمكن القول ان هذه الشركة تعتبر دولة جدية على مستوى القارة يهابها الحكام ويتعاملون معها بوصفها مركز السلطة الفرنسية المحلية. ولا يقاس نوع العلاقات الوثيقة بين باريس والدول الافريقية بهذا الجانب وحده وانما أيضاً بنوع العلاقات القائمة بين قصر الاليزيه وقصور الرؤساء الأفارقة، حول هذا الجانب يروي ديبلوماسي فرنسي من الذين عملوا طويلاً في القارة، ان "رؤساء هذه الدول يحتاجون الى حضانة سياسية دائمة. وهم يفرطون في الاتصال بقصر الاليزيه لأسباب قد تكون أحياناً سخيفة" ويضيف: "غالباً ما ينتشر مضمون محادثة هاتفية بين الاليزيه ورئيس احدى الدول الافريقية، غالباً ما ينتشر في القارة كلها وفي وقت قصير، حيث تعوّد الرؤساء أن يهتفوا لبعضهم البعض كلما تعلق الأمر بموقف فرنسي أو بتصريح فرنسي...". ويعطي الديبلوماسي مثالاً على ذلك من خلال الأزمة التي اندلعت بين موريتانيا - والسنغال عام 1989 بسبب خلاف حدودي تطور الى نزاع وثني بين البلدين. أثناء الأزمة كانت باريس مضطرة الى إرسال مبعوثين الى البلدين في وقت واحد، يصرحان بالكلمات نفسها كي لا يفسر الأمر وكأنه انحياز فرنسي لصالح طرف على حساب آخر، ذلك ان الزعماء الأفارقة "يفرطون في الانتباه الى كلمات التصريحات والمواقف الفرنسية" على حد تعبير الديبلوماسي نفسه. تلك هي بعض ملامح العلاقة القائمة بين افريقيا الفرنكوفونية وفرنسا، فهل ستدخل هذه العلاقة منعطفاً جديداً بعد الاجراءات الأخيرة؟ في فرنسا يقولون ان الاجراءات الاخيرة لا تهدف الى التخلي عن أفريقيا وإنما الى دعم أفريقيا بوسائل اخرى. وقد أكد رئيس الوزراء ادوارد بالادور مؤخراً: "ان اقتصاديات هذه البلدان ليست مهيئة للانخراط بفعالية مع التطورات التي شهدها الاقتصاد العالمي" وانه لا بد من مساعدة الافارقة على جعل اقتصادياتهم ملائمة للشروط الاقتصادية العالمية. والواقع هو ان العلاقة بين فرنسا ومستعمراتها السابقة لم تكن يوماً تقاس بوسائل اقتصادية وإلا لما تحركت القيادات العليا في الدولة الفرنسية بكاملها لحضور مراسم تشييع الرئيس العاجي هوفويت بوانيي، فقد كان بين الحضور رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس البرلمان ورئيس مجلس الشيوخ والرئيس السابق فاليري جيسكار ديستان والزعيم الديغولي جاك شيراك وثمانية من رؤساء الوزراء السابقين. ولم يسبق ان تم تمثيل الدولة الفرنسية بهذا الحجم في مأتم زعيم سياسي أجنبي. إن قياس العلاقات الافريقية - الفرنسية بمقاييس اقتصادية بحتة وفق التصور الذي وضعه رئيس الوزراء ادوارد بالادور، ومحاولة فرض علاقات السوق وحدها على هذه العلاقات، يحمل معنى أكيداً ان باريس قررت التخلص ولو بصورة متأخرة من إرثها الاستعماري الأفريقي، وذلك تحت وطأة الركود الاقتصادي الداخلي، وفي ظل المتغيرات الدولية التي لم تعد تفترض دوراً استراتيجياً للدول الأفريقية المعرضة للأوبئة والأمراض والجوع والتي فقدت المواد الأولية الاستراتيجية فيها باستثناء النفط أهميتها المطلقة ناهيك عن إفلاسها وأعباء الديون المترتبة عليها والمشاكل السياسية المعقدة التي تشكل الخبز اليومي في حياتها. افريقيا هذه التي بقيت على حالها السياسية، لم تعد تجذب فرنسا. فقد تحولت الى عبء على المركز "المتروبول" الفرنسي في عالم تسعى فيه القوى الاقتصادية النافذة الى التخلص من أعبائها الثقيلة وتخفيف وزنها للتمتع بقدرة أكبر على المنافسة. القارة لمصيرها والتخلص من الأعباء الافريقية يعني بالنسبة لدول القارة أنه عليها ان تقلع "شوكها بأيديها" وهي بدأت تفعل ذلك. فالمظاهرات التي اندلعت في العديد من الدول الافريقية احتجاجاً على انخفاض قيمة الشراء للفرنك الافريقي وارتفاع التضخم وضآلة المساعدات الخارجية وارتفاع اسعار المواد الاساسية المستوردة، هذه المظاهرات قمعت بطريقة دموية، دون ان يشكل ذلك فضيحة داخلية في فرنسا، كما كان يحصل في السابق. ففي بلد كالسنغال شهد مظاهرات عنيفة، عمدت الحكومة على أثرها الى اعتقال زعيمي المعارضة في البلاد دون ان يصدر تصريح فرنسي واحد يدين هذه الخطوة مما يعني ان باريس تريد فعلاً التخلي عن افريقيا وحصر علاقاتها معها في اطار السوق... والسكوت عما يحدث فيها من ردود فعل دموية ناتجة اصلاً عن قرارات اتخذت في باريس. في حديث خاص اكد أحد المفكرين الفرنسيين المتعاطفين مع افريقيا ان هذه القارة تواجه الفناء الحقيقي: فمن يبقى حياً من أبنائها بعد انتشار الايدز، سيموت جوعاً بسبب التصحر والجفاف وهجرة الرساميل. لقد ألقت فرنسا بحلفائها الأفارقة الى "التماسيح" ولم تترك لهم حرية الاختيار... ربما لأنهم لم يهتموا يوماً بجدوى الاختيار.