يحمل الرئيس كلينتون في رحلته الى افريقيا ملفاً بالغ الضجيج يتحدث عن دعم البلدان ذات السياسات والاقتصادات المفتوحة، المنخرطة في اصلاحات الاقتصاد حسب مبادئ السوق، والمنهمكة في تنظيم انتخابات سياسية، ولو محدودة، بين الحين والآخر، والتي تحظى بسجل غير بالغ السوء ازاء احترام حقوق الانسان. رحلة كلينتون هذه، والتي تشمل دولاً افريقية ستاً، تتوج سياسة جديدة للولايات المتحدة، ربما تكرست عملياتياً بجولة وزير الخارجية السابق وارن كريستوفر على افريقيا في كانون الثاني يناير من العام الماضي، وهي سياسة تقطع مع ما انتجه التدخل الأميركي في الصومال من توجه شبه عام في الولاياتالمتحدة، رسمي وغير رسمي، يقول بضرورة الابتعاد عن هذه القارة وعدم التورط في مشاكلها، سيما وقد خسرت ميزتها الاستراتيجية كأحد مسارح الحرب الباردة، ولا تتمتع في المقابل بأية اغراءات تجارية أو غيرها قد تعوض تلك الخسارة. زيارة كلينتون بمحطاتها في غرب القارة وشرقها وجنوبها ترسم مثلثاً استراتيجياً يشير الى أبعد مما يحمله الملف المعلن عنه والمتحدَث عنه كثيراً فالمحطة الغربية الافريقية تتضمن زيارة السنغال وغانا. والأولى هي مركز دول اقليم غرب افريقيا، وموئل الفرانكوفونية تاريخياً وجغرافياً، ووضعها على رأس جدول الزيارات يعني مناكفة فرنسا في عقر دارها الافريقي، في وقت تعاني السياسة الفرنسية - الافريقية من ارتباك وأزمة حقيقية سواء في غرب القارة أو في بقية اجزائها فالسنغال وبقية الدول الفرانكوفونية المنخرطة في العملة الموحدة CFA، المرتبطة مع، والمدعومة من الفرنك الفرنسي، تتساءل عن مصير عملتها عندما يختفي الفرنك عشية صدور اليورو الأوروبي الموحد، وهي لا تلقى من فرنسا سوى الغموض والتهرب، ما يثير التخوفات والشكوك في العواصم الافريقية. يعمّق هذه الشكوك، الغاء باريس لأهم وزارة مناط بها تقديم وادارة المساعدات الى افريقيا وهي وزارة التعاون. ويذكر هنا ان عدداً من الدول الافريقية الصغيرة، في غرب ووسط القارة، لم يكن باستطاعتها الاعلان عن موازنتها السنوية قبل ان تعلن تلك الوزارة عن "المخصصات" السنوية والمساعدات التي ستذهب الى تلك البلدان، بما يشير الى أهمية ومركزية تلك المساعدات. يضاف الى ذلك كله، برنامج تخفيض الوجود العسكري الفرنسي في القارة، وهو جارٍ على قدم وساق منذ سنة ونصف السنة تقريباً. اما محطة الرحلة الرئيسية في الشرق، فتتمثل في أوغندا، وهي حالياً الرهان الأميركي الأول في القرن الافريقي، فطموحات رئيسها موسوفيني، وحماسته للقيام بدور شرطي المنطقة، واظهاره شجاعة زائدة في مناكفة السودان، خطباً للود الأميركي استراتيجياً، وقطفاً للمساعدات المالية اقتصادياً، يتقاطعان مع الرغبة الأميركية في اعادة رسم خطوط التحالفات والأنظمة الموالية هناك، واعتماد ركائز اقليمية، وعلى رغم ان السجل الأوغندي في الديموقراطية، وحتى في لبرلة الاقتصاد ليست بأفضل حالاً من السودان، الا ان الدور الوظائفي المؤمل اميركياً من كمبالا في المستقبل القريب، يسمح لها بهامش واسع من تجاوز الاشتراطات الأميركية المعلنة عنها. اما الاختبار الأصعب لرحلة كلينتون فيبقى في الجنوب الافريقي، فهناك تتقدم اقتصادياً وتنموياً مجموعة من الدول تنبئ بنمو أسواق مستقبلية مهمة بوتسوانا، سوزيلاند، ناميبيا، بالاضافة الى جنوب افريقيا. ومع ذلك، فالمركز الاقليمي لهذه المنطقة جوهانسبورغ، لا يشعر بحماسة شديدة لأي ترسيمات أميركية جديدة على ايقاع استراتيجية تحالفات موالية ومضادة. بل يمكن القول بأن واشنطن ومانديلا تحديداً لا يعيشان في حال وئام. فمانديلا لا يفتأ يصرح بانتقاداته للسياسة الأميركية التدخلية والاملائية في القارة جزئياً على خلفية استقدام كابيلا في الكونغو ويدعو الى سياسة جماعية افريقية مستقلة، وهو أيضاً لا يأبه بأية اعتراضات أميركية على أية خطوة يقتنع بالقيام بها كزيارته ليبيا. وهذا بالطبع لا يثير السرور في واشنطن. ومهمة كلينتون تكمن في الأمل بترويض السياسة الخارجية لجنوب افريقيا، والتحدث براغماتياً عن الفرص الكبيرة للتعاون التجاري المتبادل بما يخفف من حدة السياسة المستقلة لجوهانسبورغ، ولضمان عدم التعارض معها مستقبلاً. وبالاجمال، فالتقدم الأميركي على زوايا المثلث الافريقي، كما تجمله الرحلة الكلينتونية الفريدة، لا يوازيه سوى تقهقر اية قوة منافسة عن مسرح القارة. فالروس ليس لهم أثر عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، وفرنسا المرشح الوحيد للمنافسة، تقلص وجودها، عسكرياً واقتصادياً، فيما على الهواء تشبع الولاياتالمتحدة قذفاً وتشتيماً لغوياً وثقافياً.