لم يمر سائح أو زائر، عربي أو غربي على القاهرة الا وتوقف لحظات في حي خان الخليلي المتفرع من ميدان الأزهر لكي يمسك بنسمات الماضي، ويقتني مشتريات تعكس براعة الصانع المصري، لا سيما في الطَرق على النحاس والمشغولات الفضية والجلدية. وهذا الحي الذي اكتسب سمعة دولية مهدد حالياً بالاندثار، وربما تصبح حوانيته مجرد ذكرى بعدما قام بعض الأثرياء بشراء العقارات التي تقع تحتها الورش الصناعية، وقرر هؤلاء التجار هدم العقارات الأثرية القديمة، وبناء ناطحات سحاب مكانها. فهل دار الزمن وغدر بحي خان الخليلي؟ لن يدرك أحد أهمية هذا السؤال الا إذا عرف ان حوانيت الخان عمرها ستة قرون، تعرضت خلالها الى حرائق وانهيارات، غير أن باقي عقاراته تحملت ويلات الزمان، وبقيت شاهدة على حضارة اسلامية وصناعة مصرية... هذه العقارات مهددة الآن ليس بفعل عوامل لا إرادية كالحرائق أو الزلازل، وانما بفعل "فاعل"، او كما يقول عبده السرجاني صاحب محل عاديات في الخان: لقد استطاع أحد ملاك العقارات في الخان ان يحصل على حكم قضائي بهدم عقار يملكه، بينما قام أحد الأثرياء بشراء مربع كامل ببضعة آلاف من الجنيهات بهدف بيعه بالملايين، أو هدمه وبناء عمارات شاهقة مكانه. هذا المربع - يقول السرجاني - يقع على مساحة 1500 متر، ويضم 14 ورشة يعمل فيها ألفا عامل، والمشكلة الأكبر ليست تشريد العمال والصناع فقط، وانما هدم هذه العقارات سيؤدي بالضرورة الى هدم عقارات أخرى ملاصقة، كما يشجع أصحاب العقارات القديمة على هدم ما يملكون من ورش للاستفادة من الأرض سواء ببيعها في المزادات العقارية، أو بناء مساكن حديثة مما يشوه الطابع المعماري لحي خان الخليلي. ويشير سعيد عبدالمنعم أحد تجار الخان الى ان هناك حالات تحايل على القانون واستغلال تضارب الاختصاصات بين ثلاث جهات لها حق الاشراف على الخان، وهي هيئة الآثار ووزارة الأوقاف ومحافظة القاهرة، وعلى سبيل المثال فإن احد أصحاب العقارات حصل على حكم قضائي في العام 1975 بهدم العقار بدعوى عدم سلامته، رغم ان صاحب العقار كان المتسبب في الاضرار به، وبعد حصوله على الحكم القضائي أخفاه لمدة عامين حتى تنقضي فترة الطعن، ورغم ذلك - يقول عبدالمنعم - قام تجار الخان بالطعن في القرار واستجابت هيئة المحكمة، وكسبنا القضية. غير أن صاحب العقار استأنف وبقي موضوع العقار في المحاكم حتى صدر حكم جديد لصالح صاحب العقار. أقوى من الزلزال ويقول تاجر آخر هو سعيد بيومي: ان أصحاب العقارات في الخان يعبثون فيه حتى تنهار ويستفيدون من الأرض ضاربين عرض الحائط بالطبيعة العمرانية للمنطقة ومصالح أصحاب الورش والعمال، ورغم هذا العبث المستمر فإن عقارات الخان تحملت الزلزال الذي ضرب مصر في تشرين الأول اكتوبر 1992. ولم يتهدم أي عقار، لكن أغلب العقارات يحتاج الى ترميم لكي يواجه تأثيرات الزمن والاهمال، وهذه مسؤولية هيئة الآثار طبقاً للقرار رقم 117 الصادر في عام 1983 والذي ينص على أن أي مبنى مر عليه أكثر من مئة سنة يعتبر أثراً، ولا يجوز هدمه. كما ينص القانون رقم 250 على ان أي عقار في منطقة أثرية، أو مجاور لأثر، رأى المختصون ان هدمه سيؤثر على الآثار يبقى المبنى من دون هدم... والمفارقة هنا هي ان أصحاب العقارات في الخان يريدون هدمها بعد أن ارتفع سعر المتر الى أرقام خيالية. ومعروف ان أغلب عقارات الخان من طابق واحد "أو طابقين" على الأكثر. وكان حي خان الخليلي تأسس في العام 1400 تبعاً لمنشئه الخليلي الذي كان "امير اخور" السلطان برقوق، وهو عبارة عن مبنى مربع كبير يحيط بفناء ويشبه الوكالة، وتشمل الطبقة السفلى منه الحوانيت، وتضم الطبقات العليا المخازن والمساكن، ووفقاً للمستشرق ادوارد لين في كتابه "المصريون المحدثون - عاداتهم وشمائلهم" فإن خان الخليلي هو أحد أسواق القاهرة الرئيسية في عهد المماليك، ويقع وسط المدينة القديمة ويقوم على المكان الذي شغلته مقابر الخلفاء الفاطميين سابقاً، وكان المعز الدين الله الفاطمي استحضر معه من القيروان توابيت ثلاثة من أسلافه ودفنهم في مقبرته حيث دفن هو وخلفاؤه ايضاً. حرائق لها تاريخ وكانت أسواق القاهرة القديمة ومن بينها خان الخليلي مسقوفة وبقي منها حتى الآن شارع الخيامية. وكانت أسقف الأسواق تمنع حرارة الشمس والمطر والبرد في الشتاء، لكن خان الخليلي تعرض الى أربعة حرائق في النصف الأول من هذا القرن، حيث أكلت النار الأسقف الخشبية المزخرفة على طريقة "الأرابيسك"، ونظراً لوجود ورش صناعة التحف النحاسية التي تستخدم النار في صهر النحاس لكي يسهل طرقه قبل النقش عليه. فإن هذه الورش تعرضت غير مرة الى حرائق رهيبة، كان آخرها في عام 1986، عندما انطلقت شرارة من احدى الورش، واندلعت النار بالسقف وفي أقل من ساعة التهمت النيران 13 ورشة اضطر اصحابها الى هجرها والانتقال الى ورش أخرى في حي الموسكي القريب. خان السياحة ويتخوف محمد شميس صانع من تعرض حي خان الخليلي الى الاختفاء بسبب زحف العمارات الاسمنتية الشاهقة محل الورش والمحلات التجارية التي تنتشر في شوارع الخان الضيقة، ويقول: لقد ورثت مهنة الطرق على النحاس وتشكيله برسومات فرعونية عن والدي وجدّي، ورفضت عرضاً بالسفر الى تركيا لأنني أحب مهنتي وقد علمتها لأولادي، ورغم ذلك أشعر بالقلق لأن أصحاب الورش يبحثون عن طريقة لهدمها والاستفادة من الأرض لبناء عمارات أو ناطحات سحاب، لا سيما وقد ارتفع سعر المتر في الخان الى أرقام خيالية، لكن الخان هو أحد عناصر الجذب السياحي لمصر، كما أنه يساهم في انعاش الاقتصاد المصري من خلال ما يدفعه السياح العرب والأجانب لشراء منتجات الخان التي لها شهرة عالمية سواء المسابح أو المشغولات النحاسية والذهبية والفضية المصنوعة يدوياً. وعلى رغم ان قانون الآثار المصرية يمنع أصحاب حوانيت وورش خان الخليلي من هدمها الا ان القانون يقف جامداً اذا تهدمت الحوانيت، ففي هذه الحالة من حق صاحب الأرض التصرف فيها... وهنا تكمن الخطورة.